الثلاثاء، 4 أبريل 2017

سبع قصائد

للشاعر الروسيّ: يفيجيني إيفتشنكو
ترجمة: محمد عيد إبراهيم



حوارٌ  مع كاتبٍ أمريكيّ
"تملِكُكَ الشجاعةُ"، بلَّغوني.
وليسَ كذلكَ. فلم أكُ قَطّ شجاعاً.
كنتُ أحسّ، ببساطةٍ، من غير  اللائقِ
أن أنقَضّ على جُبنِ زملائي.
*
لم أُزعزع  أيّ معتقداتٍ.
لكني هزأتُ بالمزاعمِ والمنفوخين.
سَطّرتُ مقالاتٍ. ولم أدوّن اتّهاماتٍ.
وجَرّبتُ أن أتكلّمَ عمّا في بالي.
*
نعم، دافعتُ عن الموهوبين،
وصنّفتُ الخارقين، الواعدين.
وهو، عموماً، ما يتوجّبُ أن نفعلَه؛
معَ ذلكَ ظلّوا يكبحونَ شجاعتي.
*
ستحترق، آهٍ، سُلالتُنا، من عارها اللاذع،
ونتذكّر، بعدما نُعاقَب، بأفعالنا المشينةِ،
في ذلكَ الزمنِ الأعجَبِ،
أن نسِمَ الأمانةَ باسمِ "الشجاعةِ". 


لا تتوارَوا
لا تتوارَوا... بتواريكم عني،
توارون أنفسَكم،
تخونون أنفسَكم،
وتلكَ أحَطّ الخياناتِ.
*
لا تتوارَوا... فتواريكم سهلٌ يَسِير
يستحيلُ أن يُحيي أحدكُم الآخرَ
فالموتُ يسحَبنا عميقاً.
الموتُ، وإن لحظةً، طويلٌ، طويل.
*
لا تتوارَوا... وانسَوا ثالثَ الظلّ
في الحبّ ليسَ غيرُ  اثنَين. لا ثالثَ لهما.
سنصبحُ أنقياءَ يومَ الدينونةِ،
حينَ يدعونا النّفيرُ  إلى الحسابِ.
*
لا تتوارَوا... سنفتدي خطايانا.
ونتحرّر من الناموسِ.
نستحقّ كلاًّ المغفرةَ
ممّن جَرحناهم عامِدين.
*
لا تتوارَوا... قد يتوارَى المرءُ بُرهةً، 
لكن، كيفَ نلتقي ساعتئذ بعدَ قرونٍ؟
هل قَرينكَ في هذا  العالمِ،
وقَريني؟ بصراحةٍ، في خيالِ الأولاد. 
*
لا تتوارَوا... مُدّوا لي أيديكم.
تجدوني مكتوباً عليها، وهو  ما أعتقدُ.
ما يجعلُ الحبّ الأخيرَ  عسيراً
أنه ليسَ حباً، بل هو خَشيةَ الفَقدِ.



جِراح
جُرِحتُ كثيراً وتألّمتُ غالباً
وأنا أمشي عائداً في خطوٍي الوئيدِ،
لم تطعَنّي الألسُنُ الخبيثةُ وحَسبُ ـــ
قد يجرحُ المرءَ تاجُ الزهرةِ.
*
لقد جُرِحتُ شخصياً بغيرِ  قصدٍ
من رِقّةٍ عارضَةٍ وأنا أمرّ،
وأحَسّ المرءُ بعدئذٍ بالألمِ،
كمَن يمشي حافياً فوقَ ثلجٍ.
*
فلماذا أَدِبّ على حُطامٍ
ممّن هو  قُربي وعزيزٌ  عليّ،
أنا، مَن جُرِحتُ، ببساطةٍ وبعنفٍ،
قد أجرحُ الآخرينَ بهدوءٍ مُمِيت.


فرلين
كانَ المرشدُ يستشهدُ بــ فرلين[1]
وبلمحةِ إحساسٍ ناعمٍ بسيطٍ
أشاحَ بيدهِ فوقَ باريس،
تحتَ خَشخَشةِ مطرٍ  خفيف.
*
يصعُبُ استرجاعُ الأبياتِ،
كانت تموجُ كالماءِ تُشعلهُ النجومُ.
"صوتٌ بديعٌ، سيدي".
فأومأتُ: "صوتٌ بديع".
*
باريسُ تنسَى.
وفرلين ورقةٌ
تقفُ كمَرسومٍ ربّانيٍّ
تيبّسَ على رفّ كتابِ البورجوازيةِ.
*
شيءٌ بديعٌ مع "الچنّ" والليمونِ
واحتمالِ نومةٍ هنيئةٍ،
على قراءةٍ حذرةٍ قصيرة، بصوتٍ عالٍ.
عليّ أن أُسدي الولاءَ إلى فرلين.
*
أهوَ بديعٌ؟
بديعٌ. لكني
لا أتذكّرُ  كما تتذكّرُ 
فهي ذكراكَ واستَعَدتها.
*
بثّ فيكَ الحزنَ فرلينُ. ولا أعرفكَ.
بهامشِ تقواكَ الزائفةِ
التي أجّجَها الكحولُ، علّقتَ:
أأنا طائشٌ؟ وقلَبتَ وجهكَ.
*
أهوَ  بديعٌ؟
لقد أرداهُ على بُعد بوصاتٍ.
اغتيلَ.
والصّرخاتُ صَرَعتهُ...
*
من أركانِ الشارعِ. استنفَدَهُ
نمطُ فضائلكَ إلى أن صارَ  رماداً.
ذوو البطونِ المشدودةِ كالطبلِ يشربونَ في صحةِ فرلين!
قَتلَةُ الشعراءِ هم المستَشهِدونَ بالشعراءِ.


سيخطُر  حبيبي

سيخطُر  حبيبي مندفعاً فاتحاً ذراعَيهِ يطويني فيهما،
مستَوعباً مخاوفي، وراصِداً تحوّلاتي.
في العتمةِ المصبوبةِ، في الليلِ القارّ،
من دونِ أن تتوقّفَ لِصَفقِ بابِ "الأُجرةِ"
تركضُ صاعدةً وإلى الرّواقِ الخَرِبِ
يُحرِقُها الحبّ، من هناءِ الحبّ،
تركضُ نازفةً صاعدةً، ولن تطرقَ البابَ،
تأخذُ رأسي بينَ يدَيها،
وحينَ ترمي مِعطفَها على مِقعدٍ،
ينسلّ على الأرضِ في كَومةٍ زرقاءَ.


حلُمتُ أني أحبكِ
حلُمتُ أني أحبكِ. 
حلُمتُ أني قتلتُكِ.
*
ثم بُعِثتِ من جديدٍ، على نمطٍ آخرَ، لكأنكِ
فتاةٌ على كرةِ الأرضِ الصغيرةِ،
بسذاجةٍ فِطريةٍ، ورقبةٍ مَحنيةٍ
في لوحةِ بيكاسو  المبكّرةِ،
وتَرجّيتِني من ضلوعكِ:
"حِبَّني"، كمَن يقولُ: "لا تصرفني عنكَ".
*
كنتُ ذلكَ البهلوانَ الكبيرَ، المنهوكَ،
المحدَّبَ، بعضلاتٍ فاترةٍ،
ويعرفُ أن النصيحةَ كِذبةٌ
ستنقضي آجلاً أو  عاجلاً.
*
أرعَبَني أن أقولَ "أحبكِ"،
وكان عليّ أن أقولَ "سأقتلُكِ".
*
من أعماقِ وجهي أتصفّحُ
أرى الوجوهَ ــ قد لا تُعوِّلُ ــ
إلى اليمينِ، ثمةَ بقعةٌ، ربما
ليسَ بالضبطِ، أني تعذّبتُ حتى الموتِ.
*
كنتِ شاحبةً، من توازنٍ مُميتٍ. تقولين:
"أعرفُ كلّ شيءٍ. كنتُ كلّهم وجميعاً.
أعرفُ أنكَ أحببتَني.
وأعرفُ أنكَ قتلتَني.
لكني لن أُديرَ  للوراءِ الدّنيا:
حِبَّني من جديدٍ، لِتقتلَني من جديدٍ".
*
يا ربّتي، وأنتِ حديثةُ السنّ، أوقِفي دنياكِ.
فقد تعبتُ من القتلِ. لستُ ذلكَ اللّعينَ، بل طاعنُ السنّ.
*
تُحرّكينَ الأرضَ من تحتِ قدمَيكِ الصغيرتَين
فتسقُطين: "حِبَّني".
بعينَيكِ، فحسبُ، على نمطٍ مثيلٍ، تقولين:
"ولا تقتُلني، هذهِ المرةَ!"


مَقتلَة
لم أرَ  أحداً ينامُ بجمالكِ.
لكني أخشَى
أن تستيقظي الآنَ،
وتلمَسيني بوَمضةٍ فاترةٍ، عابرةٍ خاطفة،
فيُقتَلُ الجمالُ.
..........................
(*) يفجيني إيفتشنكو Yevgeny Yevtushenko(1932/ 2017):روسيّ، شاعر، روائيّ، مسرحيّ، كاتب سيناريو، ممثل ومخرج. عارض ستالين حياً وميتاً، اتّهم بمعاداة "الدولة السوفييتية"، وبعد انهيار  هذه الحقبة، ساند جورباتشيف ثم يلتسين، وقسّم وقته بعدها بين روسيا وأمريكا، تزوّج خمس مرات، آخرها من مترجمته الإنجليزية، وراح يحاضر  في الشعر  والسينما. توفي أول إبريل 2017، بعد معاناة مع سرطان الكُلى. (م)
(*) اللوحة، للفنان الألمانيّ/ الفرنسيّ: مكس إرنست. 





[1]Verlaine: شاعر فرنسيّ (1844/ 1896)، من أهم شعراء الرمزية، كانت له علاقة مثلية برامبو وهو صغير، توفي معوزاً من إدمان الكحول والمخدرات. (م) 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق