الكسندر كوجيف وخفايا "ما بعد الحداثة"
رسول محمد رسول
في السنوات التي خلت صار الحديث عما بعد الحداثة بل والحداثة
أيضاً لقمة سائغة لدى الكثير من النُّخب المثقفة في الوطن العربي، إلا أن أحداً منهم
ربما لا يعلم الكيفية التي تنامى فيها الفكر الحداثي ليصل إلى مرحلة ''المابعد'' أو
''ما بعد الحداثة''، ولا يعرف أيضاً من هو الأب الروحي لفكر ما بعد الحداثة؟·
لعل جهود الباحثة المصرية المغتربة الدكتورة شادية دروري
التي تكتب باللغة الإنجليزية، وتعيش في كندا منذ سنوات طويلة، قد وضعت أناملها الرقيقة
على فراغ معرفي كان من الضروري ملئه منذ أعوام عندما أخذ مفهوم الحداثة ومفهوم ما بعد
الحداثة يتم تداوله في الثقافة العربية من دون معرفة المزيد عن خفاياها ذات الأهمية
الفائقة؛ فمعرفة الجذور والملابسات في مفهوم أو مذهب فكري أو فلسفي هي من الأهمية بمكان
تقي جملة من الإشكاليات العابرة التي تنخر الوعي البشري عندما يتصدّى للنظر في إشكالية
فكرية ما أو إشكالية مفهومية ما·
في ضوء ذلك، أقبلت الدكتور شادية دروري في كتابها ''خفايا
ما بعد الحداثة/ دمشق 2006/ ترجمة موسى الحالول'' على تناول إشكالية ما بعد الحداثة
من خلال البحث في جذور نشأتها وتشكُّلها عبر التعرُّض إلى دور المفكِّر الروسي إلكسندر
كوجيف 1902 ـ 1968 في إدلاق ليس فقط مفهوم ما بعد الحداثة إنما حسب بناء فلسفة ما بعد
الحداثة كاتجاه فاعل ومؤثر في الفكر الغربي العاصر·
هاجر كوجيف من روسيا إلى باريس، وفي ثلاثينيات القرن الماضي،
أخذ يلقي محاضرات عن فلسفة هيجل، وصار الاعتقاد بأن تلك المحاضرات هي التي صاغت المشهد
الفكري الفرنسي في القرن العشرين، فقد حضرها كل من جورج بتاي، وموريس مورلوبونتي، واندريه
بريتون، وجاك لاكان، وريمون آرون، وغيرهم من الفلاسفة والمفكرين·
تعود المؤلفة في الباب الأول من كتابها الذي تميز أسلوبها
فيه برشاقة العبارة ورقَّة الكلمة إلى بيان معالم الفلسفة الهيجلية التي وسمها كوجيف
بميسمه الخاص به؛ إذْ كان شرحه لكتاب هيجل ''ظواهرية العقل'' مزيجاً سحرياً من أفكار
هيجل وماركس وهايدغر ونيتشه، مزيجاً خلب ألباب كل من استمع إلى محاضراته في حينها من
الفرنسيين وغيرهم من الأوروبيين والغربيين· وعنصر السحر فيها لم يكن في سلاسة أسلوب
كوجيف في الطرح، ولا في مضاءة الحجَّة لديه، ولا في وضوح منهجيته، بل في قدرته على
حبك نص كتاب ''ظواهرية العقل'' في حكاية ذات نهاية مأسوية·
تبقى المؤلفة في فرنسا، حيث تدرس في الباب الثاني تأثير كوجيف
في المفكرين الفرنسيين أمثال ريمون كونو، وجورج بتاي، وميشيل فوكو، ذلك أنها تعتقد
أن دراسة التأثير الكوجيفي تلقي ضوءً جديداً على ما بعد الحداثة، حيث تكشف من أين جاءت
رومانسية ما بعد الحداثة المظلمة؟ وتبين لماذا لا يكتمل أو يتعمَّق فهمنا لدوافع ما
بعد الحداثة وطموحها دون النظر في سمة التفنيد الذاتي فيها؟ كما أن المؤلفة تتساءل
لماذا لا تهتم ما بعد الحداثة بالحرية على نحو مطلق؟·
ولكننا نتساءل: هل امتد تأثير كوجيف إلى مفكري الولايات المتحدة
الأميركية؟ هذا ما تجيب عنه الدكتورة شادية دروري، وهو ما تناولته في الباب الثالث
من الكتاب حيث رأت أن تأثير كوجيف في أميركا كان كبيراً جداً نتيجة لصداقة كوجيف الطويلة
والعميقة مع ليو شتراوس؛ ولذلك درست صور السجال الذي دار بين الصديقين، وترى أنه سجالٌ
أُسيء فهمه إلى درجة هائلة·! ولم تكتف بذلك فقط بل درست تأثير كوجيف على أتباع شتراوس،
ومنهم: ألن بلوم، وفرانسيس فوكوياما· وتعتقد أن نظرة كوجيف لأميركا بوصفها تجسيداً
للحداثة مسؤولة عن الاحتقار والمقت الذي يكنه الفكر الأميركي المحافظ لأميركا ذاتها
إلى درجة يحارُ معها المحافظون فيما يحافظون عليه· وخلصت الدكتورة شادية في خاتمة هذا
الفصل إلى القول إن معجبي كوجيف الأميركيين هم كمعجبيه الفرنسيين من مفكري ما بعد الحداثة·
لكنها تصل إلى نتيجة أخرى في خاتمة الكتاب مفادها أن الفلسفة السياسية لفكر ما بعد
الحداثة هي فكرٌ متطرِّف في تجلياته اليمينية كما هو في تجلياته اليسارية·
نقرأ في خواتيم الكتاب أيضاً مما قالته المؤلفة: تشير ما
بعد الحداثة إلى بداية عصر جديد متبرِّم من الحداثة إلى أبعد الحدود، وكوجيف شخصية
محورية في هذا التبرُّم لأنه أعطى هذا التبرُّم صفة تأريخية ومسرحية وكونية، وتضيف:
لقد آمن كوجيف بأن التاريخ مأساة يكافح فيها الإنسان لكي يحقِّق أغلى أحلامه، وعندما
ينجح في ذلك فعلاً يدرك أنه خلق عالماً يليق بحيوانات سلبية مُدجَّنة· ومن هذا المنطلق
أعلن كوجيف عن فكرة ''نهاية التاريخ'' وفكرة ''موت الإنسان''· وبالرغم من ذلك آمن كوجيف
بوجوب تحميل هذه الكارثة برباطة جأش، فما هي إلا نتيجة حتمية لانتصار العقل والعلم
في العالم·
..............
(*) جريدة الاتحاد 17 مارس 2007
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق