الخميس، 9 أبريل 2015

اللحظة الشعرية واللحظة الميتافيزيقية : غاستون باشلار

ترجمة : أدونيس 
Le Droit de rêver

(1)

الشعر ميتافيزيقا فَوريّة . عليه أن يقدّم ، في قصيدةِ قصيرة ، سرّاً نفسيّاً ، ورؤية للكون ، أن يقدّم الكائن والأشياء في آن . إن كان مجرّد متابعةِ لزمن الحياة ، يكون أقلّ منها ، لا يقدر أن يكون أكثر منها إلاّ في تثبيتها ، إلاّ أن يعيش جدليّة الأفراح والآلام ، هنا والآن . إّنه آنذاك مبدأ تّزامُنِ جوهريّ ، حيث يحظي الكائن الأكثر تبعثراً وتفككاً ، بوحدته .

يرفض الشعر المقدّمات والمباديء والمناهج والبراهين ، علي النقيض من جميع التجارب الميتافيزيقية الأخري التي تمهّد لها توطئات لا تنهي . إنه يرفض الشكّ . يحتاج ، فوق ذلك ، إلي بدايةِ من الصّمت وهو إذ يقرع ، باديء بدء ، كلماتِ جوفاء ، فإنه يخُرس النثْر أو الدّندنات التي قد تترك في نفس القاريء استمراريّة فكرِ أو هَمْس . ثم ، بعد الإرنَانَات الفارغة ، يُنتج لحظته . فالشاعر ، لكي ينشي لحظة مركبة ، لكي يربط بهذه اللحظة تزامناتِ عديدة ، يهدمُ الاستمرارية العاديّة للزّمن المتسلسل .

آنذاك ، يمكن أن نجد ، في كل قصيدة حقيقية ، عناصر زمن ثابت ، زمن لا يتبع القياس ، زمن عمودي ، لكي نميزه عن الزمن المشترك الذي ينسرب افقياً مع ماء النهر ، مع الريح التي تمر . من هنا المفارقة التي يجب أن نعلنها بوضوح : زمن النظم أفقي ، وزمن الشعر عموديّ . إن علم النظم لا ينظم إلا إرنانات متتابعة ، إنه يضبطُ أوزانا ، ويرتب اندفاعاتِِ وانفعالات في غير محلها ، غالباً . وحين يقبل نتائج اللحظة الشعرية ، فانه يسمح بالوصل بينها وبين النثر ، الفكر المشروح ، الحب المختبر ، الحياة الاجتماعية ، الحياة الجارية ، الحياة المنزلقة ، الخيطية ، المتصلة . غير أن جميع قواعد علم النظم ليست إلا وسائل ، وسائل عتيقة . فالهدف هو العمودية ، عمقاً أو علواً ، أعني اللحظة الثابتة حيث تبرهن التزامناتُ بانتظامها علي أن للحظة الشعرية منظوراً ميتافيريقياً .

اللحظة الشعرية هي إذن ، بالضرورة ، لحظة مركبة : تُحرك ، تدل – تدعو ، تؤاسي ـ فهي مُدهشة وأليفة . اللحظة الشعرية هي ، جوهرياً ، علاقة تناغمية بين متضادين . فهناك دائما شيء من العقل في لحظة الشاعر المشبوبة الانفعال . وهناك دائما شيء من الانفعال المشبوب في رفضه العقلانيّ . التناقضات المتوالية تلذّ للشاعر . لكن من أجل الافتتان ، من أجل النشوة ، لابد للتناقضات من أن تندغم في نوع من اجتماع الأضداد حينذاك تنبثق اللحظة الشعرية . اللحظة الشعرية هي ، علي الأقل ، وعي اجتماع الأضداد . إنما هي أكثر من ذلك ، لأن اجتماع الأضداد هنا مستثارُ ، فعالُ ، حركيّ . اللحظة الشعرية تقسر الكائن علي أن يزيد القيمة أو يُنقصها . ففي اللحظة الشعرية ، يصعد الكائن أو يهبط ، دون أن يقبل زمن العالم الذي يجعل من اجتماع الضدين تناقضاً ، ومن التزامن تتابعاً .

يمكن أن نتفحص بسهولة هذه العلاقة بين النقيض واجتماع النقيضين ، إذا رغبنا في مشاركة الشاعر الذي يعيش ، ببداهة تامة ، في لحظة واحدة ، طرفي تناقضاته . الطرف الثاني لا يستدعيه الطرف الأول . فالاثنان يولدان معاً . آنذاك نري اللحظات الشعرية الحقيقية لقصيدة ما في جميع الجهات حيث يقدر القلب البشري أن يقلب النقائض . وبحدسية أكثر ، يتجلي اجتماع الضدين الشديد الترابط ، بخاصيته الزمنية : بدلاً من الزمن الذكر والشجاع ، الذي ينطلق ويحطم ، وبدلاً من الزمن الوديع والخاضع ، الذي يتحسر ويبكي ، تنبثق اللحظة الخنثي . فالسر الشعري خنثوية . 

(2)

لكن ، أهو من الزمن ، ذلك التعدد من الأحداث المتناقضة المسجونة في لحظة واحدة ؟ أهو من الزمن ذلك المنظور العمودي الذي يُنيفُ علي اللحظة الشعرية ؟ نعم ، ذلك أن التزامنات المتراكمة تزامنات منظمة . إنها تعطي للحظة بعداً ، لأنها تعطيها نظاماً داخلياً . الزمان إذن نظام ولا شيء آخر . وكل نظام زمان . إن نظام اجتماع الأضداد في اللحظة هو إذن زمان . وهذا الزمان العمودي هو ما يكتشفه الشاعر حين يرفض الزمان الأفقي ، أي صيروة الآخرين ، صيروة الحياة ، صيروة العالم . هكذا تتجلّي الأنظمة الثلاثة للتجارب المتتابعة التي يتوجّب عليها أن تُطلق الكائنَ المقيد في الزمان الأفقي :
أ ـ الاعتياد علي عدم إسناد الزمان الخاص إلي زمان الآخرين ، أي كسر الأطر الاجتماعية للديمومة .
ب ـ الاعتياد علي عدم إسناد الزمان الخاص إلي زمان الأشياء ، أي كسر الأطر الظواهرية للديمومة .
ج ـ الاعتياد ـ وهذا مراسُ قاسِ ـ علي عدم إسناد الزمان الخاص إلي زمان الحياة ـ التوقف عن معرفة ما إذا كان القلب يخفق ، أو الفرح ينمو ، أي كسر الأطر الحيوية للديمومة .

حينذاك وحسب ، نبلغ لسند الذاتي التزامن ، في مركز الذات ، دون حياة محيطية . وفجأة تمحي الأفقية المسطحة كلها . لا يعود الزمان يجْري . ينبجسُ انبجاساً .


(3)

ثمة شعراء ، كمثل مالارميه ، يعاملون ، بشكل شرسِِ ومباشر ، الزّمان الأفقي ، يعكسون تركيب الجملة ، يوقفون نتائج اللحظة الشعرية أو يتنكّبونها ، وذلك من أجل استبقاء هذه اللّحظة الشعرية الثابتة أو بالأحري العثور عليها . إن علم النظم المعقُد يرمي الحصَي في الجَدوْل لكي تسحق التموُجات الصَور التافهة ، لكي تكسر الدوامات الانعكاسات . فحين نقرأ مالارميه ، نشعر غالباً بوجود زمان مُنْثَنِِ إلي الوراء ، يكمل لحظات مكتملة . آنذاك نعيش ، متأخّرين ، اللّحظات التي كان يجب أن نعيشها : إحساس هو من الغرابة بحيث أنه ليس من التحسّر ، أو من النّدم ، أو من الحنين . إنه مصنوعُ من زمان مُتقَن الصّنع يعرف أحياناً أن يضعَ الصّدي قبل الصّوت ، والرّفض في الاعتراف .

ثمة شعراء آخرون ، أوفي حظاً ، يقبضون بشكل طبيعيّ علي اللحظة الثابتة . يري بودلير ، كمثل الصينيين ، الساعة في أعين القطط ، الساعة الباردة حيث الانفعال المشبوبُ هو من الاكتمال بحيث يرفض أن يكتمل : " في عمق أعينها الفاتنة ، أري دائماً الساعة بوضوح ، هي نفسها ، الساعة الفسيحة ، الاحتفالية ،الشاسعة كالفضاء ، دون انقسام إلي دقائق أو ثوان ـ الساعة الثابتة غير المحدّدة في ساعات التوقيت ... " (1) ، القصيدة بالنسبة إلي هؤلاء الشعراء الذين يفهمون اللحظة بمثل هذا اليُسْر ، لا تنبسطُ بل تنعقد وتنتسجُ عقدةً عقدة . إن مأساتهم لا تتم ّ . إن عذابهم زهرة هادئة ...

في توازن منتصف الليل ، دون انتظار أي شيء من تنهد الساعات ، يتخفف الشاعر من كل حياة لا جدوي منها ، يختبر اجتماع الأضداد المجرّد في الكائن واللاّكائن . يري ، بشكل أفضل ، في الظلمات ضوءه الخاص . توفّر له العزلة الفكر المنوحّد ، وهو فكُر لا لهْو فيه ، فكُر يعلو ويهدأ في نشوةِِ محضة .


يعلو الزمان العمودي . أحياناً يغْرقُ ايضاً . منتصف الليل ، بالنسبة لمن يعرف أن يقرأ الغُراب ، لا يعود يرنّ قطعاً بشكل أفقيّ . يرن في النفس ، هابطاً ، هابطاً ....  نادرةُ هي الليالي التي واتتني فيها الشجاعة لأذهب الي العمق ، حتي الرنة الثانية عشرة ، الجرح الثاني عشر ، الذكري الثانية عشرة ... حينذاك أعود إلي الزمن المسطح ، أقيد ، أتقيد ثانية ، أعود الي الأحياء ، في الحياة . لابد لكي نحيا من أن نخون دائماً الأشباح ...

علي الزمان العمودي ـ هابطاً ـ تتنضد أفدح الآلام ، الألام التي ليس لها سبب زمانيّ ، الآلام الحادة التي تخترق القلب للاشيء ، دون أن يضني أبدا ، وعلي الزمان العمودي ـ صاعداً ـ تتوطّد السلوي بلا رجاء ، تلك السلوي الغريبة ، الراسخة التي لا حامي لها . باختصار ، كل ما يفصلنا عن السبب والمكافأة ، كل ما ينفي التاريخ الحميم والرغبة ذاتها ، كل ما ينقص قيمة الماضي والمستقبل معاً ، قائمُ في اللّحظة الشعرية .

هل ندرس جزءاً صغيراً من الزمان الشعري العمودي ؟ لنأخذ اللحظة الشعرية في الحسرة الباسمة ، لحظة يرقد الليل ويثبت الظلمات ، حيث الساعات لا تكاد تتنفس ، حيث العزلة وحدها ندم . إن أقطاب اجتماع الأضداد في الحسرة الباسمة تتلامس تقريباً . أقل اهتزاز يُحلّ الواحد محل الآخر . الحسرة الباسمة هي إذن أحد اجتماعات الأضداد الأكثر حساسية لقلب حساس . إنها ببداهة إذن تنمو في زمانِِ عموديّ ، لأن أيا من اللحظتين : الابتسامة والحسرة ، ليست سابقة .  الوجدان هنا قابلُ للانعكاس ، أو ، بتعبير أفضل : قابلية انعكاس الكائن هي هنا مُوجدنة : الابتسامة تتحسّر ، والحسرة تبتسم ، الحسرة تؤاسي  . ليس أي من الزمانين المعبُر عنهما هنا علي التوالي سبباً للآخر ، وفي هذا برهانُ علي إساءة التعبير عنهما في الزمان المتتابع ، الزمان الأفقي . لكن بين الواحد والآخر صيروة ، لا نقدر أن نختبرها إلا عمودياً ، صعوداً ، مع الانطباع بأن الحسرة تخفّ ، والنفس تعلو ، والشبح يصفح . آنذاك يُزهر الشقاء حقاً . إن ميتافيزيقياً حساساً سيجد هكذا في الحسرة الباسمة الجمالي الشكلي للشقاء . وتبعاً للعلة الشكلية سيفهم قيمة تحويل المادة إلي طاقة حيثُ تتكشف اللحظة الشعرية . وهذا برهان جديد علي أن العلة الشكلية تحدث داخل اللحظة ، في اتجاه زمان عمودي ، بينما العلة الفاعلة تحدث في الحياة وفي الأشياء ، أفقيّاً ، جامعة لحظات ذات كثافات متنوعة .

طبعاً ، يمكن في منظور اللحظة اختبار اجتماع الأضداد علي مدي أطول : " في طفولتي ، أحسست في قلبي بعاطفتين متناقضتين : الرعب من الحياة والهيامُ بالحياة " (2) . اللحظات التي تُختبر فيها هذه المشاعرُ معاً تُوقف الزمان ، ذلك أنها تُختبر معاً موصولةً بالاهتمام الفاتن بالحياة . إنها تختطف الكائن خارج الدّيمومة المشتركة . إن اجتماع أضداد كهذا لا يمكن وصفه في أزمنة متتابعة كمَسرَدِِ مُبتذل للأفراح والآلام العابرة . إن تناقضات بمثل هذه الحيوية وهذه الجوهرية تتعلق بميتافيزيقا مباشرة . فيها نعيش النوسان في لحظة واحدة بانتشاءات وهبوطات يمكن أن تكون في تعارض مع الأحداث : الاشمئزازُ من الحياة يستولي علينا بحتمية في الاستمتاع كما تستولي علينا الأنفةُ في الشقاء . إن الأمزجة الدورية التي تتوالي تبعاً للقمر ، في الديمومة المألوفة للحالات المتناقضة ، لا تمثل إلا محاكاة ساخرة لاجتماع الأضداد الأساسيّ . ولا يقدر أن يعطينا الخطاطات الضرورية لفهم المأساة الشعرية الجوهرية إلا التحليل النفسي المتعمق .

(4)

يُدهشنا ، من جهة ثانية ، أن يكون شاعر المطابقات واحداً من الشعراء الذين عرفوا اللّحظات الحاسمة في حياة الإنسان المعرفة الأقوي . ليس التطابق البودليري ، كما يُعرض غالباً ، مجرد تنقيلِِ يوفر نظاماً من التماثلات الحسية . إنه مجموع الكائن المحسوس في لحظة واحدة . غير أن التزامنات المحسوسة التي تجمع العطور والألوان والأصوات لا تفعل إلا التمهيد لتزامنات أبعد وأعمق . في وحدتي الليل والضّوء هاتين ، تكمن الأبدية المزدوجة للخير والشر . "الواسع" في الليل والضوء لا يجوز أن يوحي لنا برؤية فضائية . فلم يُذكر الليل والضوء لاتساعهما ، للانهايتهما ، بل لوحدتهما . ليس الليل فضاء . إنه نذيرُ أبدية . الليل والضوء لحظتان ثابتتان ، سوداوان أو وضاءتان ، فرحتان أو حزينتان ، سوداوان ووضاءتان ، حزينتان وفرحتان . أبداً لم تكن اللحظة الشعرية أكثر اكتمالاً منها في هذا البيت الشعريّ حيث يمكن الجمعُ في آنِِ بين هوْل النهار والليل . أبداً ، لم نشعر في غيره هذا الشعور المادي ، باجتماع المشاعر المتضادة ومانوية المبادئ.

إذ نتأمل في هذا الاتجاه ، نصل فجأة إلي هذه النتيجة : كل أخلاقية إنما هي فورية . الأمر المُطلق للأخلاقية لا فعل له غير الديمومة . لا يستبقي أية علة محسوسة ، لا ينظر أية نتيجة . يمضي قُدماً ، عموديّاً ، في زمن الأشكال والأشخاص . الشاعر آنذاك دليل طبيعي للميتافيزيقي الذي يريد أن يفهم جميع طاقات الوصْل الفْوريّة ، وحماسة التضحية ، دون أن يترك ذاته تنشطر بالثنائية الفلسفية المبتذلة ، ثنائية الذات والموضوع ، ودون أن توقفه ثنائية حبّ الآخر وحبّ الذات . الشاعر يبعث جدلية أكثرَ نَفاذاً . فهو يكشف معاً ، في اللّحظة نفسها ، عن ترابُط الشّكل والشّخص . يدلّل علي أنّ الشّكل شخصُ والشّخص شكل . هكذا يصبح الشعر لحظة علة شكلية ، لحظة طاقة شخصية . وإذاك يهمل ما يحطم وما يمحو ، يهمل الديمومة التي تبعثر أصداء . يبحث عن اللّحظة . لا يحتاج إلا إلي اللحظة . يخلق اللّحظة . خارج اللّحظة ، لا يوجد غير النثر والأغنية . ففي الزمان العمودي للحظة ثابتة يجد الشعر فعاليته النوعية . ثمة فعالية محضة لشعرِِ محض . إنها تلك التي تنمو عمودياً في زمان الأشكال والأشخاص .

(1)  بودلير : قصائد نثر قصيرة .
(2)   بودلير : قلبي ، عارياً .

(*) هذا النص مأخوذ من كتاب :
(Le Droit de rêver,Paris 1970 , p.224-232)
المصدر : مجلة (مواقف) اللبنانية ، العدد رقم 44 ، 1 فبراير 1982 .

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق