الأربعاء، 27 نوفمبر 2019



حكاية قصيدة!

قصة، للكاتبة الهندية: شاندريكا بي
ترجمة: محمد عيد إبراهيم



تكتبُ سوشاما قصيدة. يتشكّل أول بيتين من تلقاء نفسَيهما بسهولة تامة على فرْخ ورق.
من جفنَيّ، تترنّحُ قطرةُ دمعٍ. 
وأنا أفكّر فيكَ ـ حتى الآنَ.  
بيتان عاديان يكتبهما أيّ شاعر رومانسيّ أو حتى ما بعد حداثيّ. يسترعيان الانتباه فقط لأن من كتبتهما امرأة. كما تعرف، فمجتمعنا الذي يضمّ كذلك بالمصادفة ريغورامان زوج سوشاما، يحيد دائماً عن الطريق ليكتشف تشابهات كامنة تتعلّق بالسيرة في كتابات النساء. لو قرأ ريغورامان هذين البيتين فلن يُعاين سوشاما بأية ريبة، لأنه على نحو خاصّ يرى زوجته، كزوجة القيصر، فوق الشبهات. 
تتولّد قصائد سوشاما في عالم عدائيّ مرتاب. فانظر إليها، وهي تكتب القصيدة على طاولة المطبخ وسطَ أشياء مبعثرةٍ: أفرخ ورق بيضاء، قلم رصاص مكسور، سكّين، شرائح خضار مقطّعة وغير مقطّعة، وصحون. بامية طويلة للقلي أو رزّ بعدس. موز نيئ، أفخاذ دجاج، طماطم إلخ، تتكهّن بإمكان طبخ "آفيال". انظر إلى سوشاما. تترك الخضار نصف المقطّع شرائح على الطاولة لتكتب البيتَين الأولَين من القصيدة، ثم تترك القصيدة لتعود إلى الخضار. لقد قطّعت البامية الطويلة الآن حلقاتٍ جميلةً. تدندن شفتاها بشيء غير مسموع، فتُنحّي البامية جانباً وتستدير إلى الموز النيئ. نراها تقشّره في يُسر برأس سكّينها. تتوقّف فجأةً لالتقاط القلم الرصاص، فنرى أربعة أبيات من القصيدة قد ولدت من دون جهد:
أتذكّر ـ كيفَ سِرنا منضَمّين تحتَ مِظلّةٍ، 
كيف نقعَ المطرُ الغزيرُ الشارعَ الموحِشَ، 
كيف وضعتَ يدكَ على كِتفي الأيسرِ،
كيفَ ارتجفَ جسمي كلّهُ عند لمستكَ، 
لمعت عينا سوشاما في رويّةٍ. تتراخى حركة يديها كمن سيروح في النوم. تنصرف، إلى عالم آخر حيث المطرُ، إيقاعُ المطر وقُطبان مكهربان. فلنخلّها ولنذهب للقاء ريغورامان. 
يقف ريغورامان على محطّة ينتظر الباص ليقلّه إلى المكتب. يذهب على درّاجته عادةً، لكن اليوم أبت الدرّاجة ألاّ تتحرّك. فأنزل الأولاد عند المدرسة بعربة الركشو الآلية، وينتظر الآن على المحطّة. سيأتي الباص لاحقاً، حيث يتوجّب على ريغورامان الوصول لمكتبه قبل ظهور علامة استفهام حمراء على اسمه بسجِلّ الحضور. 
مقعد ريغورامان بالمكتب لِصقَ مقعد شريرانجيني. ريغورامان يحبّ شريرانجيني. يتخيّل أجزاء جسمها على غير شكل أجزاء جسم سوشاما؛ لكنه، يا للغرابة، لم يتمنّ أن يتّخذ شريرانجيني زوجة. يفضّل من النساء الزوجة مثل سوشاما: الهادئة، فهي لا تتكلّم كثيراً، وتؤدّي الأعمال المنزلية إجمالاً من دون نأمة شكوى، وممتازة في فنون الطهي. شريرانجيني طيبة، لكن كصديقة. صديقة جيدة للكلام معها حين تحسّ بعقلك وقد جفّ. جيدة لدرجة تكفي أن تأخذها إلى بيت القهوة الهنديّ لتتناقش معها عبر كوب شاي وقطعة سمبوسة حول بورخيس أو المخرج آرافندان أو التفكيكية. إن لم تعارض، فقد يعزم أن يستكشف أكثر قليلاً، لكن حتى النقطة التي منها يستدير ليمشي عائداً. لا، لا يتمنّى أن يتّخذ شريرانجيني زوجة؛ فلنخلّ المتحرّرات يكنّ زوجات الآخرين.  
وبينما كان ريغورامان يتذكّر شريرانجيني، وقف أمامه باص. صعد الأولاد بزيّ مدارسهم، ثم غادر الباص الذي كان فارغاً تقريباً. يجلس ريغورامان مرتاحاً قرب نافذة، ويواصل التفكير في شريرانجيني. يتمنّى أن تأتي للمكتب اليوم في حرير أحمر. وبينما كان يتسلّى بهذه الأفكار البسيطة، تسقّط حواراً بين ناقدين واثقين بنفسيهما كانا وراءه:
أ: قرأتَ قصة إي الأخيرة في المجلة؟
ب: آه. أظنّ الزوجة الساخطة بالقصة هي المؤلّفة نفسها. 
أ: أظنّ هذا أيضاً. لكن كيف تتأكّد؟ 
ب: انظر، يعيش زميل لي قرب منزلها. بلّغني أن... هيه... تعاني من متاعب مع زوجها. ألم تلحظ بطلاتها ينخرطن في علاقات خارج نطاق الزواج. يبغضن الزواج. 
أ: أنتَ على حقّ. فعلاقة الفتاة في القصة... 
ب: ... آه طبعاً، هي علاقة المؤلّفة.   
أ: ريغورامان يعرف إي... المؤلّفة، وحياتها السعيدة، لكنه ينصت بفضول إلى رواية الحكايات عنها. يحسّ براحة أن سوشاما ليست كاتبة. وإلا تلصّص المجتمع الفظّ على غرفة نومه. يقول الناس: ريغورامان رجل سعيد بزواجه. يشكر نجوم سعده على إنقاذه من أن يكون زوج كاتبة. 
شريرانجيني تكتب قصائد بالإنجليزية والناس تتكلّم عنها أيضاً. لماذا تتحفّز هؤلاء النسوة للكتابة؟ لقد قرأ قصيدة شريرانجيني التي فازت بجائزة من المجلس البريطانيّ. وتبدأ هكذا:
جرّدني لترى مني الحقيقية رؤيا العيان،   
عاريةً، ترعبكَ، تصدمكَ، تضعفكَ أخلاقياً. 
ومَن غيرُ شريرانجيني يكتب مثل هذه الأبيات البديعة؟ 
جرّدني... إلام سيقود هذا التفكيك الشيّق! مرّر ريغورامان لسانه على شفتَيه.
ولدت الآن ثلاثة أبيات أخرى من قصيدة سوشاما. هي:
كيف تستحيلُ كلّ قطرة مطر إلى زهرة،
كيف تشتعلُ النار من تيجانها، 
كيف تنشرُ الدفء والحُمرة عبر البدَن،   
ترتاح القصيدة الناقصة على طاولة العشاء. تأخذ سوشاما حمّامها، بعدما انتهت من الأعمال المنزلية. تدفُق المياه على جسمها لكن عقلها لم يزل مصاباً بدوار القصيدة نصف الوليدة. تسطع الظهيرة بالحرارة حول المنزل. فتُسقط النباتات أرؤسها عاجزة عن تحمّل الحرارة. لكن الدنيا تمطر حيثُ سوشاما. تمطر في عقل سوشاما. فيتولّد فجأة بيت جديد: 
كيف اختبأت عيناك في خُصلاتي المبعثرة،  
ونرى سوشاما عاريةً تركض إلى طاولة العشاء لتضيف هذا البيت آخر القصيدة، تلحق به في عجلة قبلما يتلاشى. كتبته خربشة دون أن تنزعج نفسها بملاحظة ما إن كانت الستائر منسدلة أو كانت عينا الجار الصيّادتان العاطلتان تفتّشان عن فريسة. تكتب، فتتشكّل بِركة صغيرة من الماء حول قدميها؛ فتركض عائدة إلى الدشّ لهزّ شعرها المنقّط. وهي تهزّه، تلمح نفسها بمرآة غرفة النوم.  
تحت الدشّ تقف من جديد، تذكُر الآن ملاحظات ريغورامان الوقحة عن جسمها. علّق لزملائه مرّة حين جاؤوا لبيته على الشاي: هناك فارق وحيد بين زوجتي وملكة الجمال. منعطفات ملكة الجمال في الوضعية الصحيحة، ومنعطفات زوجتي في الوضعية الخاطئة. ويضحك، مستمتعاً بمزاحه، بينما ينزعج زملاؤه بوضوح وهم يغصبون ابتسامة. سيدة واحدة، رانجيني، تعبّر بشدّة عن كراهيتها. تأتي للمطبخ بعدها لتهدئ من ثائرة سوشاما: تساهلي، يا سوشاما. ريغورامان يفتخر بكِ حقاً. فهو يتكلّم عنكِ بالمكتب على الأقلّ مئة مرة يومياً.  
سوشاما على معرفة جيدة بأنه لو تكلّم عنها فللمقارنة مع النساء الأخريات، فلا تسأل عن التفاصيل. لم تعجبها حقاً أن تتطفّل ذكرى تلك الظهيرة على عقلها وهو ذاهل بالشعر. ابعدي، قالت للذكرى. لا تقفي في سبيل قصيدتي. ضيعي! 
يأتي ريغورامان من المِقصَف، يداه وأنفاسه برائحة الدجاج المشويّ، فيسأل شريرانجيني: ألم تتناولي طعاماً؟ هل تصومين اليوم أيضاً؟  
تخبره، نعم. فاليوم خميس. أُقيم الشعائر للأمّ القدّيسة "جوبالا فراتا" من أجل أولادي.  
يا لاتّحاد المتناقضات فيكِ، يعلّق ريغورامان. تتمسّكين بآراء متحرّرة وجريئة، لكن تتصرّفين أحياناً بسلوك تقليديّ.
وحين ترفض شريرانجيني الردّ، يضيف: لكن عليّ أن أخبركِ أن طبيعتكِ المتناقضة تضيف المزيد إلى سحركِ. 
تسأله شريرانجيني، لتغريه كي يبتعد عن الموضوع: لمَ لا تُحضر غداءكَ من البيت؟ ستُحضّره لكَ سوشاما بكلّ سرور. 
يقول: لا أحبّ الطعام البارد. أستمتع فقط بالطعام الساخن أو الدافئ. لذلك تزوّجتُ على نحو خاص فتاة غير عاملة، غير طموحة. هل تعرفين أنه لا توجد عندي ثلاّجة في منزلي. بذلت سوشاما أقصى جهدها لأبتاع واحدة، لكني كنتُ حازماً بالرفض. فهل تفهمين، يا شريرانجيني، الآن سرّ جسمي العفيّ؟ 
تسترق عينا شريرانجيني النظر إلى يديه المتينتين وصدره العريض، ثم تسحب عينيها بحسّ من الذنب، تنهض لتبتعد وهي تدمدم بعذر ما.   
ترتاح القصيدة الآن في حِجر سوشاما. فقد أضافت أبياتاً إليها: 
كيف تشعّب دربنا نحو طريقين مختلفين،
تلطّخت ذكرياتُنا بيدين لا مرئيتين،
أذكُر هذا مرةً تلو مرات.   
تقرأ سوشاما القصيدة مرةً ومرتين ثم تُجري بضعة تغييرات. بدأ ضوء الشمس خارج المنزل يفقد حرارته. سوشاما سعيدة الآن. لا أثر للتعب مع أنها نهضت مع الشمس ثم تحرّكت مع الشمس. هنالك جَذَل سماويّ على وجهها كأن الربّة أبسارا وصلت إلى الغابة الخضراء لولادة طفلها سراً. ترفع عينيها من القصيدة وتهيم حول الغرفة، لا ترى قطع الدجاج والشاي على الطاولة أو وقت الساعة.   
ريغورامان يبلّغ شريرانجيني: سأرحل مبكّراً. لن أعود كالعادة بعد توصيل الأولاد للبيت. عليّ بالذهاب للورشة كي أرى ما صارت عليه درّاجتي.  
رفعت شريرانجيني بصرها عن ملفّ ومنحته ابتسامة.
أراكِ غداً. يتوقّف عند طاولتها ليهمس بنبرة واطئة: هل سترتدين الساري الأحمر غداً؟ أرجوكِ، هذا طلب. 
يمشي بسرعة من غير أن ينتظر رداً. تتطلّع شريرانجيني خلفه بعينين حائرتين وعقل مرتبك. يبدو أن خطواته تدوس على قلبها. 
تضرب يدا سوشاما المرتجفتان الآن رقم هاتف. تضع القصيدة في حِجرها كوليد. لم تضف أيّ بيت عليها؛ فلنستنتج بأمان أنها اكتملت. بعد ضرب الرقم، تعود سوشاما لتجلس منفعلة.
نسمع الرنين الخافت لهاتف من مكان بعيد. يتوقّف. التقط السمّاعةَ أحدٌ. نسمع صوتاً ذكورياً يقول: أهلاً؟ ينشدّ وجه سوشاما كقلب على وشك أن يتحطّم. بعد وقفة طفيفة، يسأل الصوت الذكوريّ ثانيةً: أهلاً؟ أخبريني أرجوكِ من أنتِ. كيف أعرف إن لم تخبريني؟     
وتغلق سوشاما السمّاعة فجأة. يهبط معدّل نبضها بطيئاً كالمعتاد، والوجه يستريح. فتضيف الآن أبياتاً على القصيدة: 
لم تعد تحتضنّي في بالي  
لكن قطرة الدمع لا تزال بجفنَيّ.  
وكلّ قطرة مطر تهلّ من السماء
تملأ أفكاري كموج البحر. 
وصل ريغورامان والأولاد بعربة الركشو الآلية. تسمع سوشاما الصوت، فتقفز من مقعدها وتمزّق القصيدة نُتفاً صغيرة. تلقي بها من النافذة وتندفع نحو الباب لتفتحه قبل رنّ الجرس، لأنها الزوجة المثالية، والأم المثالية! 
ولأن سوشاما دمّرت القصيدة، فعلى القرّاء الراغبين في قراءتها كاملة أن يلتقطوا الأبيات المبعثرة بين ثنايا الحكاية، يلحموها معاً لتصحّ القراءة.


ترجمة: محمد عيد إبراهيم
....................
(*) اللوحة للفنان الإيطالي: جورجو دي كيريكو



الأحد، 24 نوفمبر 2019


حوار مع محمد بنيس :
يلزم الإقرار بالحق في الشعر
ترجمة : سعيد بوخليط

تقديم :كان الطفل محمد بنيس يستمع إلى القصيدة التي تنشدها جدته وسط المنزل العائلي في مدينة فاس، يتهدهد على أصوات وإيقاعات هذه القصائد، ولم يتوقف منذ تلك الحقبة عن ترويض الكلمة والقول.ثم بين رفوف مكتبة القرويين،الجامعة الشهيرة بفاس،انكب على قراءة الشعر العربي. هكذا،امتلك الذائقة وشرع بدوره يكتب،ساعيا مع مرور الوقت صوب وجهة تطوير فنه.فكان منجز قصيدته باللغة العربية.
يعتبر بنيس البالغ حاليا واحد وستين عاما،أكبر شاعر مغربي لازال على قيد الحياة.ترجمت نصوصه إلى اللغات التركية،والسلوفينية، والبرتغالية، والرومانية، والهولندية،والإسبانية، والفرنسية، واليابانية، والإنجليزية، والإيطالية….حصل على عشرات الجوائز منها جائزة فارس الفنون والآداب الممنوحة من طرف الدولة الفرنسية، ثم جائزة فيرونيا الإيطالية، أو أيضا جائزة العويس الإماراتية تثمينا لمختلف عناوين نتاجه.
ناهزت نصوصه مايقارب ثلاثين إصدارا، تنوعت بين الشعر،والنثر.عرفت مجموعاته الشعرية، نجاحا كبيرا :"نهر بين جنازتين"،"شيء عن الاضطهاد والفرح"، "صحراء على حافة الضوء".نفس الأمر ينطبق على دراساته النقدية، مثل : ''الحق في الشعر''، ''الشعر العربي الحديث".أيضا، ترجم قصيدة ستيفان مالارميه :'' رمية نرد''،وكذا أعمال الكاتب التونسي عبد الوهاب المؤدب والشاعر الفرنسي جاك أنصي.
محمد بنيس الأستاذ بكلية الآداب في الرباط، بادر أواسط سنوات الثمانينات، صحبة فريق من المثقفين إلى تأسيس دار النشر توبقال.
إنه الشخص الذي نجح في إقناع اليونسكو بالإعلان عن يوم عالمي للشعر،الذي يُخلد كل يوم 21مارس 1999.أيضا،أطلق مبادرة تأسيس بيت للشعر في المغرب.
حينما حضر محمد بنيس إلى الجزائر قصد المشاركة في تظاهرة :محمود درويش، حياة قصيدة.صادفناه داخل المتحف الوطني للفن الحديث والمعاصر،بصدد تأمل العديد من اللوحات.
س- كيف هي وضعية القصيدة في المغرب؟هل حافظت على نفس الخاصية كالسابق؟أم تغيرت الثيمات؟
ج-ارتادت اليوم القصيدة المغربية فضاءات جديدة. لقد تأتى لها، تقريبا،تمثُّل فضائها الخاص. تلتقي أجيال عدة حول هذا البحث المنفتح على ثقافات شعرية واتجاهات أخرى في ذات الوقت،وأجد بأنه من المحفز جدا رؤية شباب منفتح على الآخر.ثم الأهم حضور الصوت النسائي،مما أرسى لبنات معطى جديد.سياق ميز العقد الأول من القرن الواحد والعشرين.تعدد خطاب المرأة.وأضحت هناك شجاعة بخصوص تصور العلاقة بين المرأة والرجل وما يتعلق بوضعها داخل المجتمع.
س-أنتم من بين الأعضاء المؤسسين لبيت الشعر في المغرب، لكنكم غادرتموه . لماذا؟
ج- حاولت إلى جانب أصدقائي،غاية 2003،إنجاز عمل جديد في المغرب دون اكتراث لاهتمامات السياسيين. لقد توخينا إضفاء  نَفَس آخر فيما يتعلق بحرية القصيدة والشاعر.حققت بمعية أصدقاء، يعتبرون من كبار الشعراء، أشياء جميلة سواء بالنسبة للمغرب والبلدان المغاربية أو العالم العربي.نظَّمنا أول مهرجان عالمي للشعر،تجربة غير مسبوقة في العالم العربي. لكن حاليا،اختلف الوضع.تدخل السياسيون وتجنبت خوض صراعات في هذا المضمار لأني رفضت تحوّل بيت الشعرإلى مكان للمواجهات والكراهية والمؤامرة، وقد تأسس أصلا كي يستمر فضاء للقاءات، والسلام والأخوة.إذن،داهمتنا هذه الذهنية،وتحاشيت تماما التماهي مع ذلك.
س-هل أغلق بيت الشعر؟
ج-لا.إنه مفتوح دائما.لكنه يشتغل على إيقاع السياسيين.اخترنا الانتصارللقصيدة.حدث استبعادي تماما لأسباب أجهلها.مع ذلك، أنجزت فعليا كل العمل. اكتسح بيت الشعر من طرف أحزاب سياسية.هكذا حال النمط المغربي.نحن مرضى بفكرة السلطة، والحظوة وسرقة تصورات الآخرين.لقد أوضحت مع أصدقائي إمكانية تقديم عمل بديل،حر يسمح لنا بالانفتاح على العالم.
س- ماهي الحدود بين الشعر والسياسة؟
ج-وجدت المسألة كارثية،داخل اتحاد كتاب المغرب.بالتالي  تعارض ذلك مع حلمي وأنا شاعر شاب قرأ تاريخ الشعر،والتقى الشعراء عبر أعمالهم.لقد تخيلت باستمرار ضرورة اتسام فضاء لقاء الشعراء بالحرية.بعدها توضح لي شيئا ثانيا حول السياسي وليس السياسة.إن كانت للشاعر مواقفه السياسية،فهذا لايعنيضرورة امتثاله لحقيقة سياسية معينة. فللقصيدة سياستها الخاصة.ليست القصيدة مجرد تكملة لخطاب بل تجسد حيزا لمعرفة،ورؤية. حينما نجعل من القصيدة وصفا أو إضافة والشاعر فقط شخصا يستعيد رسالة السيد،أقول لا نكون لحظتها في حاجة إلى هذا الشاعر، ولا تلزمنا تلك القصيدة. في العالم الحالي،يدرك المشتغلون بمصير الشعر دلالة القول الشعري،ثم الجانب المتفرد للقصيدة الذي بوسعه تقاسمه مع الآخرين.يصعب تحقيق هذا السعي،إلا في حالة وعي القصيدة باشتغالها الخاص على اللغة، داخل المجتمع، وضمن نطاق التغيير.يجدر اقتفاء آثار كبار شعراء عصرنا.لاأتصور كيف يمكنك أن تصبح شاعرا وأنت فقط تكرر ما سرد الآخرين عليك وفق عقلية الديكتاتور.
س-كيف يمضي حال الشعر في العالم العربي بعد رحيل محمود درويش؟ هل يعرف تراجعا؟
ج-أنا لست من الذين يرغبون في تكرار تجربة شاعر ما.فلكل شاعر شخصيته.خلال فترة، كرر درويش نزار قباني قبل عثوره على طريقه الخاص. تلاقي القصيدة نفسها ضمن الاختلاف وليس بنية التماثل.لاينبغي لأي شاعر التفكير في محاكاة درويش،بل أساسا الانكباب على امتلاك لغته الخاصة، ورؤيته الذاتية، وطريقته الشخصية، وكذا أسلوبه الذاتي للتفاعل مع الثقافي ثم جل التاريخ الذي يحيط به ويحدد مساره.
س- لماذا كافأت جائزة نوبل للآداب مرة واحدة نصوصا كتبت باللغة العربية، أقصد منجز نجيب محفوظ؟
ج-من غير المنصف أن لاتُمنح جائزة نوبل أخرى في الآداب لشاعر ثان أو رابع أو روائي يكتب باللغة العربية.نتوفر على العشرات من الكتاب الممتازين جدا سواء بالنسبة للبلدان المغاربية أو الشرق الأوسط.تتداول حاليا الأدب العربي لغات عدة….فيما يخصني فقد تُرجمت على الأقل إلى عشرين لغة،و لست الوحيد.لايمثل ذلك مرجعية،لكن ينبغي استحضار هذا المعطى دائما.في حين تظل الثوابت المهمة، قائمة على اكتشاف الثقافات الأخرى، المشاركة في المهرجانات، ثم الترجمات.تمنيت لو أن الأكاديمية السويدية توجت الشاعر السوري أدونيس بنوبل في الآداب(للإشارة فقد فازت بها خلال تلك السنة أي 2009،الروائية الألمانية هيرتا ميلر).
س- لقد كتبتم حول الفن التشكيلي.هل نعتبر ذلك اهتماما أم شغفا؟بل إن قصائدكم استثمرت من طرف تشكيليين كما فعل قريشي مع درويش؟
ج-خلال طفولتي، لم أكن أمتلك الوسائل كي أكون فنانا تشكيليا. آمنت دائما بوجود فنان من هذا الصنف يسكن ذاتي.أخذ في التبلور منذ لقائي بأصدقائي التشكيليين المغاربة والأجانب.لم أبادر إلى الرسم احتراما لهذا الفن.لذلك،لم أنكب على تطوير هذا النزوع الذي يعكس جانبا آخريمثل دواخلي.لقد تشكلت القصيدة المعاصرة انطلاقا من العلاقة مع الفن التشكيلي منذ شارل بودلير،الذي جمعته صداقة مع أوجين دولاكروا.إنه تراث للعمل بين الفنانين التشكيليين والشعراء. لكن،في نفس الوقت،يكمن شيء يتقاسمه الاثنان، يتجسدفي طريقة عملهما حول المادة،أحدهما حول المادة اللغوية،والثاني ينصب اهتمامه على المادة البلاستيكية،الألوان والفضاء.حينماتصلني دعوة فنان تشكيلي،اهتممت سلفا بعمله، فإني لاأقدم تصورات أو شروحات،بل أنخرط في عشق هذه المصاحبة للتشكيل، وأرى بكيفية مختلفة اللوحات على نحو شعري،بالقصيدة ،ليسبالتأكيد وفق الدلالة الرومانسية.هكذا أنجزت أعمالا كثيرة مع فنانين تشكيليين،أصدقاء، مغاربة،عرب و أوروبيين.أذكر على سبيل المثال،الخطاط مهدي قطبي،والفنانين التشكيليين ضياء الزاوي وكوليت دوبلي وكذا بعض الرسامين اليابانيين والكنديين. أبقي على لقائي مع هؤلاء مفتوحا،بحيث لايمكنني التكهن بأي شيء.
س-هل تعود لكم فكرة تخليد يوم عالمي للشعر؟
ج-لقد أنجزت جل مقتضيات المهمة.فقد كان من المتعذر تصور أن بلدا عربيا يمكنه تقديم طلب من هذا النوع والاستجابة له. استُمع إلى صوت الشعراء.هو أمر جيد بالنسبة للجميع. للأسف،لم تعد دلالة اليوم كما الشأن مع فلسفة فكرة البداية. لكن،لايهم.
س- لقد كتبتم خطابا تحت عنوان : ''الحق في الشعر''.إذن تطالبون بهذا الحق.
ج-تماما.يتم الحديث حاليابالنسبة لمشهدناالثقافي،عن زمن الرواية.أنا أقول إننا نعيش حاليا لحظة زمن الأدب،لاروايةولاشعر. وإن أعلنت الرواية الحرب على الشعر،فالقصيدة تنأى عن ذلك. تصاحب القصيدة الممارسات الأدبية والفكر المعاصر.تنعم بالحياة دائما. يعتبر الاهتمام المكرَّس للشعر نفسه،الذي تحظى به اللغة.تحافظ القصيدة فعليا على اللغات.فهذه الطاقة الاستثنائية التي تستمدها القصيدة من اللغة تبقي هذه الأخيرة حية.بوسعها حينئذ الانسياب مشحونة بالقوة، ثم الرحيل نحو فضاءات أخرى.يلزم الإقرار بالحق في الشعر ضمن سياق أضحت معه العولمة عمياء تخرب قيم الإبداع الكبرى.تحظى مختلف الأجناس الأدبية الأخرى والفنية بمكانة في مجتمعنا وبالنسبة لحياتنا البشرية.فالقصيدة التي نطرحها تمثل منبعا أساسيا للحياة،وكذا هذا الخطاب الذي يوحدنا ويسمح لنا بالذهاب ضمن سياق الغامض واللامكتَشَفواللامرئي.يلزم إذن الاحتراس من دعوتهم إلى خوض حرب ضد القصيدة ومن ثمة نسيانها.
-هامش :
مرجع الحوار :
Publié par El Watan :30decembre 2009.

الأربعاء، 20 نوفمبر 2019


الروائي جوزيف كيسيل في سوريا :
حكايات رحلة سنوات العشرينات(2/ 5)
ترجمة : سعيد بوخليط


عندما قصفتُ السويداء:

خلال الحرب، عاينت كثيرا من مهابط الطائرات. ابتداء، من منطقة بيكاردي الفرنسية، وصولا إلى الأردن ، مرورا بصربيا ورومانيا وكذا فلسطين،انطلاقا من وظيفتي كضابط أو صحفي، بحيث عبرت العديد منها، سواء تلك المنطلقة منها الطائرات أو ترسو على مدرجها.شاهدت هناك حيوانات أليفة مختلفة وداخل محميات :كلاب وقطط وماعز بل وخنزير.غير أني لم أصادف قط غزالا، حتى مجيئي دمشق.

أظهرها إلي قائد السرب، متجولة بخيلاء وسط سياج، لطفها لا يضاهى.لينة ومرنة عضلاتها، تسير منتصبة مثل سيقان فتية، تمتلك عيونا جميلة تسلب ،غير مبالية أبدا بالهدير الهمجي للآلات البشرية.

ترجلنا صوب حانة قريبة جدا،كي نتناول ونحن نثرثر كثيرا مشروب العَرَق، الذي يشبه مذاقه ولونه نبات الأفسنتين.

أتملى الرفقة، المحيطة بي، يقارب عددهم ستة من الشباب الحيوي،المتأهب.وجدت هؤلاء ثانية، مثلما اكتشفتهم خلال الحرب، بحيث عاشرتهم سلفا طيلة سنتين.

لقد حلقوا فوق خنادق منطقتي شامبان و فيردان،وقمم المغرب الجبلية القاحلة.تأملوا من خلف أجنحة طائراتهم، الانسياب البطيء لنهر الفرات.مع ذلك، لا شيء يظل ماثلا أمام أعينهم الصادقة، سوى نداء هائل،لا يدركونه بأنفسهم، وكذا الوضوح الجدير برؤيته.

لأني صاحبت هؤلاء ، وقد مر حتى اللحظة زمن طويل وأنا أسعى إلى رسم، عبر صفحات كتاب لا يستوفي الغرض، روحهم البسيطة والجريئة،تبادلوا معي أطراف الحديث بكل ثقة :
-“الحظ بجانبنا، يخاطبني قائدهم(ثم لمس الخشب)هذا كل ما بوسعي قوله.لم نفقد سوى ربانا واحدا، واقعة لا قيمة لها، قياسا للعمل المطلوب إنجازه.تصوروا، أني أشرف على فيلق حلق أفراده لمدة ستة أشهر، ما يناهز أربعمائة ساعة، أي نفذوا ما يعادل مائتين وثلاثة مهمة حربية. بالتأكيد، لا يوجد هنا طيارون يطاردهم الألمان، لكن مبدئيا يعتبر كل عطب قاتلا.أولا،أرض نتيجة أرض المعركة، ثم من جهة أخرى مقاتلي طائفة الدروز. الذين يضعوننا بشكل مرعب أهدافا لهم إذا وقعنا بين أياديهم، بحيث ينتظرنا الموت ثم التمثيل بنا.هل تعلمون أنهم يأكلون قلب المحاربين كي يحصلوا على بأس شديد! أيضا يعتبرون قناصة مهرة،أشار طيار آخر.لقد عدت ذات مرة بعشرين رصاصة،اخترقت جدار الطائرة”.
يدخل، شاب قوي مرتديا سترة من الجلد، وعصابة تشد جبهته :

-هل أنت جاهز،يسألني،يلزمنا الذهاب.

كنت مرتاحا جدا، مع هؤلاء الأصدقاء طيلة ساعة، مسافرا بخيالي في الزمان والمكان، إلى أن فاجأني النداء.وقد نسيت ضرورة زيارتي درعة، بينما خط السكة الحديدية غير جاهز، لذلك حصلت على الترخيص، بهدف الرحيل إليها بواسطة طائرة.

-استبقني الربان بالقول، أثناء تحليقنا: سنقوم بانعطافة صغيرة، نحو السويداء كي أقصفها.لقد سعيت خلال لحظة- مضيفا-إلى تغيير المسافر،لكن بما أنكم تحيطون بآليات المناورة،فستقومون بالعمل أفضل من أي شخص ثان.هل اتفقنا؟ سأمر فوق المدينة، وسأشير عليك بحركة مني.

المروحية، الأوامر الروتينية…،هدير المحرك، وحش متلهف، فالانطلاق نحو الفضاء الكبير الجذاب،مع كتله الهوائية،ثم هاهي الأرض قد أضحت بعيدة.

كم جميلة دمشق وأنتَ تراها من ذاك العلو ! متمدِّدة كامرأة طويلة ورشيقة، تنبسط الأعضاء باسترخاء وسط غمدها الأخضر. مناراتها، الدقيقة والناصعة جدا،تحفها غابة مقدسة.

بقدر ما نبتعد عنها، تموت الحدائق شيئا فشيئا.تليها حقول، ثم مروج. لكن ماهذه الرقع الحمراء والوردية؟ من أين اكتست الشفافية الشبيهة بنبات البتلة؟ هل تظل أرض بهذا اللون،استثنائية ؟أو أزهار ذبلت، لا تغدو كونها مجرد تعبير وفق أسلوب فن الباستيل؟.
فجأة، يتغير المنظر.احتاج ذلك لثوان معدودة.لا اخضرار، لا أصباغ ساحرة، ولا حتى اللوحات النوعية التي ترسمها مراعي حظائر الحيوانات.فقط ركام هائل من الحجر،ثم تضاريس متشنجة وكتلة بركانية، متعرجة، محفورة بظلال، وتدفقات ملؤها الحمم، صحراء مرعبة، حيث تشع من هنا وهناك، كأحجار كريمة، بِرك ماء أزرق، إنها منطقة الجية،المركز الأمامي لجبل الدروز.

لا أعثر على الوصف المناسب، كي أرصد ما يتضمنه هذا الفضاء من جانب تراجيدي ولا إنساني ،أو أي سرد قد يلهمني هذه النظرة، والسماح لي بفهم خطر التحليق فوق سماء هذا البلد الثائر.أبسط عطب في الطائرة، معناه الموت بلا رحمة.

يلتفت الطيار نحوي، مظهرا ميزان الحرارة، الذي يكشف عن مناخ غير مطمئن.أتذكر،تبلل وجهي.بلا شك، تصدع جهاز أنبوب التبريد وبدأ المحرك يسخن بكيفية خطيرة.رغم ذلك، أكدت إشارة الطيار،عن إصراره لمواصلة التحليق غاية السويداء.

ثم ها نحن عند منحدر جبل، إنها العاصمة الدرزية. تبدو عبوسة وخشنة. نبتعد عنها، نلاحظ بجلاء قلعة مدمَّرة، بعد أن غادرها الجنرال غاملان وسلم الموقع.

لم يعد، يتعلق الأمر آنيا، بالسفر كسائح.أركز عيناي مرة على الطيار، وحينا آخر جهة الصفيحة الزجاجية، الكامنة في عمق حجرة الطائرة، التي تمكن من رؤية المشهد عموديا.أنتظر، كي ينجح القصف،المسألة رهينة بثوان.

تبدو تحت قدماي، أولى المنازل، بحدائق صغيرة.يرفع الطيار ذراعه معلنا نقطة الصفر، فأطلق النار.تبعث المدينة بعاصفة أولى من الدخان،ثم ثانية وثالثة. غيرت الطائرة،اتجاهها.
بعد انقضاء نصف ساعة، حطت الطائرة، بغير ارتجاج، على أرض درعة، أمام شمس بصدد الإعلان عن لحظة غروبها.

من جديد خمَّارة ، والجلوس رفقة جماعة الشباب.طراوة نسيم ناعم،يصاحب الغسق السريع. تدوي الضحكات.غدا عند الفجر، ستنطلق الطائرات من أجل توجيه وحماية الرتل العسكري، الذي سيزحف على السويداء.

إني أحلم، لقد تمكنت صدفة جراء فضول المهنة، من تلمس الخطر الذي يسرع نحوه هؤلاء الشباب غير المكترث.ببساطة، ينجزون كل يوم ذات المهمة، بانشراح.يعشقون التحليق، وقدموا إلى هذه الجغرافية بمحض إرادتهم.

ماذا يلتمسون إذن مني، أن أقوله في فرنسا لصالحهم :
فقط مايلي :

-هل يمكننا الحصول على كتب؟

-وكذا التحاق مراسلات حربيات بصفوفهم؟

القسّ الليلي :

-هل تسمحون،أن أطفئ؟ بسبب العوض.

ينفخ رفيقي بفمه نحو القنديل. هو قس بروتستانتي، مهمته اصطحاب الجنود إلى جبل الدروز.بالكاد، اختلست فرصة كي أرمق وجهه ،بملامحه الصارمة،المتناسقة، غير المتجلية بوضوح،نتيجة تشويش الوميض الملتهب، المبعث من فتيلة الفحم.أيضا،غرفة الفندق،الوسخة جدا، التي احتضنتنا تلك الليلة، لم أتبينها أركانها كفاية، دون أن أبدي قط أسفا بهذا الخصوص، مادامت ستثير سلفا إغمائي حين رؤيتها.

الآن، تكتنفنا ظلمة، ليس كليا، مادام بوسعنا أن نرى عبر النافذة، إضاءة محطة القطار في درعة، حيث ننتظر القطار المتجه إلى دمشق والمتأخر بنصف يوم.فقد خربت السكة الحديدية الليلة الماضية على امتداد كيلومترين تقريبا.

لم تتجاوز بعد الساعة التاسعة ليلا، بيد أن المدينة العربية الصغيرة استغرقها سبات.صمتت ،أصوات السوق الصاخبة، وتوقفت أبواق الفونوغرافات الضخمة، ولم تعد تتغنغن وسط المقاهي.بين الفينة والثانية،تطرق قارعة الطريق مشية سريعة لحصان، يمر بدوي أو بعض مسافري الليل الغامضين.

أشعل القس سيجارة. مما أحدث وسط الظلمة نقطة ملتهبة، يصعب أن يفارقها نظرك .
-من أجل طرد البعوض، خاطبني.

فعلا شرع يمارس حولنا دورانه النابح والجهنمي.

-ونحن وسط غرفة منغلقة !يتحدث القس.غدا تبدأ الحملة العسكرية.لكن كم يمضي من الوقت قبل العثور على سرير؟.

نطق بمصطلح ينتمي إلى لغة العامة، دون تكلف،باعتباره عسكريا.يشعرك، بتآلفه مع الجند،وقد ألهموه اللغة والفكر.

أستمع إليه بانتباه متواصل، لأن هذا الرجل، المتجلية وظيفته في الإصغاء إلى قلوب الآخرين،يبدو لي مع خلوة الليل، المخفية لملامح وجهينا، نفس صوت الكائنات البسيطة المقاتلة في الجبال السورية.

– لقد أحسنا صنعا بمنح الرجال قليلا من الراحة، قبل المعركة، أضاف رفيقي في الغرفة. ثم ليس كافيا.أدرك جيدا استحالة القيام، بما هو أفضل، فالجنود يصلون أحيانا إلى منتهى قوتهم ويستنفذونها، إذن عليهم أن يكونوا باستمرار متأهبين.

“ثم ألا ترون، ضرورة الانتهاء من هذا.فلا شيء، يزعج العقول أكثر من الإحساس بالعبث.نريد فعلا أن نقاتل بفعالية، لكن إذا كان هذا مفيدا في نهاية المطاف.ينتابنا هنا شعور مفرط مفاده أننا نكرر بشكل لانهائي حبكة أسطورة بينيلوبي .

“لماذا نُعامِل في فرنسا، باحتقار جيشنا المتواجد على الأراضي السورية؟أريد التأكيد لكم، أن رجالنا بالرغم من معرفتهم القليلة بالسياسة، يشعرون بذلك. مما يؤثر،على درجات معنوياتهم.في المقابل،يجد العدو نفسه متحمسا.

غير بعيد، ينبعث دويّ صفير ولهاث .

-حتما، لقد وصل قطار دمشق، يشرح القس.ينبغي، الانتهاء من إصلاح المصفحات. بالمناسبة، هل تعلمون كيفية تمرنهم على قطع الطريق؟ إنهم يفكون، الخطوط الحديدية إلى جهتين متباعدتين تماما ، ثم يرجعونها بحبال تجرها جمال وحمير.الطريقة، بدائية جدا. لكن المثير للاهتمام، استلهام المسألة . إبان السنة الماضية،لم يخطر بأذهان المتمردين، نجاعة خلق اضطرابات فيما يتعلق بحركة المرور، ولم ترد إلى عقولهم أهمية ذلك.مما يدل على أنهم حاليا، يضمون أشخاصا متعلمين، يفتقدهم تسيير البلد.

ثم حدثني القس عن الدروز.

-لا يمكننا الوثوق فيهم، يقول.بل ديانتهم تدعوهم إلى الخداع،من أجل تدارك نقصهم العددي وسط المحيط الإسلامي.

استفاض رفيقي متكلما عن هذه الملّة السرية والغريبة، الجامعة بين كل الاعتقادات، ومعلنة من بين شخصياتها المقدسة إبراهيم وموسى وعيسى ومحمد، مؤمنة بالتناسخ وتعتقد بوجود الجنة في الصين وراء السور العظيم، إلى جانب الشمس الدائمة الشروق.
-مع أشخاص كهؤلاء، يضيف القس، يجدر بك تبني الحذر الشديد، فلا يمكننا معاملتهم على الطريقة الأوروبية.إن رجلا، يعرف كيفية التحدث معهم، أفضل من صنيع كتيبة عسكرية.هنا،بوسع السلطة الشخصية، خلق معجزات، مثل ذاك الكولونيل المتواجد في دمشق، الذي يقوم مقام فرقة عسكرية مجتمعة.تأملوا إنجازات،كولي الصغير.

نعم، كولي الصغير !سمعتهم يرددون هذا الاسم في كل مكان ،بنفس المحبة والتقدير. ملازم أول، صاحب هيئة خجولة، يستحيل على وجه التقريب، أن تنزع كلمة حوله في سوريا، أفضل من المجد : هو أسطورة.الرجل الذي أشرف على تأطير سرايا الشركسيين،وكذا ربما أفضل الجنود الفرنسيين المتواجدين في سوريا،لأنهم أكثر المتأقلمين مع أجواء البلد والصادحين باحتقارهم المطلق للموت.

فرسان القوقاز، المدَرَّبين من طرف الأتراك بغية محاربة المتمردين،لا يتطلعون إلى شيء ثان سوى الحرب، ويزدرون المهن الدنيئة التي تمكن من اكتساب المال، غير مهن السلاح. يزرعون حقولهم،بجنود مرتزقة، مترقبين فقط لحظة ،شد سروج جيادهم، والإسراع إلى تناول بنادقهم، الجاهزة دائما.

والحال، أنه جراء واحدة من لقاءاته العجيبة، بحيث لا شيء يوحي بإمكانية عثور هؤلاء الآسيويين الشرسين، على قائد وملهم، في شخص فتى متحفظ.يحرضهم بشجاعة، وقد أبدى تعطشا مستمرا لمغامرات،تسكرهم أكثر من مفعول الخمر. هكذا دخل وحيدا قرية متمردة، قاصدا مباشرة زعيمها، فأرداه قتيلا رميا بالرصاص، ثم غادر سريعا بجواده ، دون أن يفكر شخص في إطلاق النار عليه. زعيم، يتعهد دائما بقيادة فرسانه، متجردا من أيّ سلاح آخر سوى سياط، متقدما بهم صوب الوجهة التي يريد،لأنه بحكم بسالته المجنونة،سيمر أمام هذه العقول البسيطة والخرافية، باعتباره كائنا معصوما.
تأوه القس،بعد تتمته لوصفه :

-كولي الصغير، يقود عددا من عناصر الفيلق. حاليا، نفكر في ترقيته إلى رتبة مقدم، بما أنه أنجز كل المطلوب.

أتذكر في هذا الإطار، أنهم نسبوا إلى السيد دو جوفنيل، التعليق التالي، على زعيم الشركس الشاب :
“بالتأكيد، حقق نجاحا مبهرا، لأنه مجرد ملازم أول”.

معسكر الجنود :

غادر فجرا، الجنود السائرون نحو السويداء،وعلينا الالتحاق بهم في المعسكر.
تطوي السيارة طرقا سوية، وسط غلة حصاد رائع، لم تعرف سوريا موسما مثله منذ زمان.قرى، بسطوحها المعتمة، وأبوابها الواطئة، تساعد أحيانا على تحديد اتجاه الطريق.ثم، تبدو للعيان تحت الخيمة الزرقاء للسماء الممتدة، تلك الخيم البيضاء للمعسكر.
تحت القماش المرفوع، ينام الرجال الواحد إلى جوار الثاني.تظهر صفوف الأجساد الداكنة،من خلال نومهم الثقيل، القوة وكذا الشعرية المباغتة للأرض. خيول تصهل، بجوار شاحناتهم.وفي مكان أبعد،على يمين الطريق، يتناول ضباط غذاءهم.نسيم قوي،ينتشل كلامهم بعيدا،ويهز الأقمشة المعقودة حول القبعات العسكرية.
نزلنا من السيارة.ساجلهم الجنرال طويلا ثم توقف فجأة. لأنه رأى على بعد أمتار منه، رجلا أسمر، صاحب عينين متوقدتين، جامدا في موضعه.أحزمة خراطيش، توشح صدره المنتفخ،وتلمع أسنان وحش تحت شاربه الأسود-الأزرق.

-إنه قائد جماعتنا من مقاتلي الدروز، أخبرني الجنرال.

حينما لاحظ اندهاشي،انطلق يشرح مبتسما :

-نعم يصطحبنا خمسون فارسا دورزيا. سنوظفهم كمرشدين. وسيشكلون طليعة الرتل. إنهم أوفياء، ولا يتعبون.يعتبر هذا التجمع الأول، مفيدا. انتظر، سأدخل البهجة إلى قلبه.
ثم خاطب بواسطة مترجم قائد الدروز، الذي بقي منتصبا كتمثال.

تحدث الجنرال مشيرا بيده نحوي :

-هو مبعوث من فرنسا، أتى للوقوف على كيفية تصرف الدروز.سيكون سعيدا،لإخبار رئيس الجمهورية، بأنك ورجالك تشكلون حلفاء أوفياء لبلدنا.

توقدت عيناي الرجل الجبلي الملتهبتين، بوميض أكثر لمعانا، لأن العبارة أصابت بيت القصيد.وأنا أتأمل دلالة هذا المشهد الصغير، بدأت أتجول في المعسكر. فضاء شاسع، ومفعم بالحيوية.بالتالي، يلزم وقت، للقيام بالجولة.لكن فجأة، وأنا أهم بمغادرة القرية العربية البئيسة التي تمثل مركزه، افتقدت رغبة مواصلة هذه الجولة؟ لماذا رؤية بعض الجنود، يجرون بغالا نحو ينبوع، أذهلتني إلى هذا الحد؟.

يرتدون مثل باقي الآخرين، ألبسة عسكرية صفراء يكتسيها الغبار.لا شيء يميز مظهرهم.لكن تأكْسد سحن وجوههم، وتعابير نظرتهم ، ثم شجاعة وصلابة جباههم، مختلف ذلك أضفى جلاء مؤثرا.عندما سمعت أحدهم يقسم بالألمانية وآخر بالروسية، فهمت بسهولة.
الفيلق !

هذه الكلمة، بالنسبة لكل فكر يفتتن سريعا بالمدهش والشجاع والصدفة والسلطة الساحرة.كيف لا نتحمل، انجذاب هؤلاء الرجال نحو ماض زائل، ثم يعثرون على أقصى درجات ملاذهم في متاعب ومخاطر حرب أبدية ؟.

يمرون ببطء، بانضباط ، خلف الدواب.ملامح وجوههم صارمة، كألغاز، رؤوسهم مكشوفة.الشمس الحارقة لا تضعف عزيمتهم،بل يحملونها سلفا من خلال طبقات كَلَف كثيفة،تعلو الخدود والرقاب والجباه.عظامهم عقدية،عيونهم شاردة.يسيرون بهدوء،متجهمين وصامتين.

كانوا في المغرب.وحاليا في سوريا.لا يهم !ألم يكرسوا أنفسهم،إلى مهنة مرعبة اختاروها، تتشابه في كل مكان. أيضا، سينتقلون بعد أشهر، إلى بلدة راشيا للدفاع عنها ضد عدو، يتجاوز حجم العدو الحالي بعشرات المرات، والذين حينما شاهد أفراده الدروز يجتاحون ساحة القلعة،صاحوا :”أيها الفيلق الجسور !”ومن تلقاء أنفسهم،دون انتظار لأمر، شرعوا يقاتلونهم بالحِراب ،ويمنعون الضباط من المشاركة في المعركة، مخاطبين إياهم :”إنها مهمتنا ولا شأن لكم بها”.

أي رُقية غامضة، تدفع هؤلاء الألمان كي يقاتلوا بالفعل كثيرا من أجل فرنسا؟لماذا يقبل هؤلاء الروس، أصحاب النظرات الوديعة، على الموت في منحدرات الجبل ؟فلا شخص فسر هذا الأمر،أو بوسعه تفسيره.

حاولت مع ذلك الحصول على جواب من لدن جماعة ضباط التقيتهم. لكن،لا واحد منهم أفادني،سواء الطبيب الشاب، صاحب وجه غض جدا وبشوش للغاية، يبدو كأنه لازال منتميا لأحد أزقة الحي اللاتيني، ولا الملازم الأول، بملامحه المتزهدة، ولا القائد المدهش ذي اللحية البيضاء كالثلج، فتجعله شبيها ببطريرك.

من الملاحظ أيضا، أن السؤال لم يزعجهم قط.امتلكوا عادة معينة بخصوص رجالهم، بحيث لا يستفسرون أبدا عن مبرر تجمعهم.لا يهمهم الماضي مطلقا.يكفيهم الحاضر، لأنه بصفة عامة ينطوي بما يكفي على الطارئ،كي يستغرقهم.

-هل تعلمون، خاطبني العسكري الشاب، برتبة رائد، أن الجندي الوصيف، هرب وتخلى عني.وجدت هذا الصباح رسالة من طرفه.ظل مهتما بترتيب شؤوني، بدقة متناهية، ولطيفا معي غاية اعتباري وريثا جديرا به. كان رجلا وفيّا.

-إننا قريبين جدا من فلسطين، يفسر القائد صاحب اللحية البيضاء.يشتغل رجالنا في القنصلية الألمانية بحيفا.تسع وعشرون ضمنهم،غادروا لبعض الأيام.
– لازال واحد منهم مستمرا!صاح الطبيب.

التفتت نحوه. بقيت منذهلا.شخص فارع الطول، قوي، أسمر،يتجول عاريا وسط المخيم، يحمل إناءين كبيرين ممتلئين تماما.تنتفخ عضلاته مع كل حركة يقوم بها،مثل حلقات سلسلة.يتصبب العرق بغزارة،على صدره الشبيه بصدر ثور، وكذا أكتافه التي تبدو كتلا من الفولاذ،وعلى العنق،عمود غير قابل للكسر.

-إنه أستاذ للتربية البدنية،أتى من فيينا،تابع الطبيب كلامه.حينما ينهي أعماله المرهقة،يقرأ على مسامع رفاقه المقاطع الشعرية الأكثر عذوبة.

-البلهاء الجلفين ،يقول القائد، لا ينبغي أن نعهد لهم القيام بمهام معينة.
ضغطت عليه كي يستطرد في الشرح.رفض. لكن فيما بعد فهمت ما جرى.وأعيد تكرير الواقعة هنا،لأنه قد تتجلى حماقات لا تستسيغها بعض السياقات.

تشغل وحدة عسكرية موقعا بالقرب من دمشق. تتوصل مرة كل شهر برسائل لها وكذا رواتبها. لكن ذات مرة فاجأ بعض قطاع الطرق ساعي البريد المكلف بالتوزيع، فقتلوه وسلبوه جل ممتلكاته. النتيجة، لم يتوصل أفراد السرية خلال ذلك الشهر برسائلهم ورواتبهم.

بالنسبة للقضية الأولى، يستحيل القيام بأي شيء. لكن ماذا عن مستحقاتهم المالية؟ آلاف الفرنكات، يحتاجها هؤلاء الرجال الذين لم يبخلوا قط بحياتهم، وتعيش العديد من عائلاتهم في سوريا؟ثم بعد مرور ما يقارب سنة على الحادثة، لم يتم تعويضهم.

لماذا؟ لأنه كما قيل، ينبغي عرض الأمر على المسؤولين في باريس، غير أنهم يجهلون، طبيعة موضوع صرف هذه الميزانية غير المنظورة.

إذن فقط احتراما لدفاتر الحسابات، نحكم بالانتظار على الذين سيطروا على بلدة راشيا ثم السويداء،في أقل من سنة.أشعر بامتعاض،وأنا أعيد التذكير بالواقعة، لكن ما العمل؟ مادامت ربما تبقى الوسيلة الوحيدة لإنهاء جور من هذا القبيل، بحيث لا ندري هل يشكل حماقة أكثر من كونه فضيحة، أم العكس.

*المصدر: جوزيف كيسيل : في سوريا؛غاليمار؛2014 .