الأربعاء، 20 نوفمبر 2019


الروائي جوزيف كيسيل في سوريا :
حكايات رحلة سنوات العشرينات(2/ 5)
ترجمة : سعيد بوخليط


عندما قصفتُ السويداء:

خلال الحرب، عاينت كثيرا من مهابط الطائرات. ابتداء، من منطقة بيكاردي الفرنسية، وصولا إلى الأردن ، مرورا بصربيا ورومانيا وكذا فلسطين،انطلاقا من وظيفتي كضابط أو صحفي، بحيث عبرت العديد منها، سواء تلك المنطلقة منها الطائرات أو ترسو على مدرجها.شاهدت هناك حيوانات أليفة مختلفة وداخل محميات :كلاب وقطط وماعز بل وخنزير.غير أني لم أصادف قط غزالا، حتى مجيئي دمشق.

أظهرها إلي قائد السرب، متجولة بخيلاء وسط سياج، لطفها لا يضاهى.لينة ومرنة عضلاتها، تسير منتصبة مثل سيقان فتية، تمتلك عيونا جميلة تسلب ،غير مبالية أبدا بالهدير الهمجي للآلات البشرية.

ترجلنا صوب حانة قريبة جدا،كي نتناول ونحن نثرثر كثيرا مشروب العَرَق، الذي يشبه مذاقه ولونه نبات الأفسنتين.

أتملى الرفقة، المحيطة بي، يقارب عددهم ستة من الشباب الحيوي،المتأهب.وجدت هؤلاء ثانية، مثلما اكتشفتهم خلال الحرب، بحيث عاشرتهم سلفا طيلة سنتين.

لقد حلقوا فوق خنادق منطقتي شامبان و فيردان،وقمم المغرب الجبلية القاحلة.تأملوا من خلف أجنحة طائراتهم، الانسياب البطيء لنهر الفرات.مع ذلك، لا شيء يظل ماثلا أمام أعينهم الصادقة، سوى نداء هائل،لا يدركونه بأنفسهم، وكذا الوضوح الجدير برؤيته.

لأني صاحبت هؤلاء ، وقد مر حتى اللحظة زمن طويل وأنا أسعى إلى رسم، عبر صفحات كتاب لا يستوفي الغرض، روحهم البسيطة والجريئة،تبادلوا معي أطراف الحديث بكل ثقة :
-“الحظ بجانبنا، يخاطبني قائدهم(ثم لمس الخشب)هذا كل ما بوسعي قوله.لم نفقد سوى ربانا واحدا، واقعة لا قيمة لها، قياسا للعمل المطلوب إنجازه.تصوروا، أني أشرف على فيلق حلق أفراده لمدة ستة أشهر، ما يناهز أربعمائة ساعة، أي نفذوا ما يعادل مائتين وثلاثة مهمة حربية. بالتأكيد، لا يوجد هنا طيارون يطاردهم الألمان، لكن مبدئيا يعتبر كل عطب قاتلا.أولا،أرض نتيجة أرض المعركة، ثم من جهة أخرى مقاتلي طائفة الدروز. الذين يضعوننا بشكل مرعب أهدافا لهم إذا وقعنا بين أياديهم، بحيث ينتظرنا الموت ثم التمثيل بنا.هل تعلمون أنهم يأكلون قلب المحاربين كي يحصلوا على بأس شديد! أيضا يعتبرون قناصة مهرة،أشار طيار آخر.لقد عدت ذات مرة بعشرين رصاصة،اخترقت جدار الطائرة”.
يدخل، شاب قوي مرتديا سترة من الجلد، وعصابة تشد جبهته :

-هل أنت جاهز،يسألني،يلزمنا الذهاب.

كنت مرتاحا جدا، مع هؤلاء الأصدقاء طيلة ساعة، مسافرا بخيالي في الزمان والمكان، إلى أن فاجأني النداء.وقد نسيت ضرورة زيارتي درعة، بينما خط السكة الحديدية غير جاهز، لذلك حصلت على الترخيص، بهدف الرحيل إليها بواسطة طائرة.

-استبقني الربان بالقول، أثناء تحليقنا: سنقوم بانعطافة صغيرة، نحو السويداء كي أقصفها.لقد سعيت خلال لحظة- مضيفا-إلى تغيير المسافر،لكن بما أنكم تحيطون بآليات المناورة،فستقومون بالعمل أفضل من أي شخص ثان.هل اتفقنا؟ سأمر فوق المدينة، وسأشير عليك بحركة مني.

المروحية، الأوامر الروتينية…،هدير المحرك، وحش متلهف، فالانطلاق نحو الفضاء الكبير الجذاب،مع كتله الهوائية،ثم هاهي الأرض قد أضحت بعيدة.

كم جميلة دمشق وأنتَ تراها من ذاك العلو ! متمدِّدة كامرأة طويلة ورشيقة، تنبسط الأعضاء باسترخاء وسط غمدها الأخضر. مناراتها، الدقيقة والناصعة جدا،تحفها غابة مقدسة.

بقدر ما نبتعد عنها، تموت الحدائق شيئا فشيئا.تليها حقول، ثم مروج. لكن ماهذه الرقع الحمراء والوردية؟ من أين اكتست الشفافية الشبيهة بنبات البتلة؟ هل تظل أرض بهذا اللون،استثنائية ؟أو أزهار ذبلت، لا تغدو كونها مجرد تعبير وفق أسلوب فن الباستيل؟.
فجأة، يتغير المنظر.احتاج ذلك لثوان معدودة.لا اخضرار، لا أصباغ ساحرة، ولا حتى اللوحات النوعية التي ترسمها مراعي حظائر الحيوانات.فقط ركام هائل من الحجر،ثم تضاريس متشنجة وكتلة بركانية، متعرجة، محفورة بظلال، وتدفقات ملؤها الحمم، صحراء مرعبة، حيث تشع من هنا وهناك، كأحجار كريمة، بِرك ماء أزرق، إنها منطقة الجية،المركز الأمامي لجبل الدروز.

لا أعثر على الوصف المناسب، كي أرصد ما يتضمنه هذا الفضاء من جانب تراجيدي ولا إنساني ،أو أي سرد قد يلهمني هذه النظرة، والسماح لي بفهم خطر التحليق فوق سماء هذا البلد الثائر.أبسط عطب في الطائرة، معناه الموت بلا رحمة.

يلتفت الطيار نحوي، مظهرا ميزان الحرارة، الذي يكشف عن مناخ غير مطمئن.أتذكر،تبلل وجهي.بلا شك، تصدع جهاز أنبوب التبريد وبدأ المحرك يسخن بكيفية خطيرة.رغم ذلك، أكدت إشارة الطيار،عن إصراره لمواصلة التحليق غاية السويداء.

ثم ها نحن عند منحدر جبل، إنها العاصمة الدرزية. تبدو عبوسة وخشنة. نبتعد عنها، نلاحظ بجلاء قلعة مدمَّرة، بعد أن غادرها الجنرال غاملان وسلم الموقع.

لم يعد، يتعلق الأمر آنيا، بالسفر كسائح.أركز عيناي مرة على الطيار، وحينا آخر جهة الصفيحة الزجاجية، الكامنة في عمق حجرة الطائرة، التي تمكن من رؤية المشهد عموديا.أنتظر، كي ينجح القصف،المسألة رهينة بثوان.

تبدو تحت قدماي، أولى المنازل، بحدائق صغيرة.يرفع الطيار ذراعه معلنا نقطة الصفر، فأطلق النار.تبعث المدينة بعاصفة أولى من الدخان،ثم ثانية وثالثة. غيرت الطائرة،اتجاهها.
بعد انقضاء نصف ساعة، حطت الطائرة، بغير ارتجاج، على أرض درعة، أمام شمس بصدد الإعلان عن لحظة غروبها.

من جديد خمَّارة ، والجلوس رفقة جماعة الشباب.طراوة نسيم ناعم،يصاحب الغسق السريع. تدوي الضحكات.غدا عند الفجر، ستنطلق الطائرات من أجل توجيه وحماية الرتل العسكري، الذي سيزحف على السويداء.

إني أحلم، لقد تمكنت صدفة جراء فضول المهنة، من تلمس الخطر الذي يسرع نحوه هؤلاء الشباب غير المكترث.ببساطة، ينجزون كل يوم ذات المهمة، بانشراح.يعشقون التحليق، وقدموا إلى هذه الجغرافية بمحض إرادتهم.

ماذا يلتمسون إذن مني، أن أقوله في فرنسا لصالحهم :
فقط مايلي :

-هل يمكننا الحصول على كتب؟

-وكذا التحاق مراسلات حربيات بصفوفهم؟

القسّ الليلي :

-هل تسمحون،أن أطفئ؟ بسبب العوض.

ينفخ رفيقي بفمه نحو القنديل. هو قس بروتستانتي، مهمته اصطحاب الجنود إلى جبل الدروز.بالكاد، اختلست فرصة كي أرمق وجهه ،بملامحه الصارمة،المتناسقة، غير المتجلية بوضوح،نتيجة تشويش الوميض الملتهب، المبعث من فتيلة الفحم.أيضا،غرفة الفندق،الوسخة جدا، التي احتضنتنا تلك الليلة، لم أتبينها أركانها كفاية، دون أن أبدي قط أسفا بهذا الخصوص، مادامت ستثير سلفا إغمائي حين رؤيتها.

الآن، تكتنفنا ظلمة، ليس كليا، مادام بوسعنا أن نرى عبر النافذة، إضاءة محطة القطار في درعة، حيث ننتظر القطار المتجه إلى دمشق والمتأخر بنصف يوم.فقد خربت السكة الحديدية الليلة الماضية على امتداد كيلومترين تقريبا.

لم تتجاوز بعد الساعة التاسعة ليلا، بيد أن المدينة العربية الصغيرة استغرقها سبات.صمتت ،أصوات السوق الصاخبة، وتوقفت أبواق الفونوغرافات الضخمة، ولم تعد تتغنغن وسط المقاهي.بين الفينة والثانية،تطرق قارعة الطريق مشية سريعة لحصان، يمر بدوي أو بعض مسافري الليل الغامضين.

أشعل القس سيجارة. مما أحدث وسط الظلمة نقطة ملتهبة، يصعب أن يفارقها نظرك .
-من أجل طرد البعوض، خاطبني.

فعلا شرع يمارس حولنا دورانه النابح والجهنمي.

-ونحن وسط غرفة منغلقة !يتحدث القس.غدا تبدأ الحملة العسكرية.لكن كم يمضي من الوقت قبل العثور على سرير؟.

نطق بمصطلح ينتمي إلى لغة العامة، دون تكلف،باعتباره عسكريا.يشعرك، بتآلفه مع الجند،وقد ألهموه اللغة والفكر.

أستمع إليه بانتباه متواصل، لأن هذا الرجل، المتجلية وظيفته في الإصغاء إلى قلوب الآخرين،يبدو لي مع خلوة الليل، المخفية لملامح وجهينا، نفس صوت الكائنات البسيطة المقاتلة في الجبال السورية.

– لقد أحسنا صنعا بمنح الرجال قليلا من الراحة، قبل المعركة، أضاف رفيقي في الغرفة. ثم ليس كافيا.أدرك جيدا استحالة القيام، بما هو أفضل، فالجنود يصلون أحيانا إلى منتهى قوتهم ويستنفذونها، إذن عليهم أن يكونوا باستمرار متأهبين.

“ثم ألا ترون، ضرورة الانتهاء من هذا.فلا شيء، يزعج العقول أكثر من الإحساس بالعبث.نريد فعلا أن نقاتل بفعالية، لكن إذا كان هذا مفيدا في نهاية المطاف.ينتابنا هنا شعور مفرط مفاده أننا نكرر بشكل لانهائي حبكة أسطورة بينيلوبي .

“لماذا نُعامِل في فرنسا، باحتقار جيشنا المتواجد على الأراضي السورية؟أريد التأكيد لكم، أن رجالنا بالرغم من معرفتهم القليلة بالسياسة، يشعرون بذلك. مما يؤثر،على درجات معنوياتهم.في المقابل،يجد العدو نفسه متحمسا.

غير بعيد، ينبعث دويّ صفير ولهاث .

-حتما، لقد وصل قطار دمشق، يشرح القس.ينبغي، الانتهاء من إصلاح المصفحات. بالمناسبة، هل تعلمون كيفية تمرنهم على قطع الطريق؟ إنهم يفكون، الخطوط الحديدية إلى جهتين متباعدتين تماما ، ثم يرجعونها بحبال تجرها جمال وحمير.الطريقة، بدائية جدا. لكن المثير للاهتمام، استلهام المسألة . إبان السنة الماضية،لم يخطر بأذهان المتمردين، نجاعة خلق اضطرابات فيما يتعلق بحركة المرور، ولم ترد إلى عقولهم أهمية ذلك.مما يدل على أنهم حاليا، يضمون أشخاصا متعلمين، يفتقدهم تسيير البلد.

ثم حدثني القس عن الدروز.

-لا يمكننا الوثوق فيهم، يقول.بل ديانتهم تدعوهم إلى الخداع،من أجل تدارك نقصهم العددي وسط المحيط الإسلامي.

استفاض رفيقي متكلما عن هذه الملّة السرية والغريبة، الجامعة بين كل الاعتقادات، ومعلنة من بين شخصياتها المقدسة إبراهيم وموسى وعيسى ومحمد، مؤمنة بالتناسخ وتعتقد بوجود الجنة في الصين وراء السور العظيم، إلى جانب الشمس الدائمة الشروق.
-مع أشخاص كهؤلاء، يضيف القس، يجدر بك تبني الحذر الشديد، فلا يمكننا معاملتهم على الطريقة الأوروبية.إن رجلا، يعرف كيفية التحدث معهم، أفضل من صنيع كتيبة عسكرية.هنا،بوسع السلطة الشخصية، خلق معجزات، مثل ذاك الكولونيل المتواجد في دمشق، الذي يقوم مقام فرقة عسكرية مجتمعة.تأملوا إنجازات،كولي الصغير.

نعم، كولي الصغير !سمعتهم يرددون هذا الاسم في كل مكان ،بنفس المحبة والتقدير. ملازم أول، صاحب هيئة خجولة، يستحيل على وجه التقريب، أن تنزع كلمة حوله في سوريا، أفضل من المجد : هو أسطورة.الرجل الذي أشرف على تأطير سرايا الشركسيين،وكذا ربما أفضل الجنود الفرنسيين المتواجدين في سوريا،لأنهم أكثر المتأقلمين مع أجواء البلد والصادحين باحتقارهم المطلق للموت.

فرسان القوقاز، المدَرَّبين من طرف الأتراك بغية محاربة المتمردين،لا يتطلعون إلى شيء ثان سوى الحرب، ويزدرون المهن الدنيئة التي تمكن من اكتساب المال، غير مهن السلاح. يزرعون حقولهم،بجنود مرتزقة، مترقبين فقط لحظة ،شد سروج جيادهم، والإسراع إلى تناول بنادقهم، الجاهزة دائما.

والحال، أنه جراء واحدة من لقاءاته العجيبة، بحيث لا شيء يوحي بإمكانية عثور هؤلاء الآسيويين الشرسين، على قائد وملهم، في شخص فتى متحفظ.يحرضهم بشجاعة، وقد أبدى تعطشا مستمرا لمغامرات،تسكرهم أكثر من مفعول الخمر. هكذا دخل وحيدا قرية متمردة، قاصدا مباشرة زعيمها، فأرداه قتيلا رميا بالرصاص، ثم غادر سريعا بجواده ، دون أن يفكر شخص في إطلاق النار عليه. زعيم، يتعهد دائما بقيادة فرسانه، متجردا من أيّ سلاح آخر سوى سياط، متقدما بهم صوب الوجهة التي يريد،لأنه بحكم بسالته المجنونة،سيمر أمام هذه العقول البسيطة والخرافية، باعتباره كائنا معصوما.
تأوه القس،بعد تتمته لوصفه :

-كولي الصغير، يقود عددا من عناصر الفيلق. حاليا، نفكر في ترقيته إلى رتبة مقدم، بما أنه أنجز كل المطلوب.

أتذكر في هذا الإطار، أنهم نسبوا إلى السيد دو جوفنيل، التعليق التالي، على زعيم الشركس الشاب :
“بالتأكيد، حقق نجاحا مبهرا، لأنه مجرد ملازم أول”.

معسكر الجنود :

غادر فجرا، الجنود السائرون نحو السويداء،وعلينا الالتحاق بهم في المعسكر.
تطوي السيارة طرقا سوية، وسط غلة حصاد رائع، لم تعرف سوريا موسما مثله منذ زمان.قرى، بسطوحها المعتمة، وأبوابها الواطئة، تساعد أحيانا على تحديد اتجاه الطريق.ثم، تبدو للعيان تحت الخيمة الزرقاء للسماء الممتدة، تلك الخيم البيضاء للمعسكر.
تحت القماش المرفوع، ينام الرجال الواحد إلى جوار الثاني.تظهر صفوف الأجساد الداكنة،من خلال نومهم الثقيل، القوة وكذا الشعرية المباغتة للأرض. خيول تصهل، بجوار شاحناتهم.وفي مكان أبعد،على يمين الطريق، يتناول ضباط غذاءهم.نسيم قوي،ينتشل كلامهم بعيدا،ويهز الأقمشة المعقودة حول القبعات العسكرية.
نزلنا من السيارة.ساجلهم الجنرال طويلا ثم توقف فجأة. لأنه رأى على بعد أمتار منه، رجلا أسمر، صاحب عينين متوقدتين، جامدا في موضعه.أحزمة خراطيش، توشح صدره المنتفخ،وتلمع أسنان وحش تحت شاربه الأسود-الأزرق.

-إنه قائد جماعتنا من مقاتلي الدروز، أخبرني الجنرال.

حينما لاحظ اندهاشي،انطلق يشرح مبتسما :

-نعم يصطحبنا خمسون فارسا دورزيا. سنوظفهم كمرشدين. وسيشكلون طليعة الرتل. إنهم أوفياء، ولا يتعبون.يعتبر هذا التجمع الأول، مفيدا. انتظر، سأدخل البهجة إلى قلبه.
ثم خاطب بواسطة مترجم قائد الدروز، الذي بقي منتصبا كتمثال.

تحدث الجنرال مشيرا بيده نحوي :

-هو مبعوث من فرنسا، أتى للوقوف على كيفية تصرف الدروز.سيكون سعيدا،لإخبار رئيس الجمهورية، بأنك ورجالك تشكلون حلفاء أوفياء لبلدنا.

توقدت عيناي الرجل الجبلي الملتهبتين، بوميض أكثر لمعانا، لأن العبارة أصابت بيت القصيد.وأنا أتأمل دلالة هذا المشهد الصغير، بدأت أتجول في المعسكر. فضاء شاسع، ومفعم بالحيوية.بالتالي، يلزم وقت، للقيام بالجولة.لكن فجأة، وأنا أهم بمغادرة القرية العربية البئيسة التي تمثل مركزه، افتقدت رغبة مواصلة هذه الجولة؟ لماذا رؤية بعض الجنود، يجرون بغالا نحو ينبوع، أذهلتني إلى هذا الحد؟.

يرتدون مثل باقي الآخرين، ألبسة عسكرية صفراء يكتسيها الغبار.لا شيء يميز مظهرهم.لكن تأكْسد سحن وجوههم، وتعابير نظرتهم ، ثم شجاعة وصلابة جباههم، مختلف ذلك أضفى جلاء مؤثرا.عندما سمعت أحدهم يقسم بالألمانية وآخر بالروسية، فهمت بسهولة.
الفيلق !

هذه الكلمة، بالنسبة لكل فكر يفتتن سريعا بالمدهش والشجاع والصدفة والسلطة الساحرة.كيف لا نتحمل، انجذاب هؤلاء الرجال نحو ماض زائل، ثم يعثرون على أقصى درجات ملاذهم في متاعب ومخاطر حرب أبدية ؟.

يمرون ببطء، بانضباط ، خلف الدواب.ملامح وجوههم صارمة، كألغاز، رؤوسهم مكشوفة.الشمس الحارقة لا تضعف عزيمتهم،بل يحملونها سلفا من خلال طبقات كَلَف كثيفة،تعلو الخدود والرقاب والجباه.عظامهم عقدية،عيونهم شاردة.يسيرون بهدوء،متجهمين وصامتين.

كانوا في المغرب.وحاليا في سوريا.لا يهم !ألم يكرسوا أنفسهم،إلى مهنة مرعبة اختاروها، تتشابه في كل مكان. أيضا، سينتقلون بعد أشهر، إلى بلدة راشيا للدفاع عنها ضد عدو، يتجاوز حجم العدو الحالي بعشرات المرات، والذين حينما شاهد أفراده الدروز يجتاحون ساحة القلعة،صاحوا :”أيها الفيلق الجسور !”ومن تلقاء أنفسهم،دون انتظار لأمر، شرعوا يقاتلونهم بالحِراب ،ويمنعون الضباط من المشاركة في المعركة، مخاطبين إياهم :”إنها مهمتنا ولا شأن لكم بها”.

أي رُقية غامضة، تدفع هؤلاء الألمان كي يقاتلوا بالفعل كثيرا من أجل فرنسا؟لماذا يقبل هؤلاء الروس، أصحاب النظرات الوديعة، على الموت في منحدرات الجبل ؟فلا شخص فسر هذا الأمر،أو بوسعه تفسيره.

حاولت مع ذلك الحصول على جواب من لدن جماعة ضباط التقيتهم. لكن،لا واحد منهم أفادني،سواء الطبيب الشاب، صاحب وجه غض جدا وبشوش للغاية، يبدو كأنه لازال منتميا لأحد أزقة الحي اللاتيني، ولا الملازم الأول، بملامحه المتزهدة، ولا القائد المدهش ذي اللحية البيضاء كالثلج، فتجعله شبيها ببطريرك.

من الملاحظ أيضا، أن السؤال لم يزعجهم قط.امتلكوا عادة معينة بخصوص رجالهم، بحيث لا يستفسرون أبدا عن مبرر تجمعهم.لا يهمهم الماضي مطلقا.يكفيهم الحاضر، لأنه بصفة عامة ينطوي بما يكفي على الطارئ،كي يستغرقهم.

-هل تعلمون، خاطبني العسكري الشاب، برتبة رائد، أن الجندي الوصيف، هرب وتخلى عني.وجدت هذا الصباح رسالة من طرفه.ظل مهتما بترتيب شؤوني، بدقة متناهية، ولطيفا معي غاية اعتباري وريثا جديرا به. كان رجلا وفيّا.

-إننا قريبين جدا من فلسطين، يفسر القائد صاحب اللحية البيضاء.يشتغل رجالنا في القنصلية الألمانية بحيفا.تسع وعشرون ضمنهم،غادروا لبعض الأيام.
– لازال واحد منهم مستمرا!صاح الطبيب.

التفتت نحوه. بقيت منذهلا.شخص فارع الطول، قوي، أسمر،يتجول عاريا وسط المخيم، يحمل إناءين كبيرين ممتلئين تماما.تنتفخ عضلاته مع كل حركة يقوم بها،مثل حلقات سلسلة.يتصبب العرق بغزارة،على صدره الشبيه بصدر ثور، وكذا أكتافه التي تبدو كتلا من الفولاذ،وعلى العنق،عمود غير قابل للكسر.

-إنه أستاذ للتربية البدنية،أتى من فيينا،تابع الطبيب كلامه.حينما ينهي أعماله المرهقة،يقرأ على مسامع رفاقه المقاطع الشعرية الأكثر عذوبة.

-البلهاء الجلفين ،يقول القائد، لا ينبغي أن نعهد لهم القيام بمهام معينة.
ضغطت عليه كي يستطرد في الشرح.رفض. لكن فيما بعد فهمت ما جرى.وأعيد تكرير الواقعة هنا،لأنه قد تتجلى حماقات لا تستسيغها بعض السياقات.

تشغل وحدة عسكرية موقعا بالقرب من دمشق. تتوصل مرة كل شهر برسائل لها وكذا رواتبها. لكن ذات مرة فاجأ بعض قطاع الطرق ساعي البريد المكلف بالتوزيع، فقتلوه وسلبوه جل ممتلكاته. النتيجة، لم يتوصل أفراد السرية خلال ذلك الشهر برسائلهم ورواتبهم.

بالنسبة للقضية الأولى، يستحيل القيام بأي شيء. لكن ماذا عن مستحقاتهم المالية؟ آلاف الفرنكات، يحتاجها هؤلاء الرجال الذين لم يبخلوا قط بحياتهم، وتعيش العديد من عائلاتهم في سوريا؟ثم بعد مرور ما يقارب سنة على الحادثة، لم يتم تعويضهم.

لماذا؟ لأنه كما قيل، ينبغي عرض الأمر على المسؤولين في باريس، غير أنهم يجهلون، طبيعة موضوع صرف هذه الميزانية غير المنظورة.

إذن فقط احتراما لدفاتر الحسابات، نحكم بالانتظار على الذين سيطروا على بلدة راشيا ثم السويداء،في أقل من سنة.أشعر بامتعاض،وأنا أعيد التذكير بالواقعة، لكن ما العمل؟ مادامت ربما تبقى الوسيلة الوحيدة لإنهاء جور من هذا القبيل، بحيث لا ندري هل يشكل حماقة أكثر من كونه فضيحة، أم العكس.

*المصدر: جوزيف كيسيل : في سوريا؛غاليمار؛2014 .

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق