الاثنين، 21 أكتوبر 2019

الرسائل الغرامية بين ألبير كامو وماريا كازارس/ ترجمة : سعيد بوخليط



*من ألبير كامو إلى ماريا : الخميس5 غشت 1948
                                الرسالة رقم (22)
شكرا،عزيزتي.لقد توصلتُ البارحة بمَبْسَمِ السيجارة الرائع (1).ولأن مصدر الهدية أنتِ، فقد كنت متحفزا جدا.ولازلتُ كذلك خلال كل مرة أستعمله.أيضا،كنتُ في حيرة من أمري. وددتُ منكِ شيئا صغيرا جدا بلا أهمية.وأنتِ اخترتِ تقديمها على الطريقة الاسبانية ! آه كم أعشق قلبكِ.
أتمنى أن تصلني رسالة منكِ خلال أقرب وقت.أفتقد أخباركِ.هل تتواجدين حاليا في أور (إقليم فرنسي)،مثلما أتمنى،وهل أنتِ سعيدة.بالأمس رافقتُ روني شار إلى أفينيون كي يسافر بالقطار صوب باريس(2).بينما أنا، على الأقل، أواصل عملي.أكتب،إنه الشيء الوحيد الذي يبقيني متصلا بكِ حسيا.لقد أعدت ترتيب هيكل مسرحية ''جحيم قادس''(3) وأنا بصدد إضافة مشهد آخر!لكني لست متيقنا بأني على صواب،وربما أنهي كل شيء، ثم أترك النص حسب صيغته الأولى.على أية حال،سأحسم هذه المسألة يوم 10 غشت.بعد ذلك، سأنتقل إلى نص مسرحي آخر(4).آه !لقد قررتُ العودة يوم  10شتنبر بدل تاريخ 15.
أتمنى التوصل بعنوان إقامتك مضبوطا في منطقة أور(5). آنيا، وتوخيا لمزيد من الحذر، سأكتب لكِ حيث أنتِ ثم أقتفي من بعيد محطات انتقال الرسالة.لكن هذا يهدر الزمان. اكتبي إلي، أخبريني بكل ماتفعليه عزيزتي ناتاشا وجل مايحدث عندكِ.
هي رسالة سريعة لأن ساعي البريد، ينتظرني خلف الباب.لكني أضمِّنها ذخيرة من مشاعر الامتنان والابتهاج والحنان والصراخ والعواطف والاشتياق،ثم كل العشق الذي بوسعكِ تحمّله.
إلى اللقاء عزيزتي أقبِّلكِ، أحضنكِ، أعانقكِ.
هوامش :
1-    فمُ-السِّيجارة.
2-التقى ألبير كامو روني شار سنة 1946،بمناسبة إصدار غاليمار لكتاب :أوراق للاسترخاء،ضمن سلسلة "أمل" التي يشرف عليها ألبير كامو. هكذا ترسخت صداقة بين الكاتبين اللذين يشتركان في ارتباطهما بإقليم يفوكلوز ولوبرون.
3-شكَّل "جحيم قادس"،عنوانا مؤقتا لمسرحية حالة الطوارئ.
4- مسرحية : العادلون.
5-أقامت ماريا كازارس وأبيها في فندق بودي، المتواجد بمنطقة جيفرنيمنذ31  يوليو1948.بعد أيام التحق بهما جيرار فيليب. خلال هذه الفترة كتبت ماريا مذكراتها، التي استحضر جانب منها مشاعرها نحو ألبير كامو،ثم أعاد نشرها جافيي فيغيرو وماري هيلين كاربونيلفي:مارياكازارس،الأجنبية (فايار،2005 ).

 ***

رسالةمن ماريا كازارسإلى ألبير كامو

الجمعة 6غشت 1948 (ليلا)

الرسالة (23)
أخيرا، تحقق الأمر!آه عزيزي،اقتضى ذلك بداية، اختبار سعادتي بلا رنين، ثم تنامت وأخيرا صارت هائلة حينما توصلتُمنكَ برسالتين دفعة واحدة،حتى أتمكن من قياس حالة الاكتئاب،والفراغ والجزع تقريبا الذي عانيته طيلة اليومين الأخيرين.
نعم حبيبي،ودون تأخر، لم أتردد مسرعة كي أكتب  إليكَماإن صادفتُأمامي لحظة سكينة. ربما تخاذلتُ،عن القيام بذلك،وليسامحني ''الله''،إن أسأتُ لحظتها، مادمتُ قد تألمتُ كثيرا بسبب صمتكَ، حالة حجبت عني إمكانية تصورأنكَحزين مثلي،ومدى تحمّلكَ؛ وأعلمُ تمام العلم أنّه مرهق،ومتعب جدا عندما تحاول باستمرار'' تخيُّل قلب''.
مع ذلك،لاأمتثل كليا إلى تلبية مطالبكَ، لاسيما حينما تنتفي فعلا حاجتكَ لذلك. أكتبُ إليكَ،عندما يحضرني الشوق ،حينئذ تصلكَ مني،رسالة يوميا، على الأقل، ويصعب مع ذلك الرهان أكثر،مادمتُ أدرك بأني لا أكون وحيدة،تخلصتُمن جميع الالتزامات، سوى ليلا،منزوية خلف باب غرفتي.إذا لم يتحقق السعي وفق المبتغى المأمول،أحلِّق نحوكَ بين طيات جلّماأراه،وأحسه،ثم لن أكفّ عن الكتابة إليكَ، إن استطعتُ استثمار وقتي حسب حضور الرغبة.
لذلك، يلزمني الإمساك بنفسي؛ هذا ما أتخيله، بالتالي أخبرني عن رأيكَ.مثلما فعلتُ منذ ذهابكَ،أخطُّلكَ يوميا رسالة، رسالتين،عشر صفحات أو مجرد كلمة،بيد أني أحتفظ بذلك جانبا.ثم عندما تلحُّ عليكَ رغبة قراءتها،ابعث لي بإشارة وأمدك فورا بكل ما في جعبتي.أتود ذلك؟
لا تصف الأمر خاصة بكونه سخافة.لأن الوجود برمته حماقة،إذا اتفقت مع تصوري،لكن بما أن الوضع على هذه الشاكلة ويصعب علينا تغيير أي شيء،فلنحاول معا تدبير أمورنا بكيفية أمثل،حتى لا نجازف بتبديد الحصيلة ونحن نطالب من الحياة أكثر مما ينبغيعبث؟.
هيّا !لاحظ جيدا التقدم الذي حققته(خمسون ساعة بدل سبعين)ولنأخذ هذا مثالا!
لكن أعود للحديث عن رسائلكَ.
كبيرة هي السعادة التي منحتني إياها بالوجود من خلال وجودكَ فقط (سواء قريبا أم بعيدا)،رغم ذلك يلزمني الاعتراف، كونها سعادة فضفاضة ومجردة شيئا ما، والتجريد لم يشبع قط امرأة،أو على الأقل أنا.ماذا أريد؟ أحتاج إلى جسدكَ الطويل، وذراعيكَ الطريتين،ووجهكَ الوسيم،ونظرتكَ المتوقدة التي تخلخل كياني،وصوتكَ،وابتسامتكَ،وأنفكَ،ويديكَ،أحتاج كل شيء.أيضا،تستحضر كلمات رسالتكَ،على نحو ما،حضوركَ الفعلي،وأنغمس معها في عذوبة لاأستطيع التعبير عنها،لاسيما وأنكَ وضعت جدولا سريعا يرصد يومياتكَ، المكان الذي تتواجد فيه وكذا حالتكَ الجسدية والمعنوية.لايمكنكَ تصور ماذا كان بوسعي تقديمه طيلة الأيام الأخيرة حتى أتمثَّلكَ وأتخيَّلكَ ولو قليلا،من الصباح غاية الليل،أو خلال ساعة محددة في اليوم.
لذلك إذا تشابهت - ستقول مجرد هذيان -حقا مشاعركَ نحوي ثم أثناء غيابي -وأعتقد ذلك- مع التي أحسها، فإني أشعر بعجزي عن البقاء بعيدة عنكَ، صامتة،خلال هذه الفترة التي لازالت تفصل بيننا،في إطار جهل تام بكل مايتعلق بي.
ها هو الجزء الأول من المراسلات الذي ينبغي وضعه بين يديكَ فيما بعد.أعتقد بأنها ستكون مضيئة لكَ بوضوح ودقيقة حول ظروف الحياة التي أعيشها.لستُ على يقين تام من ذلك، بحيث لم أتجرأ على إعادة قراءتها، كي لا أكتشفها ساذجة جدا، ثم غير مفيدة وليست واضحة كفاية، وأتردد في إرسالها إليكَ.مع أني لاأعترف لنفسي بحق التراجع عن مايفترض،كونه قد صار حاليا بين يديكَ. إجمالا،يجري برنامج حياتي الناسكة وفق المنوال التالي :
-النظام اليومي: ماء / تدخين عشر سيجارات في اليوم / الاستيقاظ : في الثامنة صباحا/ النوم : منتصف الليل.
-اهتمامات مرتبة حسب قيمتها:
-العناية بأبي على امتداد اليوم(1)
 -قراءات حاذقة لرواية الحرب والسلم(نص مذهل!)/وكذلك رواية''الثريا" (أرثر دو غوبينو) (مثيرة للإعجاب)(ضمن النطاق المقبول)/ثم رواية "الشياطين"(رطانة فريدة،عبقرية ربما لكنها لم تأسرني) (2).
-الاهتمام بكاتسوس (3)صباحا ومساء.
-جولات بالدراجة الهوائية العاشرة صباحا ثم السادسة مساء. 
-الأكل.
-النوم.
مع ذلك، أقدمت اليوم على استثناء. دخنتُ اثني عشرة سيجارة من الظهيرة إلى الثامنة مساء،بقيتُ في بريسانيلورغايو(شمال فرنسا)(4)،صحبة ميشيل وجانين غاليمار.هناك عثرتُ على رسالتيكَضمن رسائل أخرى،داخل صندوق احتفظ به أنجليز(5)وتسلمته من جانين، القابعين هنا منذ الأربعاء.هكذا،بدا لي اليوم رائعا ؛لكن فيما يتعلق بمشاعري نحوهما،لم أحبهما كثيرا.
لقد استحضرنا سيرتكَ باستفاضة،كما تحدثنا عن مَبْسَمِ السيجارة الشهير حيث كلفني بخصوصه ميشيل كي أقول لكَ : ''مغفَّل''؟(لاأتذكر اللفظ تحديدا)إلخ،إلخ.ثم بعد جولة رفقة كلود و سيمون،جلسنا للعب''الدومينو-الكلمات المتقاطعة''، مما أحدث وجعا هائلا لرأس جانين وصداعا شديدا، نفس الأمر بالنسبة إلي.
أبي ليس على مايرام.تقارب حرارته كل مساء 38 درجة ثم ترتفع أكثر بحيث يلزمه ذلك،البقاء ملتصقا بالفراش.مع أن الوضع يزعجه،يتوخى بشكل عجيب، الاحتفاظ بمزاج هادئ،قدر مايستطيع.أنا أيضا،أحاول إظهار تماسكي،لكن حينما أختلي بذاتي،أستسلم للقلق ويختل توازني شيئا ما.لذلك،سأمتنع أيضا عن إعادة قراءة الصفحات التي أبعثُها لك.بالتأكيد، ستكشف عن ضعفي وأرفض مقابل أي شيء في الوجود أن تكون قلقا. أتخيلني بجواركَ، وأنتَ بصدد قراءة هذه السطور،فلم أغفل أي معلومة حتى التفاصيل الصغيرة التي تفسر بعض الوقائع جزئيا معتمدة دائما على حضوري كي أساعدكَ على تمثلها.
اقرأْ إذن دون توقف،في انتظار إضافات أخرى "شفوية''،ثم تسلى بتصحيح الأخطاء الاملائية والنحوية.
أحبُّكَ.
طيب، عزيزي، سأتوقف هنا. لقد تأخر الوقت،ثم ستكون حمولة ظرف الرسالة ثقيلة جدا.
لا أستطيع قول إلى اللقاء.لأن هذا يحيل على معاني الانفصال وأنا لاأريد حدوث هذا أبدا.
أنا هنا،قريبة منكَ،خلال كل لحظة، متوجهة نحوكَ، أصلِّي ل"الإله" من أجل عشقنا،وأرغب في حبِّنا أكثر من أي حقيقة أخرى. لاأطلب منكَ غير مسألة واحدة،أن تتطلع إلي مثلما أتطلع إليكَ وأن لا ينتهي الأمر أبدا.
أحبُّكَ وأحبُّكَ بكل قواي.
ماريا.
عندما أتخيّلكَ داكن البشرة،أشعر بالرجفة.
هنا المناخ سيئ؛لازالت بِشرتي تأخذ لون مزيج حليب بالقهوة،بل يطغى بالأحرى لون الحليب. وتسريحة شعري على شكل العقيصة ''شينيون'' أو ضفيرة إلى الوراء، كما يفعل الصينيات.في حين لا أهتم بزينتي سوى قليلا.
وخاصة غير موجودة أبدا.
أنتظر أن أوجد.
لست إلا وعدا.

-هوامش :
1-سانتياغو كازاريسكويروغا (8ماي 1884-17فبراير 1950).مارس مهنة المحاماة،وانخرط بفعالية كبيرة من أجل قادس، ضمن الحركة السياسية التي قادت إلى إعلان الجمهورية الاسبانية شهر أبريل 1931 .أصبح رئيسا للحكومة الاسبانية بين 13ماي الى 18 يوليو 1936،بعد أن شغل مناصب وزارية عدة.مرض بداء السل،وبعد ثلاث سنوات من المنفى بإنجلترا،استقر نهائيا في مدينة باريس شهر يونيو 1945،وتحديدا داخل  نفس منزل إقامة ابنته وزوجته،بمعية صديقهما /العاشق إنريك لوبيز تولينتينو.هذا الأخير،متضايقا شيئا ما،غادر المنزل شهر فبراير 1948،بطلب من ماريا.
2–الحرب والسلم (تولستوي)(1865)،ثم ''الثريا'' (آرثر دو غوبينو) (1874) والشياطين دوستويفسكي (1872)،وقد اقتبسها ألبير كامو إلى المسرح سنة 1959،تحت عنوان الممسوسين.
3–يقصد هنا كلب تعتني به ماريا.
4-اعتُبِر كلود وسيمون غاليمار ضمن الممتلكات العائلية لغاليمار في بريساني–أورغيو،على ضفة نهر السين.
5-اشتغلت أنجيليزأرينالو دو جيمينيز (وتنعت ب أنجيل)وزوجها خوان رامون جيمينيز،كخادمين في بيت ماريا؛رشحهما للوظيفة إنريك،وقد بقيا رهن إشارتها بعد وفاة غلوريا،ثم استقرا شهر 1948في منزل بشارع فوجيراد.

مصدر الرسائل:ألبير كامو/ماريا كازارس-مراسلات(1944-1959)؛غاليمار2017 ؛ص :  44-48


الخميس، 10 أكتوبر 2019


محاولة التخلص من قصة عن طريق قصة أخرى
بيتر هاندكه
(الحائز على جائزة نوبل في الأدب 2019)
ترجمة ناصر الحلواني
ـــــــــــــ
بيتر هاندكه

كان يوم أحد، صباح الثالث والعشرين من يوليو 1989، في "فندق ترمينوس"، بالقرب من محطة ليون ـ باريتش ، في غرفة تطل على مسارات القطارات. وبعيدا، بين أسلاك السكة الحديدية والمباني السكنية، كانت الخضرة الشفيفة المبتهجة لأشجار تطل على نهر، قريبا من احتشادها يقع نهر سون، وفي الأعالي يقع نهر رون، تحلق طيور السنونو (تنطلق مع السماء الزرقاء) بعيدا عن دائرة القمر الأبيض، الآخذ في التضاؤل، وببطء، حلقت بعيدا، مثل غيمة.
عبر الجانب الآخر، من خلاء فناء المحطة يوم الأحد، اتجه عمال القطار إلى نواح مختلفة، كلٌ يحمل حقيبته، يهبط الدرجات الخلفية، إلى جوار المنزل المنعزل، المكسو بفروع أشجار العنب البرية، مبنى جميل من بدايات القرن، له نوافذ دائرية في أعلاه، وساروا نحو مهجعهم، مبنى خرساني، معظم نوافذه مرفوعة ستائرها.
في الأعالي، حلقت طيور السنونو، كالتغضنات في السماء، وفي الأسفل، كانت ومضات ضوء تنعكس من مقابض الحقائب، وساعات يد عمال السكة الحديد، وهم يعبرون القضبان بين حين وآخر.
من جهة المنحنى، جاء صوت قطار البضائع، الذي يشبه صوت منشرة. كان بعض العمال يحملون أكياسا من البلاستيك، وجميعهم يرتدون قمصانا ذات أكمام قصيرة، بدون سترات، وكقاعدة، يمشون أزواجا، رغم أنه هناك العديد ممن يمشون وحدهم، وبدا ذهابهم ومجيئهم في مسارهم المنحني، عبر القضبان، لا نهائيا: في كل مرة، يقوم الرجل الجالس عند النافذة، المواكِب، برفع بصره عن أوراقه، كان واحد منهم يتأرجح هابطا. لعدة لحظات، بقي المسار خاليا، لا تعبره غير القضبان التي تعكس ضوء الشمس، كما لم يكن هناك أي من طيور السنونو في السماء.
للمرة الأولى، يعرف المراقب أن "فندق ترمينوس"، الذي قضى فيه ليلته، كان مقر تعذيب أقامه الضابط النازي كلاوس باربي أثناء الحرب. كانت الممرات طويلة للغاية، والأبواب مزدوجة السُّمك. فقط العصافير هي من تزقزق الآن في الخارج، غير مرئية، وفراشة بيضاء كبيرة ترفرف عبر مسار عمال السكة الحديد: للحظة، خيم سكون الأحد على ساحة القطارات الهائلة، ليس هناك أي قطار يتحرك، انحصرت الحركة في هفهفة ستائر إحدى الشقق، التي يتم إغلاقها، واستمر هذا السكون والسلام السائدان في الساحة، فيما تخفق أوراق شجرة الدُّلب، أمام منزل العنب البري، كما لو كانت تصعد من جذور عميقة، وفي الأفق، كان نهر سون غير المنظور، بعيدا عنه، نورس، كشظية بيضاء تومض، وتهب نسائم الأحد الصيفي في الحجرة الواسعة، في "فندق ترمينوس"، وأخيرا، يهبط رجل، ذو قميص قصير الأكمام، إلى مسار ساحة القطارات، حقيبته السوداء تتدلى إلى ركبتيه، واثقا من وجهة مساره، وتتأرجح ذراعه الحرة باتساع، وحطت فراشة زرقاء على أحد القضبان، تعكس ضوء الشمس، ودارت نصف دورة، كما لو أنها تأثرت بالحرارة. والآن فقط، أخذ أطفال إيزيوس، الذين قتلهم هتلر، بعد نصف قرن تقريبا من إزالتهم، في الصراخ بالجريمة الدموية. 


***

أغطية رأس في سكوبيا
بيتر هاندكه
(الحائز على جائزة نوبل في الأدب 2019)
ترجمة ناصر الحلواني
ـــــــــــــ
ملحمة صغيرة محتملة: من بين أغطية الرأس المتنوعة، التي يضعها المارون في المدن الكبيرة، على سبيل المثال: مدينة سكوبيا ـ مقدونيا ـ يوغسلافيا، في 10 ديسمبر 1987. كان هناك، حتى في العاصمة، قبعات  “Passe-Montagne”، أو:قبعات متسلقي الجبال،تغطي الأنف من أسفل، والجبهة من أعلى، ولا يظهر منها غير العينين، ومن بين هؤلاء سائقو العربة الدراجة، يضعون أغطية رأس إسلامية سوداء صغيرة على رؤوسهم، وإلى جانبهم، على حافة الطريق، كان رجل كهل يودع ابنته، أو ابنة أخيه الآتية من تيتوجراد/مونتينيرو أو فيبافا/سلوفينيا، العديد من التكوينات المثلثة المائلة على قبعة برنسه، نافذة إسلامية وزخرفة بارزة (بكت ابنته أو ابنة أخيه). كان الثلج يتساقط في أقصى جنوب يوغسلافيا، ويذوب في نفس الوقت. عندئذ، مر رجل ذو قبعة بيضاء تشبه القبعة العسكرية، مزينة برسوم شرقية، يغطيها البَرَد الساقط، ومن خلفه جاءت فتاة شقراء، بغطاء رأس كالجورب، سميك ومبتهج اللون (تعلوه ذؤابة)، وبعدها مباشرة، رجل يضع نظارات، وبيريه، تعلوه ذؤابة مستقيمةداكنة الزرقة، ثم جاء بعده بيريه عسكري لجندي طويل الساق، وزوجين من قبعات الشرطة، ذات السطح المجوف. حينذاك مر رجل، يضع غطاء رأس من الفرو، وقد رفع جانبيه، اللذين يغطيان الأذن، إلى الأعلى، بين سرب من النساء اللائي يضعن الإيشاربات السوداء على رؤوسهن. بعد ذلك مر رجل يضع طربوشا ذا مربعات، يغطي أذنيه، بلوني الأسود الفاحم والأبيض، مثل البشرة المرقشة بالأبيض والأسود لفايفيز؛ الأخ غير الشقيق لبارسيفال. كان رفيقه يحمل قبعة من الجلد والفراء، وبعدهما مر صبي يضع عصابة رأس تغطي الأذنين. تبع الصبي رجل يضع قبعة بلون خليط الملح والفلفل، أحد أقطاب السوق السوداء، يشق طريقه بلطف، عبر شارع سوق ماسيدونيا، خائضا في الثلج. عندئذ مرَّ فوج من الجنود، يعلقون نجمة تيتو على حافة قبعاتهم. بعدهم جاء رجل يرتدي قبعة صوفية بنية اللون من مصنوعات مدينة تيرول، حافة أمامية، تنثني لأسفل، وتنثني الحافة الخلفية إلى أعلى باستقامة، وشارة فضية على الجانب. ثم كانت فتاة صغيرة، تقفز، وتضع قلنسوة من جلد الغزال، ومبطنة. ثم رجل يضع قبعة راع رمادية، محاطة بشريط أحمر. تبعته امرأة سمينة، تضع وشاح الطباخين، المصنوع من الكتان الأبيض، خلفيته ذات هُدْب. ورجل يرتدي كاباً ذا طبقات من الجلد، لكل طبقة لون مختلف. ثم رجل يدفع عربة، ويضع كابا من البلاستيك، يغطي أذنيه، ويحوط رقبته وشاح فلسطيني. وبعده رجل يسير وعلى رأسه كاب مزين برسوم الزهور.
وبالتدريج، بدا لي حتى منلا يضعون أغطية رأس، كما لو كانوا مزودين بها ـ فالشعر ذاته غطاء رأس. وهناك، كان طفل، ذو كاب ليلي، يتداخل مع امرأة ترتدي قبعة سينمائية عريضة ومائلة: لا تواكب التنوع. ثم فتاة جميلة، تضع نظارات، تمشي إلى جواري، تضع قبعة من إنتاج بورسالينو، بلون بنفسجي شاحب، تهادت إلى زاوية الشارع، تتبعها امرأة ضئيلة للغاية، تعلو رأسها قبعة عالية، مصفوفة الغرز، صنعتها بنفسها، ووراءها رضيع، يضع قبعة سومبرورو على يافوخه الذي لم يتم نموه بعد، تحمله فتاة، تضع بيريه واسعا، مصنوعاً في هونج كونج. وصبي يلف شالا حول رقبته وأذنيه. وصبي أكبر منه، يضع أغطية أذن المتزحلقين على الثلج، وعليه علامة تريكوت التجارية. هذا الجمال وما شابهه. هذا الجمال وهلم جرا. 






الأربعاء، 9 أكتوبر 2019


سعيد بوخليط: مفاهيم رؤى مسارات وسير


عمان،الأردن:صدر عن منشورات عالم الكتب الحديث الأردنية،عمل جديد للباحث سعيد بوخليط؛تحت عنوان: مفاهيم رؤى مسارات وسير..نصوص رائدة. 
توخت هذه النصوص المستلهمة من مصادر عديدة؛ثم ترجمتها إلى العربية،التوثيق لمفاهيم ورؤى وسير ودراسات فلاسفة وأدباء وشعراء وروائيين ومفكرين مما أفرز ضمنيا بين دفتي الكتاب سلسلة نقاشات ومناظرات وسجالات مهموسة ومهووسة أيضا؛انصبت حول جوانب من النزوع البشري،تمتد في الزمان وتسعى إلى اختراقالمكان، تناولت قضايا مختلفة؛تحديدا لأصحابها :
فؤاد العروي،تزفيتان تودوروف، سحر خليفة، عبد اللطيف اللعبي، جوزيه ساراماغو، لوي ألتوسير ، موريس بلانشو، ألبير كامو، بيير بورديو، جبران خليل جبران، كارلوس فوينتس،إدموند هوسرل، جيل دولوز، ميشيل فوكو،عبد الرحمان بن خلدون،جاك ديريدا، حنا أرنت،إدغار موران، غاستون باشلار، باتريك موديانو،غوستاف لوكليزيو ،محمد أركون، فاطمة المرنيسي، فرانز كافكا،الطيب صالح، غارسيا ماركيز، رولان بارت،إدوارد سعيد….
بالتالي، تأمل أحاديث مسهبة عن الديمقراطية؛المرأة؛ الجنس المتعدد؛ الجنس الواحد؛ الهيمنة الذكورية؛الموت الميتافيزيقي؛ الرواية؛ الصحافة الحرة؛مآلات الربيع العربي؛ الوطن؛ الاستعمار؛ نضال المثقف؛ التمرد على الأديان؛ تفكيك الأساطير...؛طبيعة العلاقة بين فوكو ودولوز؛جنون لوي ألتوسير؛قراءة باشلار لقصيدة بودلير؛مقاربة إدوارد سعيد لتصور كامو بخصوص الاستعمار الفرنسي للجزائر؛إلخ.
يصعب أحيانا العثور على خيط ناظم، يبرر مشروعية الانتقال خلال جلسة واحدة؛ بين سياقات موضوعات تنبع من روافد شتى.لكن وحدها القراءة العاشقة؛ بوسعها لملمة شظايا الحكمة الإنسانية المبعثرة هنا وهناك.