الخميس، 27 فبراير 2020

الفيلسوف لوي ألتوسير: تفاصيل قتله زوجته إيلين ريتمان (الحلقة الأولي)


ترجمة : سعيد بوخليط


تقديم :توفي الفيلسوف الماركسي  اللامع، لوي ألتوسير يوم 22 أكتوبر 1990، بعد أن راكم متنا نظريا مهما، بوّأه مقاما، ضمن أهم فلاسفة ومفكري القرن العشرين، الذين أحدثوا نقلة نوعية على مستوى تاريخية المفاهيم. كلنا، يعلم إضافاته الرصينة إلى الأدبيات الماركسية، بعد إعادة قراءته الثاقبة للمتن الماركسي وكذا التأويلات المنهجية الجديدة التي رافقت هذه القراءة، في أفق إخراج النظرية من عنق زجاجة التمثل الأرثوذوكسي، العقائدي الجامد، كما عانته الماركسية داخل تنظيمات اليسار التقليدي، لاسيما في أوجهها الستالينية، والبحث عن الآفاق الرحبة التي تفتحها المقاربات الإبستمولوجية. مستفيدا من مؤلفات باشلار وفرويد وستراوس ولاكان والبنيوية.
بيد، أنه لا أحد من تلامذة ألتوسير وأتباعه وعشاقه، بل خاصة المدرسة الفلسفية الفرنسية، واليسار الفرنسي، قد توقع لوهلة، صيرورة عبقريته الأريبة إلى تلك النهاية المأساوية،بعد الحادث الذي جرى يوم 16 نوفمبر 1980، حينما قتل زوجته إيلين ريتمان داخل شقتهما المتواجدة بالمدرسة العليا للأساتذة بباريس،جراء إصابته بحالة جنون حادة،مما شكل انقلابا في مصير الرجل،لم يكن واردا بتاتا في الحسبان.
 يقول: "لقد قمت بخنق زوجتي التي جسدت لديّ كل العالم، إبان أزمة عصبية طارئة، شهر نوفمبر 1980 نتيجة خبل ذهني. زوجتي، التي أحبتني إلى درجة أنها توخت الموت، متى عجزت عن تحقيق ذلك. بلا شك، لحظة جنوني وبممارسة لا واعية ''قدمت لها، هذه الخدمة''، وماتت دون أن تدافع عن نفسها".
حيثيات القضية، سيتطرق إليها،ألتوسير عبر صفحات سيرته الذاتية، التي جاءت تحت عنوان:(المستقبل يدوم طويلا)،الصادرة عن منشورات «ستوك» سنة 1992، فترة بعد وفاته....
من خلال هذه الحلقات الطويلة،سنصغي ثانية إلى ألتوسير وهو يروي بدقة متناهية،على لسانه الوقائع التراجيدية،إبان صبيحة ذلك اليوم من أيام بداية سنوات الثمانينات.

الفصل الأول:
ربما وجدوا الأمر مزعجا أني لم أركن إلى الصمت بعد الفعل الذي اقترفته،وكذا صدورالحكم بسقوط الدعوى،الذي استفدت منه حسب التعبير المتداول.لكن لو أني لم أحظى بهذا الامتياز،كان ينبغي الحضور إلى المحكمة والمثول أمام القاضي، بهدف الاجابة عن أسئلته،وبالتالي تقديم شهادتي بخصوص ماحدث.   
لذلك تشكل كتابتي لهذا العمل بمثابة جواب،كنت ملزما بالافصاح عنه بكيفية أو أخرى.وكل ما ألتمسه حاليا،إتاحة الفرصة أمامي كي أكشف عن مختلف ماكان بوسعه أن يشكل إجبارا.
بالتأكيد،أدرك أن الجواب الذي أتوخى الإدلاء به هنا لايندرج ضمن إطار الجلوس أمام قاض،الأمر الذي لم يحدث،ولا أيضا حسب الصيغة المفترض تقديمه بحسبها.مع ذلك،أتساءل إذا كان غياب لحظة حضوري جلسة محاكمة،وكذا معاينة قواعدها،وطبيعة مجرياتها،أتاح في نهاية المطاف أن أوضح أكثر وبحرية ماأود إخبار به الرأي العام.في جميع الأحوال هذا ماأتمناه.
هكذا قدري،بحيث ما إن يتجه تفكيري نحو تهدئة اضطراب إلا وانسابت  أخرى باستمرار.  
مثلما أحتفظ بوقائع الذكرى كاملة وجلية في أدق تفاصيلها،محفورة إلى الأبد في دواخلي بين طيات مختلف تجاربي،بين ليلتين،تلك التي خرجت منها دون أن أتمكن من تحديدها،ثم الأخرى التي ولجتها،سأقول متى وكيف :بالتالي هاهي تفاصيل مشهد القتل كما عشتها.
فجأة،نهضت واقفا ببذلة النوم،من فوق سريري داخل غرفتي المتواجدة بالمدرسة العليا للأساتذة.كان يوم  كئيبا من شهر نونبر-الأحد 16 نونبر والساعة تقارب التاسعة صباحا-خيوط شمس تضيء أقدام السرير،توغلت من النافذة العالية جدا،المغطاة منذ فترة بعيدة جدا بستائر حمراء قديمة ترهلت مع مرور الزمان نتيجة لهيب الشمس.
أرى أمامي: إيلين،نائمة على ظهرها،مرتدية أيضا ثوب النوم.يتمدد حوضها على حافة السرير،بينما تلقي برجليها على بساط أرضي. 
زحفت مقتربا منها،انحنيت على جسدها،ثم شرعت في تدليك عنقها.لقد دأبت باستمرار في صمت على تدليك عنقها وظهرها وكِلْيتيها :تقنية تعلمتها من رفيق،يدعى كليرك الصغير،خلال فترة الاعتقال،لاعب كرة محترف وخبير في كل شيء. 
لكن هذه المرة،بادرت إلى تدليك مقدمة عنقها.ضغطت بأصبعي على تجويف اللحم الذي يكسو عظام القفص الصدري ثم ضغطت أكثر،وحركت بهدوء،إبهاما نحو اليمين وإبهاما ثانيا جهة اليسار،أي بطريقة غير مباشرة،المنطقة الأكثر صلابة فوق الأذنين.شرعت في التدليك على طريقة حرف(V).أحسست بتعب كبير في عضلة ساعدي :أعلم، بأن التدليك يسبب لي باستمرار ألما على مستوى الساعدين.يبدو وجه إيلين،جامدا وهادئا، وعيناها مفتوحتان تحدِّقان نحو السقف.
فجأة أصابني الفزع :عيناها متجمدتان نهائيا ثم خاصة تمدد لسانها،بين أسنانها وشفتيها،بطريقة غريبة وهادئة.
بالتأكيد شاهدت أمواتا قبل تلك اللحظة،لكني لم أتملى قط طيلة حياتي ملامح وجه شخص مخنوق.مع ذلك أدركت بأنها مخنوقة.لكن كيف وقع ماوقع؟نهضت صارخا بصوت مرتفع :لقد خنقت إيلين !
اندفعت مسرعا،تكتنفني حالة من الرعب الحاد،أكتسح الشقة،أطوي أدراج السلم الصغيرذي الدرابزين الحديدي الذي يفضي إلى فناء الواجهة بسياجاتها العالية،ثم الاهتداء وأنا مسرع دائما صوب العيادة،حيث أعلم بأني سأجد الطبيب إيتيان،الذي يقطن الطابق الأول من المدرسة.
لم أصادف خلال هرولتي أي شخص،فقد كان اليوم أحد،بالتالي فالمدرسة فارغة تقريبا أو لازالت ترقد في سبات.أصعد السلم على وقع أربع خطوات دفعة واحدة،قاصدا الطبيب وأنا مستمر في الصراخ :''لقد خنقتُ إيلين !" . 
أطرق بعنف باب الطبيب،فتح أخيرا،وقف أمامي ببذلة نومه،تفحصني بنظرة تائهة.أواصل الصراخ،لقد خنقت إيلين،جذبت الطبيب من طوق بذلة نومه: كي يصطحبني على وجه السرعة من أجل فحصها،وإلا فسأضرم النار في بناية المدرسة.
''مستحيل''،لم يصدقني إيتيان.
نزلنا ثانية بأقصى سرعة وهانحن  أمام إيلين.لازالت دائما عيناها جامدتين،وهذا الشيء القليل من لسانها بين الأسنان والشفتين.أرهف الطبيب السمع لصدرها :
-"لقد تأخر الوقت كثيرا،لايمكننا فعل أي شيء".
- بادرته مستفسرا:''لكن بوسعنا تنشيط قلبها ثانية؟.
-لا''.
اعتذر،إيتيان راغبا في الانسحاب لبعض الدقائق وتركني وحيدا.فهمت فيما بعد،أنه أجرى اتصالا هاتفيا مع المدير،والمستشفى،وكذا الشرطة،من يدري؟أترقب الوضع،وأنا ارتجف دون توقف.   
تتدلى الستائر الحمراء الطويلة المترهلة على جانبي النافذة،إحداهما تلك المتدلية يمينا،تمتد حتى أسفل سريري.لحظتها تخيلت ثانية صديقنا جاك مارتان،الذي عثر عليه ذات يوم من شهر غشت1964 ،ميتا داخل غرفته الصغيرة المنتمية إلى القرن السادس عشر،ممددا على فراشه طيلة أيام وفوق بطنه ساق طويل لوردة أرجوانية :رسالة صامتة لنا معا أنا وإيلين،تذكارا لنيكوس بيلويانيس،وقد أحببناه منذ عشرين سنة،إنها رسالة آتية من وراء القبر.
جذبت إحدى أجزاء أعلى الستار الأحمر،دون أن يحدث للقماش تقطيعا،ثم توجهت نحو صدر إيلين،التي ترقد دائما بشكل مائل،وغطيتها من الذراع الأيمن إلى الثدي الأيسر.
عاد إيتيان.يعمّ الاضطراب المكان.يبدو أنه حقنني بإبرة،عبرت ثانية صحبته مكتبي وشاهدت شخصا -لاأعرفه- بصدد تجميع كتب استعرتُها من خزانة المدرسة.يتكلم إيتيان عن المستشفى.أغوص بين ثنايا عتمة.يلزمني''الاستيقاظ ثانية'' لاأدري متى،في مستشفى "سانت آن".

المصدر:
لوي ألتوسير: يدوم المستقبلا طويلا،منشورات ستوك،1992،ص: 11 /13 .   


الأربعاء، 19 فبراير 2020

حوار مع إدغار موران: نعاين أوروبا هزيلة،بدون روح ،ولاإنسانية

ترجمة : سعيد بوخليط

  تقديم:السوسيولوجي إدغار موران ،الذي عاصر مختلف حقب القرن العشرين ،وقد بلغ اليوم ثمان وتسعين عاما ،لازال يواصل إلهام التفكير المعاصر. هكذا،سيحدثنا موران مفكر التَّركيب،في كتابه الصادر أخيرا:''تتأتى الذكريات لملاقاتي''عن  هواجسه والتزاماته. نص يكشف فضاءات على امتداد قرن وكذا عصارة حياة.
س- ماهو أكبر هاجس شغل حياتكم؟
ج-أجيب بأنه كان ثنائيا.أولا،الجانب الفكري.والذي يجد خلاصته حقا في الصيغة  الكانطية:ماذا يمكنني أن أعرف؟ماذا يمكنني القيام به؟ماذا بوسعي التطلع إليه ؟ثم أضاف كانط إلى هذه الأسئلة الثلاثة،سؤالا آخر: ما الكائن البشري؟ منذ البداية،شكل ذلك هدفا لأعمالي.لقد حاولت تعبيد مجموعة دروب،لكن هذا السؤال يبقى حقا مفتوحا. أما هاجسي الثاني،فيتمثل بكل بساطة في الحياة.والحال أن تحيا،حسب تصوري،لايعني فقط أن تعبر عن نفسك أو تطورها،بل يلزم تحقيق ذلك صحبة الآخر،في إطار جماعة.لذلك كنت دائما  مندفعا خلف مايربطني بهذا الأخر.
س- ألم نفتقد تحديدا دلالة هذا المشترك؟
ج-ماينبغي القيام به، يكمن في الحفاظ على حيوية المجموعات مع الاهتمام كليا باستقلالية الشخصي.لقد تراجع حقا تأثير المشترك الجماعي.طبعا،لازالت مستمرة معاني الأسرة،الصداقة،إلخ.لكن غالبا، نلاحظ انكماش هذا الجماعي حول سياقات الإثني،الوطن،الدولة،إلخ.هكذا،تنزع شتى المخاوف المعاصرة نحو احتجازنا عند حدود  دوائر صغيرة جدا،بدل الارتقاء بنا نحو الوعي بوجود مجموعة إنسانية أكبر.مثلا سينحل مفهوم الوطن إذا لم يتهذّب على أساس وطنية سليمة.لقد اختُزِلنا إلى قطاعات تحول بيننا وكذا تحقيق رؤية شاملة.يشي راهن العالم الغربي،بالأخص إلى تدميره،قيمة التضامن.بحيث  نلاحظ تخريبا لوشائج تلك الأواصرالجماعية في القرى وكذا اتحادات عمالية رعتها واحتضنتها النقابات سابقا .بالتأكيد،لازلنا نتبيَّن راهنا بعض التجمعات وهي تعيد بناء  ذاتها أمام خصم،لكنه سعي يظل غير كاف.الجديرالقيام به،يكمن في صيانة حيوية الجماعات مع الاحتفاظ التام باستقلالية الذاتي،لأن افتقاد الحس الأخير ضمن سياق   الاستكانة إلى هناء الجماعي،يعني أنك حكمت على نفسك بالتبلّد.
س-كنتم مقاوما وعاينتم فظاعة الانظمة الشمولية.هل تتفقون مع تأكيد البعض بأننا نعيش ثانية سنوات الثلاثينات مع الصعود القوي للحركات الشعبوية؟
ج-يكمن جانب مماثل وآخرمختلف.بالتأكيد،لم تعد توجد الستالينية والنازية بالكيفية  التي كانتا عليهما خلال حقبتهما.لكن ماتجدر ملاحظته،أن الأمر يتعلق بديانتين أرضيتين.واحدة تطمح نحو خلاص أرضي،بالنسبة للشعب الألماني،والأخرى بالنسبة لكل البشرية.مع الحالتين،عايننا شهداء،وجلادين،وقديسين،إلخ.لقد شكلا إيمانا دينيا حقيقيا.وقد أدى انهيارهما إلى انبعاث ديانات قديمة،طرحت في المقابل خلاصا سماويا.بالتالي،نعاين آنيا،بروز الإنجيليين في الولايات المتحدة الأمريكية وكذا انبعاث الاسلام.ثم من جهة ثانية،لم تنته بعد تأثيرات الأزمة الاقتصادية العالمية لسنة  2008 . يتجلى بهذا الخصوص تشابه مثير للانتباه مع وقائع سنوات الثلاثينات.لقد أنتجت هذه الأزمة الاقتصادية قلقا وشكوكا.أيضا،تضاعف كل أزمة الاختلالات.يتمثل المستجد في مسار العولمة الذي كرس وعمم منظومة اللامساواة. فيما سبق،كانت سلطة المال كبيرة،بينما أضحت اليوم هائلة.إذن،الأخطار متعددة،لاسيما تخريب الغلاف الجوي.
س- كيف نكيف النظام الاقتصادي مع التحديات المناخية؟
ج-مثاليا،يلزم تجاوز ذلك بطريقة راديكالية.لكن،في الوقت الراهن،تنعدم أي وسيلة يمكنها تحقيق مشروع من هذا القبيل.لذلك أمتدح التمثل الواعي التدريجي،لاسيما  من خلال استبعاد الزراعة المصنعة. تغيير يهمّ مستوى الاستهلاك الذي يمكنه العمل على تقليص نفوذ هذه الصناعة.ننسى ذلك غالبا، لكن المواطن يمتلك سلطة واسعة:سلطة المستهلك. يصعب تكريس وعي بيئي.لأننا ورثة المسيحية وديكارت: متجذرة جدا في العقول فكرة السيطرة على الطبيعة.هانحن قد بلغنا سنة 2019 ... بالإمكان تحقيق تقويض تدرجي للنظام الرأسمالي،لكنه صراع دائم يقتضي سلوكا اقتصاديا مختلفا ووعيا سياسيا. 
س-لقد كتبتم سنة 1965،وأنتم آنذاك المثقف الملتزم،مايلي:"تعرف السياسة تدميرا".أعتقد بأن تقييمكم ذاك لازال متماسكا غاية اليوم ...
ج-لقد لاحظت بسرعة التقهقر الذهني للفكر السياسي،لاسيما اليسار.يعيش الفكر السياسي فراغا.و شَغَل هذا الفراغ اليوم تقلص السياسي إلى حيز الاقتصادي ثم الليبرالية المتوحشة.حدث تعميم لهذا التصور منذ ريغان وتاتشر.أحزاب اليسار بصدد التلاشي واليمين يعيش أزمة،وبالتالي تحاصرنا اليوم حفنة أفكار دون أساس صلب.يقتضي الوضع إذن،إعادة  إحياء الفكر السياسي.
س-هل تؤمنون دائما بأوروبا؟
ج-تجسد أول إلهام أوروبي، في وضع حد للخطر التوتاليتاري.غير أنه، بشكل سريع جدا،انقادت أوروبا وراء هاجس التطور الاقتصادي ثم البيروقراطي.ثم وضعت الهوية الثقافية والسياسية على الهامش.النتيجة :أوروبا هزيلة،بغير روح،وغيرإنسانية. ولعل الموقف الأوروبي من اليونان أو المهاجرين،يعتبر بهذا الخصوص دالا جدا.انصبت المهمة بالمطلق على إنقاذ المنقولات. كان بوسع هنغاريا الانسحاب من الجسم الأوروبي في حالة عدم استفادتها من المال الأوروبي.أيضا الثنائي الفرنسي/الألماني لم يعد بوسعه الاشتغال. 
س-هل يمكن لروسيا أن تلعب دورا حاسما بخصوص إنعاش أوروبا ثانية؟
ج-روسيا  قوة أوروبية كبيرة. تمثل ثقافتها رافدا جوهريا للثقافة الأوروبية. لكن يظل الاشكال مرتبطا بتعملقها الاقتصادي والديمغرافي.يلزم توطيد الصلة بين روسيا وباقي أوروبا.إذا توخينا ممارسة "الواقعية السياسية"،فلايمكننا الاتصاف بالواقعية من جانب واحد فقط. نتساهل مع الديكتاتورية الصينية ثم نسلم أسلحة إلى العربية  السعودية،فلماذا لانسعى للتفاهم مع روسيا؟.
س- استطعتم أنتم مفكر العقل التركيبي،حدس العديد من التحديات المعاصرة،لاسيما تلك المتعلقة بتعدد التخصصات.هل تشعرون بأن أفكاركم قد حققت حولها الاصغاء والفهم؟
ج-لقد تدووِل فكري بكيفية متبعثرة.فأنا مثل شجرة تنقل الريح بذورها إلى كل مكان تقريبا.إن فكرا تركيبيا لايكشف عن نفسه من خلال مجال معرفي واحد،مادام يسعى تحديدا لالتئام تخصصات عديدة.أعلم بوجود بذور في البرازيل،والأرجنتين أو البيرو. بالنسبة للبلد الأخير،مثلا،أدرج وزير التعليم هناك كتابي:''الفكر المركَّب"ضمن مقتضيات المقرر المدرسي.وفي فرنسا،كان جاك لانغ على وشك تفعيل نفس التجربة،لكنه أمر لم يتحقق.ففكري لم يغير السياسة،ولم يخترق مؤسسات اتخاذ القرار.عموما،أعتقد بأني  ساعدت الأشخاص في حياتهم ومهنهم ،خارج الأنظمة السياسية والتربوية الرسمية.
س-في نفس الوقت،لايبدي رجال السياسة انزعاجا من الاستشهاد باسمكم ،كما الشأن مع نيكولا ساركوزي،حينما ردد ثانية تصوركم بخصوص"سياسة الحضارة"... فماذا تقصدون تحديدا بذلك؟
ج-يتعلق الأمر لدى ساركوزي،بتنمية الثقافة الوطنية....لم يفهم شيئا من تصوري!ماوددت قوله،أن حضارتنا تنطوي على مزاياها وآفاتها.والحال،أنه في وقتنا الحالي،فقد تطورت آفاتها على حساب مزاياها.مثلا تقوم الفردانية على مزايا،لكنها  سلبيات الفردانية من تشغل في الوقت الحالي مكانا مهِمّا أكثر فأكثر.يلزم تطوير المكونات الايجابية  في الحضارة الغربية ونضيف لها مبادئ التضامن والتعاضد،ثم التصدي في خضم ذلك،لأسوأ مظاهرها.رغم أن الانسانية،تبدو للمرة الأولى في تاريخها،مترابطة تواصليا،لكن للمفارقة تكشف عن عجز بخصوص تكريس وعي مشترك وشامل.بناء عليه،بوسعنا القول أن حقبتنا مأزومة.
س-وفق أي مستوى يميز مفهوم الأزمة حقبتنا ؟
ج-تطفو الأزمة إلى السطح حينما تتعطل ميكانيزمات الضبط عن الاشتغال بكيفية سليمة.يكمن هدف كل ضبط في التصدي لمختلف الانحرافات.تطور الأخيرة، ينتج شللا يمس النظام:ثم تبرز الأزمة.وتسمح للخيال كي يعثر على حلول جديدة،لكنه أيضا يستدعي حلولا أسطورية أو أكباش فداء.ينطوي كل تطور على أزمة في ذاته.نعاين حاليا أزمة الديمقراطية،لأن هذا النظام الذي يقوم أساسا على الأغلبية والتنافس ترك المكان لسلطة  جديدة استبدادية .
س-يشغل الحب موقعا محوريا في حياتكم.فما هي سلطة الحب وسط عالم تسوده الكراهية أكثر فأكثر؟
ج-إنه شعورمبهج.كنت صبيا وحيدا،يتيم الأم.ولم أتوقف عن ملاحقة هذا المطلق.على امتداد حياتي،لعب الحب دورا هائلا.اعتقدت دائما بأن العقل تلزمه  مصاحبة الشغف.في المقابل،بدون العقل،يجازف الحب بأن يفقد تبصره،ومثاليته.يجدر بالعقل أن يكون مثل مصباح ليلي، والشغف،هو الحياة.
س- ماهي الاشكالية التي لا نقاربها اليوم بما يكفي؟
ج-يبقى سؤال مصير الانسانية الأكثر غموضا وإثارة ،من بين مختلف الأسئلة.

هامش:
مرجع الحوار:
L'Echo:01 novembre 2019.