الخميس، 29 نوفمبر 2018



لقاءات حوارية مع جوليا كريستيفا (الجزء الأول)*
ترجمة: سعيد بوخليط
((أن تحوِّل اللغة إلى ورش،ثم تشتغل ضمن مادية مايشكل بالنسبة للمجتمع،وسيلة للاتصال والفهم،ألا يجعلك ذلك منذ الوهلة الأولى،غريبا عن اللغة؟)) :(جوليا كريستيفا،سيميوطيقا،أبحاث من أجل نظام دلائلي)). 
*صامويل دوك : لنصل إلى تاريخ مفصلي : عشية أعياد الميلاد، سنة 1965 . كنتم بصدد تهيئ أطروحة تتعلق بالرواية الجديدة.فأرسلكم المشرف على البحث إلى السفارة الفرنسية سعيا للحصول على منحة"دوغول"التي كانت مخصصة لبعض شباب بلدان الشرق تسمح لهم بالدراسة في فرنسا.لكن الملحق الثقافي اندهش حينما لاحظ أنّ معلوماتكم لاتقف عند حدود نهاية القرن 19(اللحظة،التي تمثل حسب وجهة نظر شيوعية،بداية"الانحلال البورجوازي") لكنها ستتجاوز ذلك نحو بلانشو، سارتر، كامو، والرواية الجديدة.لذلك حظيتم بالمنحة،ثم هاأنتم مجبرين كي تسافروا على وجه السرعة ومغادرة بلغاريا،سرا.حين وصولكم، قذارة الثلج وأنوار ليست وافرة كفاية،أما قيمة المبلغ الذي يحويه جيبكم،فلا يتجاوز خمس دولارات.
* جوليا كريستيفا :لقد تسارعت وتيرة التاريخ.فخلال المؤتمر العشرين للحزب الشيوعي السوفياتي سنة 1956،أعلن غورباتشوف عن "التعايش السلمي" :سنتجنب حربا ثالثة….ثم سنة 1961،إبان المؤتمر الثاني والعشرين، سُحب مومياء ستالين بهدوء من ضريح لينين،سيتجاوز الدخل الفردي في الاتحاد السوفياتي إنتاج الولايات المتحدة الأمريكية ...دوغول،بدوره، مع حذره  من المشروع الأوروبي،" ارتأى" سلفا أوروبا تمتد من المحيط الأطلسي إلى جبال الأورال،ثم الإتيان بطلبة شباب المعسكر الشرقي يتكلمون الفرنسية.هكذا خصصت الحكومة البلغارية مجموعة منح لأطر تستحق،قد لا يكونوا بالضرورة شبابا أو يتحدثون الفرنسية بصعوبة،مثل هؤلاء المرشحين عجزوا عن إثارة انتباه السفارة الفرنسية بمدينة صوفيا.بالتالي،أخفق جل هؤلاء في الذهاب،أو فقط تمكَّن القليل جدا منهم.لم تحضر لدي أية إشارة بخصوص وجود تلك المنحة،وحتى لو كان الأمر كذلك،فسأكون مقتنعة بانتفاء كل حظ  قد يحملني نحو الحصول عليها.ضمن هذا السياق السياسي،أصبحت أنا الطالبة امرأة تقارب سن العشرين،ثم جذابة يتودد إليها أصدقاؤها التلاميذ،والصحافيون، والأساتذة. لكنها منشغلة أيضا بمستقبلها، وحريتها، وتحررها، باعتبارها قارئة ل"الجنس الآخر"(كتاب سيمون دي بوفوار).بين الأهواء  والخيبات الغرامية،في إطار صخب أماسي راقصة عرفت احتفالات سخية – كان ذلك  مطابقا جدا للموضة في موسكو، براغ، فارسوفيا وصوفيا – بدا لي أن الصحافة، وكذا التعليم الذي يتهيأ لي آنذاك بفضل شهادة الليسانس في اللغة الفرنسية لن يمثلا إلى حد ما سوى زبد متلاش .فهل ورثت الرغبة في الفهم،ثم النهم العلمي أو الروحي عن والديّ،أو يبقى ذلك مجرد رجفة مفعمة بالحماسة حتى أقاوم اكتئابا متواريا؟بقدر شغفي الدائم بالفلسفة،النظرية الأدبية وكذا البحث اللساني،بقدر ماتتلاقى لدي دروب، كي أبلغ الأوج،وأنا أضيئ ذلك،من خلال الإبداع الخيالي.لاسيما التخيل الفرنسي المعاصر،الذي قرأته وأعدت قراءته بناء على الشكلانية الروسية.لقد اكتشفت البنيوية الفرنسية،ونظرية الأدب عند بلانشو،بارت،عبر الإدمان على كامو، سارتر، وكذا الروائيين الجدد. هكذا تخليت عن مسار الصحافة !وانتهى اهتمامي بالمقابلات الحوارية وكذا غرف التحرير!ثم بدأت بحثا لنيل الدكتوراه،في معهد الأدب التابع لأكاديمية العلوم،يتعلق موضوعه بالنظرية الأدبية،وتحديدا الرواية الجديدة(ناتالي ساروت، ميشيل بوتور،ألان روب غرييه) :أقصى تجليات الحداثة ! فكتبت أولى دراساتي النظرية/ النقدية حول كتاب بلغاريين معاصرين، بدءا ب "بْلاغا ديميتروفا" ،شاعرة مميزة وروائية،وامرأة تعتز بحريتها، أصبحت نائبة رئيس الجمهورية البلغارية الجديدة بعد تحطيم جدار برلين سنة 1989 . هذا "التحول" صوب النظرية الأدبية تأتى لي نتيجة محفز ثقة أقاربي،وكذا احتدام النشاط الثقافي داخل الوسط الفكري الذي يحيط بي.
*صامويل دوك : وأنتم متحمسون بكيفية متداخلة نحو حياة بلد وكذا حياة امرأة !هل حضر لديكم إحساس الاستفادة من انفتاح''ذوبان الجليد ''،إبان حقبة تاريخية أكثر ليونة؟هل تتخيلون بأنه قادكم نحو فرنسا؟فهل يشجع ''ذوبان الجليد" العلاقات مع الغرب؟
*جوليا كريستيفا : لقد كان انفتاحا محددا جدا.فرغم ''ذوبان الجليد''،بقي الستار الحديدي حائلا دون مرور المعلومة،أقصد حائط برلين الذي يؤرخ لسنة 1961،كما تذكرونوقد بذلنا مع ذلك قصارى جهدنا في سبيل فكِّ القبضة .هكذا دأب شباب المنظومة الشرقية على تبادل مراسلات مع رفاقهم  في فرنسا،وأعضاء الشبيبة الشيوعية أو المنحدرة من عائلات شيوعية.بهذا الخصوص تبادلت رسائل مع ''ميراي بوردور'' من مدينة ليون،فكان ذلك فرصة كي أتوصل منها بروايات ألبير كامو وجون برولر، الأخير كاتب مقاوم نصحنا أساتذة الجامعة بقراءته.هكذا شهدت عروضي حول "صمت البحر"(جون برولر) و"الإنسان المتمرد"(كامو)،نجاحا معينا،لاسيما الثاني !في غضون ذلك،أصبح مدير جريدة تلامذة الثانوية ''فلاديمير كوستوف''،الذي كان يقدرني كثيرا،مراسلا ليومية شيوعية بلغارية في باريس،فأمدني بمجموعة كتب شكلت حدثا تاريخيا لحظتها  : الفضاء الأدبي(بلانشو،1955).الدرجة الصفر للكتابة(بارت،1953) . ثم تصوروا معي،العدد الأول من مجلة"لونوفيل أوبسرفاتور"(1964!بعد تحطيم جدار برلين،وجهت التهمة إلى ''كوستوف'' بكونه اشتغل جاسوسا مزدوجا.حقبة ثرية لكنها مضطربة،لازالت المظلات البلغارية المفتقرة إلى الخيال مهووسة بالحنين الشيوعي.
*صامويل دوك : ألم يؤثر هذا التاريخ على احتراسكم من الصحافة،ثم السياسة بشكل عام؟لقد قطعتم نهائيا ذاك الخيط الرابط مع "ماضيكم الصحافي"،ويبدو لي حاليا أن لاشيء يدعو لديكم إلى افتراض ذلك؟
*جوليا كريستيفا : صحيح أو خطأ،فقد جعلني فعلا أمر "كوستوف" حذرة. أعلم جيدا، لقد اكتُسحت اليوم الإمبراطورية الإعلامية،من طرف منظومة التقنيات الجديدة للمعلومة والتواصل،فحلت تماما محل التوتاليتارية،بقدرات ذات فعالية رهيبة على نحو مختلف.بالتالي،لم يتغير أي شيء. أحس بين طيات كل تقرير يهم الرأي،وجود شرطي،حسب المعنى الواسع للكلمة،مستعدا للتلاعب بحيثيات الخبر ثم كل ما يندرج في إطاره،لصالح من يعطي أكثر،ضمن حدود رغبات السلطة طبعا.لا يتعلق الأمر هنا ب"خطأ"هذه الشخصية أو تلك،بل لاواعيا حسب حالات معينة، ولامفر منه.مادامت لم تعد توجد سلطة واحدة،بل شبكات سلطوية "قائمة "إذا أردتم،ويلزم فعلا أن يجعلوا منكم على الأقل عميلا مزدوجا.إذن،أبدع ثم أتوارى.عموما، ليس بكيفية مطلقة :لقد كنت مسرورة وشجاعة وأنا أنقاد وراء شهرة "خمسة دقائق"،على طريقة "وودي آلان" طيلة سنتين أكاديميتين (2000.2001)،بحيث دأبت خلال كل يوم أربعاء على الساعة الثامنة صباحا وخمس وعشرين دقيقة،على تقديم موضوعات ثقافية من خلال برنامج : "الطبعة الأولى" ،في إطار صباحية "بيير أسولين"على قناة"فرنسا الثقافية"، إلى جانب أسماء أخرى،تدلي بمداخلاتها طيلة الأيام الأخرى، ك:دومنيك شنابير(الاختصاصية في علم الاجتماع) ،جاك جوليار(كاتب افتتاحيات) ،ميشيل وينوك(مؤرخ) ،آلان جيرار اسْلامة(الباحث والمؤرخ والصحافي).أتناول ضمن الراهن"شذرات"،ثم أثريها بذكريات وغراميات،وينبغي أن يكون الموضوع مقتضبا،فأقضي أحيانا ليلة في سبيل صياغة ذلك،وأحيانا أخرى زمنا وجيزا جدا.يبث البرنامج مباشرة،عبر محطة الراديو،ويلزمني قراءة مداخلتي بنبرة طبيعية قدر ما أستطيع،دون تعثر.هكذا أحاول تمشيط قضايا الوطن وكورسيكا،فرويد في النمسا،الإجهاض والإتيقا،عقوبة الإعدام في الولايات المتحدة الأمريكية،فيرجينيا وولف وأميلي بولان،بول موران وعاموس عوز،هراقليطس وسيمون ويل،التحليل النفسي واليسار الجذري ثم ترجمات شكسبير والإرهاب،دون نسيان الاحتفال بيوم الألفبائية في بلغاريا ثم تصور جاك شيراك لوضعية المعاقهي الموضوعات التي صدرت لاحقا مجتمعة بين دفتي كتابي المعنون ب :الميكروسياسة و مقالات عن الزمان المحسوس(منشورات فرنسا الثقافة/أوب،2003 ).
*صامويل دوك :لنعد إلى''ذوبان الجليد ''وكذا "ميراي بوردور''،التي كانت تراسلكم من مدينة ليون،مفاجأة مدهشة،ومهمة جدا بالنسبة إليكم.
*جوليا كريستيفا :ظلت علاقتنا فقط مكتفية بالتراسل ثم سرعان ما انقطعت أواصرها نتيجة اضطراب ظروف حياة كل واحدة منا.لكنها من ستكتب رسالة توصية إلى "بيير ديكس'' :هكذا استقبلني بحفاوة كبيرة وقدمني إلى لويس أراغون وإلزا تريولي.بعد مرور عشرات السنين،سألتقي "ميراي بوردور''للمرة الأولى بقضها وقضيضها :لقد أتت لتحيتي،خلال مناسبة الاحتفال بتوقيع أحد كتبي.
* صامويل دوك : وفي مدينة صوفياتزفيتان ستويانوف ؟ينطوي اسمه العائلي على رنين مثل الاسم الشخصي لوالدكم.
*جوليا كريستيفا :تجلت معه علاقة قوية بكيفية أخرى(شخصية دانDan في روايتيالتي عنونتها ب: الساموراي).لقد كان أحد أفضل الباحثين والناقدين الأدبيين البلغاريين.تقاسم تياران صفوف الأوساط الفكرية المنشقة :"القوميين" ثم "أصحاب التوجه الغربي"،واللذين تجابها ودِّيا لكن بحماس.يعتبر تزفيتان ستويانوف رائد الفريق المستلهم للغرب،عدد أنصاره ليس كبيرا(أتساءل بهذا الخصوص أيضاعن المتواطئين معه،إلى جانبي!).أدين له، بهذا الشغف الذي جمع بيننا،لكن ما يتعلق بي، لم يكن متاحا له الاستمرارية، أقصد اطلاعا متينا على الأدب الانجليزي :جوناثان سويفت،ويليام بليك،جيمس جويس، الذين ترجم لهم تزفيتان ستويانوف نصوصا إلى اللغة البلغارية،لكن  كذلك أستحضر تعمقه الأصيل في كتابات غوته، وهيغل ثم كافكا المفضل لديه، بحيث كان يستشهد عن ظهر قلب بفقرات من مؤلفاته.أيضا استلهمت بفضله بعض مبادئ الفلسفة الصينية.لقد كتب حوارا متخيلا بين لاو- تسي وكونفوشيوس،يتنبأ بمستقبل للصين سيعرف بحسبه مجابهة بين هذين التيارين الفكريين،قبل أن  يقسِّم ذلك الإنسانية برمتها.هل لاحظتم  إلى أي مستويات جيوبوليتيكية حلقت عقولنا،مشرئبة  نحو آفاق الفرار من كماشة النظام الشمولي !هذا المناخ المتسم بالغليان،سبق رحيلي إلى فرنسا.
*صامويل دوك :من المهم كي نتابع معكم،وكذا السعي إلى محاولة فهم منظومة أوروبا الشرقية الأوروبية حاليا،التي استغرقها كثيرا الغموض والإبهام.إذن غادرتم صوفيا نحو باريس.أقرأ لكم بهذا الخصوص :(( وضعت على طاولة الأمتعة حقيبتين نحاسيتين وأوراق داكنة، ثم لامست على مضض الخدين المبللين للأب- الأم،أما دان Dan فقد رمته بطرفة عين عاشقة،واتجهت صوب سلم طائرة من نوع توبوليف Tupolevدون أن تلتفت إلى الوراء،ثم قضت ثلاث ساعات ونصف داخل الطائرة دون أي تفكير في تبيُّن الدقائق – الرأس فارغة، ولاشيء سوى نكهة ترسب الشاي داخل الفم- ثم حطت في باريس متجهمة،موحِلة،لأن ندف الثلج لا تتوقف عن التساقط والذوبان.مدينة الأنوار غير موجودة، والفرنسيون لا يتقنون  إزاحة الثلج.خيبة أمل مطلقة، وقد شعرتْ بذلك في ملوحة حلقها.بالتأكيد، لاينتظرها بوريس Borisفي مطار أورلي،وجيبها لايضم سوى خمس دولارات.إذن لاشيء يدعو إلى الابتسام.إنها الكارثة)).
* جوليا كريستيفا :لنعد قليلا إلى الوراء.فالأستاذ إيميل جورجيف،المشرف على أطروحتي،من أحاطني علما بالمنح الفرنسية،ثم انتهزنا فرصة غياب مدير المعهد،الذي كان مسافرا إلى موسكو،كي أضع ملف ترشيحي في السفارة الفرنسية.تركتُ انطباعا جيدا لدى الملحق الثقافي،مثلما أشرتم سابقا،وبالتالي حصلت بسرعة على التأشيرة،إنه على أية حال سياق''ذوبان الجليد"  وكذا فرنسا دوغول التي تستحق أكثر من الاحترام.لم يعثر أبي سوى على خمس دولارات،ولن أتسلم المنحة إلا آخر شهر يناير1966 ،ثم أخذت الطائرة المتوجهة صوب باريس ليلة الاحتفال بأعياد الميلاد.ربما جراء ضربة حظ،سينتظرني صديق ل "كوستوف" في المطار.لكن حين وصولي إلى مطار بورجيه،لم يكن هناك أي أحد.سيدة من السفارة البلغارية في باريس،التقيتها في الطائرة، اقترحت علي مرافقتها:منطقيا،ليس بوسع صديقي التائه البحث عني سوى وفق إحداثيات ''مكان معلوم"،أي السفارة! فعلا،كان جالسا في قاعة الانتظار،بينما أنا عاجزة عن البكاء أو التفكير. الجو بارد وكئيب، فلن أنسى أبدا حالة التجمٌّد تلك.ولاأتوفر على بطاقة عودة.ثم حضر زائر،قدم هويته كما يلي : ألبير كوهن،مراسل اليومية الشيوعية البلغارية بواشنطن. صاح في وجهي :"هكذا أنتم إذن ! "،ربما خاب ظنه قليلا، نتيجة فتوة عمري،مثلما تصورت،أو كذلك بسبب كآبتي.لم تكن تجمعني به سابقا أية صلة ،بيد أني احترمت كثيرا هذا المناضل السابق وتحديدا صاحب دراسة انصبت تفاصيلها على ''ذوبان الجليد ''.لم يبادر أي شخص نحو القيام بمقاربة نقدية لمضامين هذا الكتاب("ذوبان جليد"،ربما،لكن ليس أكثر مما ينبغي !)تخصص لمجلة "شتنبر"الناطقة باسم اتحاد الكتاب والتي تعاونت معها.ببساطة،قمت بالمهمة.مباشرة بعد الإصدار،لم يتوانى مقال عنيف لليومية الشيوعية،عن شجبي واتهامي بأني أعمل لصالح الرأسمالية والصهيونية.ثم بهدف عدم إثارة فزع أمي،أسرع أبي إلى إخفاء الجريدة وقصدنا حانة صغيرة متواجدة عند قدم جبل مجاور حتى"نحدد ممكنات الوضعية".استمر خوفنا طيلة الأسابيع اللاحقة،هكذا أتحسس كل صباح باكرا أي ضجيج يحدث في درج المبنى(ربما الشرطة أتت كي تقتادني؟). خصوصا وأن برنامجا تبثه إذاعة أوروبا الحرة انطلاقا،من برلين الغربية،مناهضا بقوة للشيوعية،مدح"شجاعتي"لكن عموما حدث''ذوبان الجليد''، ثم أُهمل فيما بعد ''إنجازي"…. إذن، جراء مفعول تلك الصدف السعيدة التي لا تتأتى سوى للآخرين،انبعث ألبير كوهن من داخل العتمة الجليدية للسفارة البلغارية في باريس !ثم دعاني لتناول العشاء والإقامة عند زميلته "ميرا تودوروفا"،مراسلة نفس الجريدة في باريس. بقيت بصحبتها غاية حصولي على المنحة.أول أصدقائي الفرنسيين :جونيفييف بليز ،كلود نوزيليس ،كاترين لووف ،إيف بازتيد،سبق أن تعرفت عليهم خلال فترة تمرنهم بجامعة صوفيا كي يواصلوا دراساتهم المهتمة باللغة السلافية في السوربون،أسعدوني إبان أيامي الأولى،بحيث استضافوني عند أسرهم،واصطحبوني إلى مقاهي الحي اللاتيني.وسرعان ما صادفتٌ ثانية ابن عمي "شابتاي أيموف" الذي كان مُبْعدا وزوجته ''نيللي''،طالبان إسرائليان مستقران في باريس. أٌلفة مسافرين :اعتقدت بأني رجعت ثانية إلى"بيتي"تحت كنف الهدوء المتكتم لمنزلهم الصغير المستأجر،الكائن في جادة غوبلنز،لكن بعد أن أكتشف معهم المطاعم الصينية،تستمر مناقشاتنا غاية الفجر عن حكاياتنا المشتركة والمتقاطعة الموزعة بين ميادين الأدب، والرسم، والموسيقى، والهندسة أو السينما.مخدر لاينضب لأجانب،ومحطات عابرة للذاكرة تعين على اجتياز الصحراء،استمر هذا الأمر كما نستعيد اليوم حيثيات أصل ذلك.
*صامويل دوك : إنها نقطة الانطلاق الصعبة عن حياة جديدة وكتاب رائع، عنوانه ''الساموراي"(1990:((أن أولد ثانية لم يكن أبدا أكبر من قدراتي)) :لقد استلهمتم مبكرا جدا هذا الشعار لصاحبته سيدوني غابرييل  كوليت مادام أنكم أدركتم كيفية استثمار مختلف وسائلكم حتى تتفوقوا على ذاتكم،وتمنحوا وجودا لفكركم.لقد أعاد الثنائي ''ألان'' و"جوزيت'' راي ،التذكير بحزمكم وكذا قدرتكم على خلق المحيط الخاص بكم. قلتم بأنكم اتصفتم بالليونة والحزم،مثل "أولغا ليكوريل''،بطلة رواية الساموراي.تتصفون بعزلة كبيرة وسط الأشخاص الذين يشبهون لفافات الهدايا.
*المصدر :
Julia Kristeva :Je me voyage ;Mémoires :entretiens avec Samuel Dock ;Fayard 2016.pp :53-61.                                         

الأربعاء، 21 نوفمبر 2018


 من ألبير كامو إلى ماريا كازارس
ترجمة: سعيد بوخليط

                                   الرسالة (رقم5 )
7 يوليو 1944 ،الجمعة الحادية عشرة مساء :
أرغب في المجيء إليكِ هذه الليلة لأن قلبي مختنق ويبدو كل الوضع صعب التحمل.اشتغلتُ قليلا صباحا، في حين لم أفعل أي شيء خلال الظهيرة.كما لو أني نسيتُ نشاطي وما ينبغي القيام به.أظل على هذا المنوال ساعات،أياما، وأسابيع بحيث يتلاشى كل شيء من بين الأيادي مثلما يقال.أنتِ أيضا تختبرين حالة كهذه .
أعلم منذ مدة،أن هذه الأوقات التي أتوخى خلالها صرف انتباهي عن جل ما يحيط بي، تعتبر الأكثر خطورة، هكذا تحضرني رغبة أن أعيش بعيدا عن كل مابوسعه  مساعدتي.لأني  أعلم ذلك، أرغب في القدوم عندكِ. لو أنكِ حاضرة هنا، لصارت الوضعية أكثر يسرا.بيد أني متيقن هذه الليلة تماما من غيابكِ.يكتسحني إحساس منذ فترات معينة، بكوني خسرت كل شيء.لذلك ستهيمن الحلكة كليا،إن بقيتِ بعيدة عني.في الانتظار،لن آمل في لقائك قبل فترة ليست قصيرة.
أتساءل هذه الليلة، ماذا تفعلين، أين تتواجدين، وفيما تفكرين. أود لو امتلكتُ يقين فكركِ وحبكِ. استطعت ذلك،أحيانا.لكن ماهو الحب الذي في وسعنا الوثوق به دائما.إشارة ثم يتقوض كل شيء،على الأقل إبان لحظة معينة.عموما، يكفيكَ كائن يبتسم في وجهكَ ويدخل البهجة إلى قلبكَ،لكن طيلة أسبوع  على الأقل،غاب أيّ حب عن هذا القلب الذي أغار عليه جدا.ما العمل إزاء ذلك سوى الإقرار والفهم  والتجلد.بل من أنا حتى أطالب شخصا بأشياء عديدة.ربما،لأني أعلم مختلف جوانب الضعف التي قد يعيشها قلب ما ولو اتصف بالصلابة. هكذا أشعر بالخشية جراء الغياب وأمام هذا الفصل الأبله،بحيث يتحتم عليكَ لحظتها تغذية عشق جسد بخيالات وذكريات.
هنا خلد الجميع إلى النوم. بينما أنا أسهر معكِ لكني أشعر بروحي جافة مثل كل الصحاري.آه !عزيزي،متى يعود لنا التدفق والصيحة ! .
أحس أني أخرق جدا وشديد الرعونة، مع هذا الحب غير المستثمر ثم يظل في صدري يحصرني دون إلهامي البهجة. يبدو أني لست صالحا لأي أمر. يلزم أن يكتسيني ما أنا بصدد كتابته، أنغمس في الرواية وأنصهر ضمن الشخصيات التي باشرتُ تشكيلها من جديد.لكني أتطلع إليهم فوقيا،مادمت أشتغل بذكائي شاردا، ولا لحظة واحدة صحبة هذا الشغف والانكباب القوي الذي كرسته دائما إلى من أحب.
عطلتُ ذلك فجأة.ألاحظ بأنها رسالة نحيب.وأنت وأنا لدينا شيئا آخر يجدر القيام به غير هذا الانتحاب.حينما نشعر بجفاف القلب،سيكون من الأفضل التزام الصمت.أنتِ الوحيدة اليوم التي أرغب في أن أروي لها معطيات من هذا القبيل.لكنه ليس مبرر،ولا قط  وجع أيضا. لقد أحببتِ لدي،غاية اللحظة الراهنة، ماهو أفضل.ربما لم يتحقق بعد هذا الحب.وربما كذلك لن تحبينني حقا إلا عندما يتحقق ذلك بناء على كل تجليات ضعفي وكذا عيوبي.لكن متى وكم يلزم من الوقت؟ وضع مذهل ومفزع،أن نحب سواء في خضم الخطر، والريب،ثم بين طيات عالم ينهار وضمن سياق تاريخ لا تعني معه حياة إنسان سوى القليل جدا.لن أنعم بالسلام مادام وجهكِ قد سُلب مني .إذا لم تأت، فليس أمامي سوى التحلي بالصبر،لكني سأفعل ذلك في إطار ضيق القلب وجفائه.
ليلة سعيدة، سوداء وبيضاء.افعلي ما بوسعكِ كي تظلي قريبة مني،واتركي جانبا، كثيرا من المقتضيات وكذا المزاج السيئ.حاليا، أتبيَّن الحياة صعبة.بالتالي، لدي مبررات عدم إحساسي بالانتشاء.لكن إن كان إلهكِ موجودا، فسيدركُ أني أقدم كل مالدي وما في وسعي  بذله حتى أتحسس ثانية يدكِ على وجهي.لن أتوقف عن عشقكِ و انتظاركِ حتى وسط صحراء.
لاتنسيني. 
                         
                    الرسالة رقم (6)    
8* يوليو 1944 ،السبت التاسعة صباحا :
أعدتُ ثانية صباحا قراءة هذه الرسالة وترددتُ في إرسالها إليكِ. لكني أفترض عموما أنها تشبهني،بحيث نضطر أن نكون ما نحن عليه.ليس الأمر على ما يرام  هذا الصباح ولا كذلك سيئا جدا.سنذهب بعد قليل إلى نزهة تستغرق اليوم كله،لذلك يلزمني قبل المغادرة،اتخاذ قرار بشأن أن أبعث لكِ فورا رسالتي حتى تصلكِ يوم الاثنين.
الجو كئيب، والسماء ملبدة.إلى اللقاء، إكليلي الصغير . فكري ثم فكري كثيرا في شخصي، وليكن عشقكِ نحوي بنفس ذات شغف وجموح عشقي لكِ.
   
                الرسالة (رقم 7)
* 9 يوليو 1944،يوم الأحد :
عزيزتي،
بيير غاليمار الذي سيسلمكِ هذه الكلمة، يعود يوم الخميس  إلى منطقة فيرديلو، بواسطة وسيلة ليست متعبة كثيرا،سيحدثكِ عنها.أعتقد إن كنت دائما على استعداد للمجيء إلى هنا أواسط الأسبوع، فسيشكل ذلك أفضل فرصة. أكتب إليكِ، لكني لست في حاجة لإخباركِ أني أنتظركِ يوم الخميس. أما بخصوص رجوعكِ، إن بدا لكِ الأمر ضروريا، ففي إمكانكِ العودة إلى باريس وفق ذات الترتيب، خلال نصف يوم.
حتى حلول يوم الخميس،أترقب وصولكِ وأقبِّلكِ.  
*  المصدر :
     Albert Camus/MariaCasarés :correspondance (1944-1959) ;Gallimard ;2017