الأربعاء، 29 يناير 2020


من ألبير كامو إلى ماريا كازارس : (الرسالة24)*
ترجمة : سعيد بوخليط

يوم الثلاثاء10 غشت 1948

عزيزتي،
افتقدتُ أخباركِ،هاتفتُ قبل قليل جانين غاليمار فأخبرتني بأنكِ ترقبتِ رسائلي حتى اللحظة الراهنة.لذلك أتأسف لأني تركتكِ تعتقدين تلكئي عن الكتابة إليكِ. لكن بما أني لست متأكدا من عنوان منطقة جيفرني،فقد آثرت مراسلتكِ على عنوانكِ الخاص، وضمان تعقب أثر الرسالة.طبعا،خلق ذلك عائقا سخيفا.أتمنى،أن الارتياب لم يتمكن منكِ إبان الفترة، وبوسعي رسائلي مع أنها قد تكون ساذجة،إخباركِ كمْ بقيتُ مهووسا بحضوركِ طيلة هذه الأيام.والآن ستكتبين إلي أليس كذلك؟افعلي ذلك باستمرار،إن استطعتِ.لازال يفصل بيننا شهر طويل….أخبريني ما تفعلينه حاليا،وما تفكرين فيه،أحتاج شفافيتكِ.هل أعجبتكِ منطقة جيفرني، وهل والدكِ في أفضل حال، هل يتمتع باستقرار هادئ؟ كيف تقضين يومياتكِ؟ فيما يخصني، أتوجه كل يوم بعد الظهيرة للسباحة وسط قناة مائية كبيرة تبتعد عن  محل إقامتي بحوالي كيلومترين. التيار المائي قوي جدا بحيث يصعب الطفو فوقه.أغوص بأقصى سرعة، نحو عمق  يقارب خمسمائة ميتر، ثم أصعد ثانية عبر الاستعانة بحبال تشدُّ السفن. ثم أرتمي ثانية معيدا الكرَّة.غير هذا، أقضي ما تبقى من الوقت، في الكتابة. هكذا،أنهيتُ اليوم مجموعة تعديلات على نص مسرحية الجحيم، وأوكلتُلكِ دور ابنة القاضي(1).أتمنى بهذا الخصوص،الصفح من والدكِ.لكن لا تحملينهَمَّا،لأن التغييرات التي أضفتها ليست كبيرة.بحيث يلزمكِ فقط الانكباب على استظهار القليل من مقاطع النص الإضافي.فيما يتعلق بهذا الموضوع،لقد جعلتكِ جريدة "نضال" تصرحين عبر حوار بأن الحفلة الراقصة لمسرحية جحيم قادس مجرد إعادة اقتباس لروايتي(2).غير هذه الإشارة،يظل مجمل الحوار رائعا!
ابتداء من يوم غد، سأشرع في كتابة نص المسرحية الجديدة.إنها طريقتي الوحيدة حتى أتغلب بخيالي على طول فترة هذا الشهر. لم تغيبي عن بالي تماما وحينما أعثر عليكِ ثانية فلن يكون بوسعي حينئذ سوى الدفع قليلا بالزخم الذي يضعني أمامكِ. في الانتظار،أعيش إلى حد ما كما لو أصمَّ و ضعيف  البصر،وأمتلك عينين فقط من أجل اكتشاف هذه البلدة الجميلة الماثلة أمامي.نعمة هي الغرفة الموجودة في أعلى المنزل.سأنتظركِ هناك.
لكن حاليا،أترقب خاصة رسائلكِ.لقد انقضى حاليا أسبوعان ولم يصلني شيء منكِ.أحاول انطلاقا من هنا، وأنا بعيد تخيلكِ وإعادة رسم صورتكِ. لكنه وضع منهك لأني عشقتكِ على هذه الأرض،وبالتالي أحتاجكِ أرضا،وليس تخيُّلا. فلينقضي زمن هذا الشهر سريعا،كي يعثر من جديد أحدنا في الثاني على سنده، ثم وثوق أحدنا في الآخر، حتى النهاية، هذا ما أتمناه وأتطلع إليهكلما فكرتُ في الرجوع،إلا وارتعد شيء داخلي.
اكتبي بسرعة حبيبتي، عودي سريعا،ولتفكري في شخصي بقوة،مثلما أفعل معكِ.لاتنسي ''انتصاركِ"(إنه انتصاري، مبدئيا، غير أني أردتُه لكِ!).
أحبيني.
هوامش :
*ألبير كامو/ماريا كازارس :مراسلات(1944 -1959)،غاليمار،2017
1-فعلا ستلعب ماريا كازارس دور فيكتوريا، ابنة القاضي،في مسرحية حالة طوارئ،من إخراج الثنائي جان لوي بارو ومارلين رونو شهر أكتوبر 1948، وعرضها في مسرح مارينيي. صار اسم فيكتوريا اللقب الثاني للممثلة، بحيث توقع غالبا رسائلها بالحرفين الأولين لاسمي ماريا/فيكتوريا :MV.
2-"يلزم التوضيح،بأن مسرحية حالة الطوارئ،مهما قيل حولها،ليست بأي شكل من الأشكال اقتباسا لروايتي"(''تنبيه'' من طرف ألبير كامو،على ظهر الطبعة الأصلية لمسرحية حالة طوارئ،غاليمار،20نونبر1948).

الثلاثاء، 28 يناير 2020



جوكر،الشعار الراديكالي  لمجتمعاتنا المريضة *
ترجمة :سعيد بوخليط
تقديم : تستحضرهذه المقالة المشتركة بين سيرج هيفيز طبيب الأمراض النفسية والعقلية وسيباستيان بوسوا الباحث المختص في العلوم السياسية،قضية التفكير في رمزية المهرِّج الشرير،مثلما عرضه الفيلم الأخير للمخرج تود فيليبس،ويتوخيان فهم دور هذه الشخصية ذات الدلالة بخصوص تطورات انحراف شباب يعيش على هامش مجتمع أضحى عنيفا بسخاء.
الفيلم الرمزي''جوكر'' لصاحبه تود فيليبس،المحتفى به حاليا بشكل واسع داخل القاعات السينمائية،مثيرا جملة انتقادات متحمسة،واصفة إياه تارة بكونه تحفة وتارة أخرى بالفيلم الخطير ذي الخلفيات الفاشية.
تطرقت مقالات عديدة إلى قيمة الفيلم،ثم مستوى الاقتباس السينمائي وكذا الدور المبهر للممثل خواكين فينيكس.لكن فقط الأقلية من حاولت استيعاب هذه الشخصية،وجل ماعاشته قبل الوصول إلى هنا،ثمحمولتها الدالةفيما يتعلق بسيرورة انزلاق شباب يعيش على هامش مجتمع صار عنيفا جدا.واقع يقدم دليلا واضحا على أن الدودة استوطنت سلفا الفاكهة وبأن أيديولوجية قوية وكذا نعرات تتغذى على التمييز يمكنها إفساح المجال للأسوأ بالنسبة لفرد معزول،يكابد التهميش،الاقصاء،السخرية،ويُصفع نتيجة اختلافه.لذلك يبقى رهان مجتمعاتنا حاسما وقد أضرت بقيم الرحمة والتعاطف،إذا أردنا عدم رؤية ولادة مآت النسخ الشبيهة بشخصية ''الجوكر''،مثلما قال الأب بيير :"تقاس حضارة بنوعية موضوعات الغضب التي تقترحها على شبابها''.
في الواقع،سيناريو الفيلم،المستلهمة تفاصيله من سنوات فتوة العدو الكبير باتمان،سيحاول من خلاله أرثر فليك (المهرِّج)،تعقب المسار الذي قاده صوب تبني التطرف والعنف الدموي.
أرثر طفل بالتبني لأمِّ مصابة بالذُّهان،كانت الحياة بالنسبة إليه تسكعا،عانى الخداع والعنف وسوء المعاملة والإهانة.افتقد كل شيء،ويبدو أن الجميع يذكره بكونه يختلس انشراحا ماكرا.مهرّج بالرغم منه ليكسب فقط قوت يومه،فلم يبادر أبدا نحو خلق البسمة بناء على مبررات وجيهة. ذات يوم،أرغمته أقصى درجة الإذلال على العنف المتطرف حينما قتل دخل قطار ميترو ثلاثة شبان يعملون في القطاع المالي.هل يعكس سلوك من هذا القبيل رفضا وكراهية للناجحين؟ليس الأمر كذلك،بل الشباب الثلاثة،من كانوا في حالة سكر طافحة،فبادروا إلى مهاجمته حين محاولته نجدة فتاة شابة ضايقها هؤلاء الشباب.ثم انتهي الأمر باستقرار رصاصة بين ثنايا جمجمة كل واحد منهم.هكذا تسارعت الأحداث: المهرّج وقد تجاوزه سلوكه الخاص،أضحى موضوع تمجيد من طرف آلاف المتظاهرين الثائرين،يستعرضون بدورهم قناع المهرّج،فوضعوا مدينة غوثام على صفيح من النار والدم.هكذا شكلت حالة الذّهان التي يعانيها أرثر تلك الشرارة التي أشعلت جنونا جماعيا اجتاح المدينة بأكملها.
توخى أرثر،النموذج الأصلي لمكابدة احتقار الآخرين،الثأر من الجميع ضد الجميع وسط مجتمع جائر،مرتكبا فعلا تأسيسيا أدى إلى شَرْعنة تمرد مدينة بأكملها.هل أمكن لمساره ومعاناته توجيهه قَبْليا صوب هذا الجنون؟يتدرج بنا الحكي ضمن هذا النطاق جهة الكشف عن إفقار الخدمات العمومية للطب النفسي والعقلي في المستشفيات.واقعنا اليوم يتجاوز الخيال: لاحظ أرثر بأن مركز علاجه مغلق،وبالتالي توقف استفادته من وصفات علاجية،فكم ينبغي لمجتمعنا أن ينفق على مرفق عمومي يخدم احتياجات طب الأمراض النفسية والعقلية الذي بوسعه تحمل أعباء متطلبات آلاف المصابين ب''اختلالات عقلية''ثم يحرمون إلى أقصى حد من هذه الامكانيات؟
يلزم الاهتمام بعلاج المرضى المصابين بالذُّهان،والهذيان أو الشيزوفرنيا،وعدم تركهم منفردينإلى ذواتهم،هكذا يتضاءل كثيرا مستوى خطرهم.فبينما تمثل الشخصيات المنعزلة والمنزوية جماعة الضحايا الأوائل لمجتمع يعاملهم بقسوة،ثم يوشكون بأن يسقطوا على الآخرين ذات العنف الذي تعرضوا له سابقا.إنها شخصية الدرجة صفر، كما أوضح المحلل النفسي فتحي بن سلامة.
أصبح أرثر المهرِّج،شيئا فشيئا،بعد كل فظاعة يرتكبها،والإشادة بذلك،شخصية بطولية يتطلع بشدة كي يحظى ب :الاحترام والهيبة والاعتراف.استُضِيف إلى استوديو واحد  من أكبر البرامج الأثيرية في مدينة غوثام،فسطع بريق نجمه.هكذا انزاح الاذلال وأضحى ماضيا،وها هو الآن أرثر شخصا مرعبا جراء مايضمره من الثقة واللاتوقع.غاية قتله مقدم البرنامج اللامع لحظة البث المباشر متهما إياه مرة أخرى بأنه استهدف أساسا السخرية منه بين طيات دعوته حضور البرنامج.
إضافة إلى كون هذا النوع من الحكايات،يحيلنا على نموذج كوميدي صدر سنوات الأربعينات ولازال يحافظ بكيفية قوية على راهنيته،يلقي بنا الفيلم وسط مجتمعات مستقبلية قياسا لحقبة تعرف اندلاع العنف وتزايد ظواهر الحرب الأهلية كمايحدث حاليا.
بوسعنا أن نؤاخذ على الفيلم،نزوعه التحريضي.هكذا،أمكننا ملاحظة تجلي أشكال الابتهاج نحو هذا العنف عند جمهور الشباب.بل وجملة من التصفيقات الداعمة لحضور جوكير.ربما ارتبط هذا بوجهة النظر المتبناة انطلاقا من زاوية إخراج الفيلم: تلك المتعلقة بشرعية عنف البطل المدمر،مع أنه شخص يهذي ومهلوس،تعيس حطمته الحياة فصار شخصا شريرا انتهى منتصرا.سياق يعتبر بالأحرى نادرا في هوليود.
أبعد من بطل الحكاية الأسطورية،ارتقى أرثر إلى نموذج بالنسبة لساكنة مدينة غوثام المنخرطة في حرب.قَتْل الرأسماليين،وكذا شخصيات الاعلام المتهمة بكونها تقف ضدهم:صارت ظاهرة كونية، تلك المتعلقة بمناهضة قوى الجماهير، للنخبة،وأيضا الأغنياء والمالكين.
داخل مجتمع رأسمالي حتى النخاع،وفردي، وعنصري، وظالم،سينتقل جوكر الساذج البئيس،من مهرِّج حزين إلى آخر ملهم: وبقدر ما سيقتل،يتحقق انتقامه، وتختفي ضحكته المخيفة غير القابلة للضبط. ثم كلما زادت ثقته،يكون موحيا.
الجنون الذي تكشف عنه شخصية جوكر،يخاطب بإسهاب شبابنا الذي يفتقد داخل مجتمعاتنا العدوانية والظالمة ،إلى الوسائل والأدوات التي توفر له إمكانية بلوغه التكامل الهوياتي والاعتراف الاجتماعي، سوى بالتطرف العنيف.هكذا نكتشف ذواتنا أبعد من تيمات الجهاديين،واليمين واليسار المتطرفين وكذا'' الذات الارهابية''.بل نعاين هنا انقلابا حضاريا،إذا تواصل معه تكرُّس لبنات اللامساواة، سيتضاعف أمثال جوكر بلا رحمة،على شاكلة فيروس يصعب التحكم في انتشاره.
*مرجع المقالة :
L'obs :24 octobre 2019.
http://saidboukhlet.com


الاثنين، 27 يناير 2020


فؤاد العروي : لماذا تفلت منا جائزة نوبل كل سنة؟*
ترجمة : سعيد بوخليط

 يكمن الإبستيمي(النظام المعرفي/المترجم) الذي يقود بصفة عامة نحو وجهة نوبل، في تأمل مختلف القضايا وفق مناهج علمية، على عكس تأويلات الفكر السحري وكذا الدجل.
لقد أصبح الأمر مضجرا. خلال كل شهر أكتوبر، بالنسبة لنا نحن ساكنة البلدان العربية، والإسلامية والافريقية، بحيث نُمتحن كل سنة على مستوى إذلالنا الصغير.
أُعلن عن قائمة المتوجين بجوائز نوبل للعلوم، ولم يرد بين طياتها اسم واحد يشبه أسماءنا بكيفية أو أخرى.حصل بوعزة على نوبل في الفيزياء؟ ثم عبد المولى، كيميائي النخبة؟ هراء! يجيبنا السويديون.
مع ذلك لا تنقصنا المادة الرمادية. شاركت يوم الجمعة الأخير في لقاء عمل جرت وقائعه في باريس، قصد التحضير لندوة ستنعقد الشهر المقبل بجوار مراكش.اجتمع حول طاولة النقاش، خمسة مغاربة: أحد خريجي قدامى المدرسة العليا للأساتذة، وأستاذ في كوليج دو فرانس، وشخص لامع حاصل على شهادتين للدكتوراه(الفيزياء/الفلسفة)،ومهندس من طراز رفيع، ثم مخاطبكم هذا.حلق بنا النقاش بعيدا. إننا بالتأكيد لسنا أقل خبرة من الآخرين.
يكفي معاينة النتائج المذهلة لثانوية التميز المتواجدة في مدينة ابن جرير بغية تلمس هذا الأمر : نعم، لسنا أقل ذكاء مقارنة مع باقي العالم.بل على العكس!   
لكن ماذا بعد؟
على أية حال من المدهش ملاحظة بأن دولة صغيرة جدا مثل هولندا حصلت على الأقل عشر مرات على هذه الجائزة !نوبل في الفيزياء(بحيث عادت اثنان من بين أولى الجوائز الثلاثة التي دشنت تاريخ هذا الاستحقاق إلى الفيزيائيين بيتر زيمان وهندريك لورنتس)،ثم أربع مرات في الكيمياء(فاز العالم ياكوبس فانت هوف سنة 1901بأول نوبل المخصصة لهذا الحقل المعرفي)،ثم ثلاثة جوائز نوبل أخرى تتعلق بالطب.بينما حينما نستحضر العالم العربي الإسلامي، فلا شيء يذكر. لا شيء! 
ماهو الشعور الذي ينتابني وأنا في البلاد المنخفضة؟ مجرد أبله أتى من الصحراء يمتطي جَمَلا؟
حينما أتطلع إلى طلبتي داخل مدرجات جامعة أمستردام وأقارنهم بزملائي المغاربة خلال حقبة دراساتي في مدينة الدار البيضاء، فلاأرى قط أن البعض يمتلك دماغا أكثر من الآخرين، ولاأن ولعهم بالرياضيات أكثر فطنة (خلال اللحظة التي أتذكر فيها أسماء زملائي في صف الأقسام العليا للرياضيات لاسيما المتألقين، أكتشف أن جميعهم استطاع تحقيق مسارات مهنية رائعة سواء في القطاع الخاص أو العام، دون النجاح في تكريس ذات المسعى على مستوى البحث ويمثل هذا وجها من جوانب مشكلتنا؟ أي عدم إفساح المجال لمنظورات مهنية رائعة، تهمُّ البحث، أولا ثم أخيرا؟).
إذن لا تتعلق الإشكالية بأفراد.بل تستحضر الوضعية أساسا  ماصطلح عليه ميشيل فوكو ب :الإبستيمي .ليست القضية بمسألة أشخاص، لكنها تعتبر أعمق من ذلك بكثير، فهي غير منظورة ولا يمكن الإمساك بها.
يعتبر الإبستيمي الذي يقود نحو نوبل، طريقة عامة(مشتركة لدى كل ثقافة) قصد تأمل مختلف القضايا وفق مناهج علمية، تقطع مع الفكر السحري والدجل. 
إنه التمييز الفاصل بين العلم والايمان، فكل واحد منهما يتسيَّد مجاله. 
التوافق العميق حول ضرورة تبني العلم الحقيقي (لانتكلم هنا عن علم التنجيم، الميتافيزيقا أو السحر).  
التوجيه المستمر للاستثمار العمومي، ابتداء من المدرسة  غاية المختبرات الدقيقة، نحو مجال التعليم والمعرفة.
هو الاحترام الذي يتم الإقرار به للجامعيين والباحثين والعلماء، وليس صوب من يزعمون كونهم حراس الأخلاق أو يكتفون باستظهار مضامين عقيدة. 
تقدير الأفكار وليس الأشباح.
برنامج هائل لكنه ضروري إذا أردنا العثور في يوم من الأيام على طريقنا نحو ستوكهولم ونضع خاتمة لهذا الخزي السنوي.
*مرجع المقالة :
360.ma : 16- 10 -2019


الثلاثاء، 21 يناير 2020


إدغار موران :
"الشجاعة،أن نصمد أمام كل محاولة لخيانة أفكارنا "*
ترجمة : سعيد بوخليط


تقديم : يتذكر عالم الاجتماع  إدغار موران،عبر صفحات عمله الصادر حديثا : "تحضر الذكريات لملاقاتي''، سنوات شبابه ضمن صفوف المقاومة،حيث طُرحت باستمرار قضية الشجاعة.انضم إلى المقاومة السرية لمواجهة النازية،ولم يتجاوز آنذاك سن العشرين.
يوم الأربعاء 2 أكتوبر، أشرف داخل منزله الصغير الكائن وسط مدينة مونبلييه،على ترتيب سلسلة مواعيده،حتى يسافر خلال اليوم التالي،متحرر الذهن وينعم باستراحته في مدينة مراكش المغربية.
لازال السوسيولوجي البالغ عمره حاليا ثمان وتسعين عاما، محافظا على قوام مثالي. فهل تخيل حينما كان في سن العشرين، إمكانية تبنيه خط المقاومة ضد النازيين وكذا المتعاونين معهم؟عضو حركة المقاومة وسجناء الحرب والمنفيين،ظل يتحمل مسؤولية نقل حقائب تضم رسائل ووثائق سرية،يجنِّد عناصر،هاربا من ملاحقة الغيستابو،مجازفا بحياته دفاعا عن الوطن ضد المحتل.
يروي كتابه الجديد(منشورات فايار،450صفحة)،هذه الملحمة من بين ذكريات أخرى،ارتباطا بسياق طويل حيث يبرز باستمرار،سؤال الشجاعة الجسدية والذهنية.
س- كيف تحددون الشجاعة؟
ج-إنها''فن قهر الخوف".تلك القولة الشهيرة لفيكومتدوتورين،قبل المعركة،مخاطبا جسده :"ترتعد أيها الهيكل، لكنك سترتعد أكثر لو علمت إلى أين أمضي بكَ''.مع ذلك،امتلك البعض شجاعة فطرية أكثر،فهذا يعتبر مكونا من مكونات اختلاف الأمزجة.فيما يخصني،أحس بأني شجاع  فكريا أكثر منه جسديا.هناك شجاعة معنوية ترتكز على قول الحقيقة،حتى ولو كنت تجازف بأن تزعج،فتبقى وحيدا،غير مفهوم، وموضوع افتراء، عندما تؤمن بشيء ما. بدورها تجربة اختبرتها.
س-كيف يحفز الشخص شجاعته؟
ج-"الشجاعة تهيئ نفسها'‘. جملة لأندريه مالرو، مأخوذة من كتابه ''الأمل"،تذكرني بصديق تروتسكي، فترة بداية الحرب.وقد عشت ذلك. يتم السعي حسب مراحل،مثل شخص يقصد وجهة الماء : تتبلل قدماه، ثم ينحدر إلى الركبة، فالبطن،ويغطس أخيرا.لقد بدأتُ،شتاء1941-1942،بأعمال صغيرة سرية،وأنا أدوِّن على جدران مدينة تولوز،مايلي:''فليسقط فيليب بيتان! فليسقط بيير لافال!"(يقصد موران حقبة حكومة فيشي)وعندما احتلت مختلف مناطق فرنسا،شهر نوفمبر 1942،توجهت صوب مدينة ليون،حيث يمارس أفراد غيستابو كلاوس باربي خرابا فظيعا، لحظتها تحولت نحو ممارسات فعلية سرية أكثر تطورا.
س- هل أبديتم ترددا قبل انخراطكم في صفوف المقاومة؟
ج-بداية الحرب، وأنا لازلت طالبا في مدينة تولوز،لم أتبيَّن خلال ذلك الوقت الجري خلف هذا الخطر.ثم انطلقت شرارة معركة موسكو،شهر دجنبر 1941-أول هزيمة تكبدها النازيون – ودخول الولايات المتحدة الأمريكية الحرب،مما قاد نحو تغيير مجرى الآفاق.هكذا تجلى نوع من الأمل،وكان جوهريا بالنسبة إلي كي أصبح فاعلا،في حين بادر آخرون صوب نفس الهدف، انطلاقا من قناعتهم بالدفاع عن المبدأ.انتابني صراع داخلي، كنت أبلغ  سن العشرين،همست لنفسي،متسائلا بخصوص جدوى انضمامي لصفوف المقاومة، وما ينطوي عليه ذلك من مجازفة  بحياتي، مع رغبتي كي أعيش هذه الحياة.في ذات الوقت،أدركت وجود فارق بين أن تعيش ثم تحافظ على بقائك. ماذا كان يعني خلال تلك الفترة أن تعيش؟ جماعات شباب قاربت أعمارهم عمري، ينحدرون من الاتحاد السوفياتي أو الولايات المتحدة الأمريكية،يجازفون بأجسامهم ضمن سباق عالمي لتحقيق الحرية. بدا مصير البشرية على المحكِّ.ولم أستطع تجريد نفسي عن معطيات تلك الحقبة.سادت الحماسة.ونداء الحياة من ألهمني جرأة الانخراط في الفعل.
س- هل تعودتم على الخطر؟
ج-يشبه باستمرار مصير مقاوم داخل مدينة، طريدة ربما تم اصطيادها في أيِّ لحظة،كما حدث لكثير من رفاقي. غير أن الخوف يتلاشى رويدا رويدا.حينما يستفسرون عن أوراق إثبات هويتي،التي كانت حقيقية خلف هوية خاطئة،شعرت في البداية  بالذعر.فيما بعد، صار الموقف عاديا. أصعد القطار متأبطا وثائق خطيرة : بداية سيطر علي الخوف وتتسمر عيناي  حول الحقيبة.مع مرور الأيام،اعتدت على مواقف من هذا القبيل.
س- ما هي النقط المشتركة بين المقاومين؟
ج-أن تكون مقاوِما،معناه الشعور بضرورة النزوع نحو تحقيق أفعال خطيرة لكنها ذات حمولة عظيمة،رمزية وعملية في الآن نفسه،أفعال كانت مفيدة شيئا ما خلال حقبة الحرب.لكن، سواء فترات المقاومة أو بين طيات مجرى الحياة،نشعر بكوننا متوحدين مع البعض،تتقاسمنا مصالح مشتركة، ثم في المقابل نشعر بانجذاب أقل نحو البعض الآخر.
س- مامعنى أن تكون شجاعا اليوم؟
ج-أن نحافظ على استقامة الفكر وكذا الوفاء لما نعتقده،أو ما ينعته الأشخاص بقيمهم.الصمود في مواجهة ما بوسعه خيانة طموحاتنا، وأفكارنا. أيضا،التصدي لسياقات المذاهب المهيمنة،المستندة اليوم على مجرد تدفق المنفعة وكذا عودة الأشكال القديمة للبربرية، كما لاحظنا ذلك في سوريا.يتجسد الشعور كذلك،في التعاطف مع المضطهدين والمظلومين سواء تعلق الأمر بالفلسطينيين أو المهاجرين. هكذا التصور بالنسبة إلي.
*هامش:
Le parisien libéré : 18- 10 -2019.