السبت، 30 يوليو 2016

قصائد للشاعر الأسباني جارثيا لوركا، ترجمة: عدي الحربش



قصيدةُ الحمامِ الأسود
.....................

من خلالِ غصونِ الغار
رأيت حمامتين داكنتين
الأولى .. الشمس
والأخرى .. القمر
قلت لهما: يا جاراتاي
أين هو قبري؟
في ذيلي، قالت الشمس
في جوفي، قال القمر
وأنا الذي كنت أمشي
والأرض حزامٌ لي
رأيت حينها نسرين من الرخام
وبنتاً عارية
أحدهما كان الآخر
والبنت كانت لا أحد
قلت لهما: أيّها النسرين
أين هو قبري؟
في ذيلي، قالت الشمس
في جوفي، قال القمر
من خلالِ غصونِ الغار
رأيت حمامتين عاريتين
إحداهما كانت الأخرى
وكلتاهما .. لا أحد.


 ***

أغنيةُ شجرةِ البرتقالِ المجدبة
.......................

أيّها الحطاب.
اقطع ظلي
خلصني من العذاب
من رؤيةِ نفسي دونَ ثمر.
.
لماذا وُلِدتُ بين المرايا؟
اليومُ يدورُ من حولي
والليلُ يصنعُ نسخاً مني
في كل النجمات.
.
أريد العيشَ دون رؤية نفسي
وسوف أحلم بأن النملَ
وأن الشوك
صارا أغصاني وطيوري
.
أيّها الحطاب.
اقطع ظلي
خلصني من العذاب
من رؤيةِ نفسي دونَ ثمر.

 ***


قصيدةُ الحضورِ الرهيب
.....................

أريدُ الماءَ محمولاً من مرقدِه.
أريدُ الريحَ متروكةً دون أنهار.
أريد الليلَ مطروحاً بلا عيون
وقلبي دونَ زهرةِ الذهب.
وأريد أن يتحدثَ الثورُ مع الأغصان
وأريد أن تتخلصَ الدودةً من الظلال.
وأريد أن تلمع أسنانُ الجماجم
وأريد أن يتغلغلَ الأصفرُ في الحرير.
أستطيع أن أرى مبارزةَ الليلِ الجريح
متلوياً في نزالِه مع النهار.
أنا أقاوم حلولَ السمِ الأخضر
والأقواس المكسورة حيث يعاني الوقت.
لكن لا تغمرني بنور جسدك العاري
كما لوِ الصبّار الأسود فتحَ الخيزران.
دعنى في حسراتِ الكواكبِ المظلمة
لكن لا تريني خصرك البردان.


*** 


قصيدة الغرام الغير مرتقب
....................

لا أحدَ أحاطَ بسرِ عطرِ
الماجنوليا السوداءِ في رحمِك.
لا أحد علمَ أنكِ عذبتي
طيرَ الغرامِ الطنانِ بين أسنانِك.

.

ألفُ مهرٍ فارسي أسلمَ للنوم
في ساحةِ جبينكِ المضاءةِ بنورِ القمر
عندما كنتُ - عبرَ أربعِ ليالٍ
- أعانقُ خصرَكِ .. عدوَ الثلج.

.

نظرتكِ مابينَ الجصِ والياسمي
كانت غصناً شاحباً من البذور.
فتشتُ في قلبي كي أمنحكِ
الرسائل العاجية المسطرة بـ دوماً

.

دوماً .. دوماً .. يابستانَ لوعتي
جسدكِ يهربُ مني دوماً
الدم في عروقكِ وسط فمي
وفمكِ دونَ نورٍ يرقبُ موتي.

 ***

قصيدة الغرام اليائس
..................

الليل يرفض أن يأتي
كي لا تستطيعين المجيء
ولا أستطيع القدوم.
.
لكن سوف آتي
رغم أن عقرب الشمس ينهش وسط صدغي.
.
لكن سوف تجيئين
بلسانٍ ألهبته قطرات المطر المالح.
.
النهار يرفض أن يأتي
كي لا تستطيعين المجيء
ولا أستطيع القدوم.
.
لكن سوف آتي
رامياً للضفادع قرنفلي الممضوغ.
.
لكن سوف تجيئين
عبر مجاري الظلمة الطينية.
.
الليل والنهار يرفضان القدوم
كي أموتَ من أجلكِ
وتموتين من أجلي.

 ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
المصدر : موقع "أدب" الموسوعة العالمية للشعر العربي.

السبت، 23 يوليو 2016

تحوّلات الشر : جورج تراكل

ترجمة: سركون بولص




خريف: خَطوٌ (اسود) على حافة الغابة؛ دقيقةُ هلاك أخرس؛ جبين المجذوم يصغي مرهفا تحت الشجرة الجرداء. مساء مر منذ زمن بعيد على أدراج الطحلب: نوفمبر. يُقرع جرسٌ ويقود الراعي قطيعا من خيول سوداء وحمراء إلى القرية. تحت شجرة البندق صيّاد أخضر يبقر حيوانا برّيا. يداه، بنّيتان وصامتتان، ترشحان بالدم وظلّ الحيوان يتأوه في الأوراق، فوق عيني الرجل: الغابة. غربان تتفرق: ثلاثة. يشبه طيرانها سوناتة مليئة بنغمات شاحبة وسويداء رجولية: سحابة ذهبية تنفرط برهافة. بالقرب من الطاحون، يوقد الصبيةُ نارا. اللهيب أخٌ لأكثرهم شحوبا وآخر يضحك مدفونا في شعره الوردي؛ أو أنه مكان للقتل تمرّ عبره درب حجرية. شجرة البربريس اختفت؛ يحلم الواحد سنة  في الهواء الرصاصي تحت الصنوبرات. رَوْعٌ، ظلام أخضر. بقبقةُ رجل يَغرق: من الغدير النجمي يسحب صيّادٌ سمكةً سوداء ضخمة لها وجه مليء بالقسوة والعُته. أصواتُ القصب، ورجالٍ يتشاجرون وراء ظهره، ثمة من يُقلع عبر مياه خريفية متجمدة في قارب أحمر، عائشا في ملاحم سلالته المظلمة وعيناه مفتوحتان بتحجّر  فوق ليال ومهاول عذراء. شرير.

ماذا يجعلك تقف بلا حراك على الأدراج المنهارة في بيت آبائك؟ سواد رصاصي. ماذا ترفع بيد فضية الى العينين: بينما تغرق الأجفان كأنك ثملتَ على الخشخاش؟ لكنك عبر الجدار الحجري ترى السماء الملأى بالنجوم، دربَ التّبانة، زُحَل: أحمر. الشجرة الجرداء، هاذيةً، تقرع جدار الحجر. أنت على الأدراج المنهارة: شجرة، نجمة، حجر! أنت، حيوان أزرق يرتجف قليلا؛ أنت، الكاهن الشاحب الذي ينحرهُ على المذبح الأسود. آه لابتسامتك في الظلام، حزينة وشريرة، بحيث يشحب طفلٌ في منامه. وَثبتْ من يدك شعلةٌ حمراء فاحترقت فراشةُ ليل. آه لمزمار النور؛ آه لمزمار الموت. ماذا جعلك تقف على الأدراج المنهارة في بيت آبائك؟ في الأسفل، على البوابة، يطرق ملاك بأصبع من بلّور.

آه لجحيم النوم؛ زقاق مظلم، حديقة سمراء. شكل المرأة الميتة يرن بخفة في المساء الأزرق. ترفرف حولها أزهار خضراء وقد غادرها وجهها. او أنه ينحني شاحبا فوق جبين القاتل البارد، في ظلام الرواق؛ عبادة، شعلة الرغبة الأرجوانية. النائم، هالكا، قفز من الأدراج السوداء وغاص في الظلام.

غادرك أحدهم على مفترق الطرقات وها أنت تلتفت وراءك لوقت طويل. خطوة فضية في ظل أشجار التفاح المشلولة. الفاكهة تبرق قرمزيةً بين الأغصان السوداء وتسلخ الحيّةُ جلدها في الأعشاب. واها! الظلام؛ العرق الذي ينفرز على الجبين الجليدي والأحلام الحزينة بالنبيذ الذي تشربه في حانة القرية تحت عواميد السقف التي سوّدها الدخان. أنت، والوحشة لا تزال، تختلق جزرا وردية من غيوم التبغ الداكنة وتنتشل من الذات الباطنة صرخة تنّين هائج عندما يصطاد في البحر، ورؤوس الصخر الأسود تكتنفها عاصفةٌ وجليد. أنت، معدن أخضر وداخل رؤيا نارية تريد أن تمضي ومن تلّ عظام تغنّي أزمنةً معتمة والسقطة النارية للملاك. واها! اليأس الباركُ بصيحة خرساء إلى ركبتيه.

يزورك رجلُ ميت. الدم السافحُ نفسَه يجري من القلب، وتعشش لحظة لا يُلهَج بها في جبين أسود: بقاء قاتم. أنت – قمر أرجواني عندما يظهر ذاك الآخر في الظل الأخضر لشجرة الزيتون. يتبعه ليلٌ لا ينتهي

(ترجمها عن الانجليزية سركون بولص ونشرت أولا في  العدد السادس، السابع من "فراديس" نوفمبر1993(


الجمعة، 22 يوليو 2016

حـنة أرندت ومارتن هايدغر.. قصـة حـب انتهـت بالفشل

شاكر نوري

تاريخ النشر: 01 أغسطس 2009

عند الاطلاع على  أرشيف الفيلسوف الألماني الشهير مارتن هايدغر، على قوة العلاقات العاطفية  التي كانت تربطه بالفيلسوفة الألمانية حنة أرندت ما بين عامي 1925 و1930.  ولعل أمر هذا الحب ظل غامضا بل ليس معروفا إلى حين تم نشر مراسلاتهما بين  الأعوام ورسائلهما المتبادلة للمرة الأولى في عام 1998.

وهي تمتد بين سنوات 1925 و1975. دار نشر غاليمار قامت بنشر نسخة من كتاب المراسلات، مصحوبا بـ 170 وثيقة، من القصائد والنصوص وبطاقات التذاكر وغيرها مما يخص العاشقين. ومراسلات حنة أرندت عديدة منها مع زوجها هاينيريش بلوشير، وكارل غاسبار، وماري ماكارثي، وكورت بلومينفيلد، وهيرمان بروش إلا أن مراسلاتها مع مارتن هايدغر تتميز بأنها تعكس أجواء التاريخ الثقافي للقرن العشرين. ظل الغموض يلف هذه المراسلات حيث كانت أرندت تحتفظ بنسخة من هذه المراسلات في غالبيتها. والسؤال المطروح هنا: هل عمدت إلى إخفاء رسائلها أو أضاعتها؟ كانت مراسلات هايدغر تتميز بالصبغة الإرشادية في تطور علاقتهما العاطفية في مدينة ماربورغ أولا، وثمة مسافة مفروضة عليه كما يبدو بحيث كان يطلب من آردنت أن تبتعد وتذهب إلى مدينة هايدلبيرغ من أجل الحفاظ على علاقتهما.


كانت الرسائل الأولى تتميز بالروح الحيادية لأنه كان يخاطبها بالشكل التالي: «عزيزتي الآنسة أرندت». ولكن الرسالة كانت تحمل توقيع: مارتن هايدغر الذي لك ـ 10 شباط (فبراير 1925. وسرعان ما تغّير إيقاع المخاطبة في الرسالة المؤرخة في 21 من الشهر ذاته لتصبح: «عزيزتي حنا» و«مارتن الذي لك».وفي 27 من الشهر ذاته، كتب لها قائلا «الشيطان...... في داخلي»وتجيبه آردنت بنص عنوانه «ظلال»، وهو يتعلق بسيرتها الذاتية، وتشرح له ضجرها ومخاوفها الطفولية. وكان كل واحد من العشيقين يبذل جهودا من أجل التعبير عن تاريخ حياته. هايدغر متزوج أرندت تعيش في غرفة الخدم أي غرفة «فوق السطوح"التي يعيش فيها الطلبة. وكانا يلتقيان في الحدائق والفنادق، وتميز هذا الشغف بطبيعة فلسفية حيث تختلط أحاديث القلب بأحاديث الفلسفة وبالحوارات الطويلة التي تربط بينهما ومشاغلها حول عملهما الفلسفي.

كتاب هايدغر الشهير «الوجود والزمن» صدر في عام 1927 وآردنت تعيش مباشرة الفلسفة التي تعلمتها من هايدغر. ففي ابريل/ نيسان من عام 1925، يتهّيج هايدغر ويتصل بأرندت ويناديها ب«محبوبتي"ويتمنى لها ليلة هانئة ويوقع رسائله «مارتن الذي لك». وفي 13 من شهر أيار يكتب لها قائلا «أشكرك على حبك». وفي 14 من شهر يونيو/ حزيران، تستلم أرندت رسالة منه يقول فيها «لا شيء يفصل بيني وبينك». وفي تاريخ 26، يدشن العاشقان طريقة جديدة من المراسلات ويبدأ بدعوتها إلى مواعيد محددة، قائلا لها «أطلب منك المجيء لرؤيتي في 28 يونيو الأحد بعد الساعة التاسعة... ألف قبلة».

وهكذا في ال17 من يوليو/ تموز كتب لها «هل تريدين المجيء لرؤيتي مساء هذا الأحد... 19 يوليو... سأكون متمتعا للغاية في ساعات اللقاء هذه». وفي ال18أكتوبر/ تشرين الاول يبعث إليها برسالة عنوانها «قبلة الحب». وفي ال10 من ديسمبر يكتب لها قائلا «يا محبوبتي، تعالي، أتوسل إليك، غدا الجمعة، نحو الساعة الثامنة والربع مساء للالتحاق بي على مقعد حديقتنا... وسأكون سعيدا مسبقا». وعلى الرغم من الكيلومترات التي تفصل بينهما، يكتب لها هايدغر بأنه «بأنني أعيش في حاضرك على الدوام». وفي إحدى الرسائل النادرة التي تكتبها له آردنت في مراسلاتهما، تقول له «أقبل جبهتك وعينيك... حنة التي لك».

وفي هذه المرحلة يعيش العاشقان أوج حبهما بل وأن آردنت كانت تعتقد بأنها امرأة حياته، وهي كذلك. لكنها لم تطلب من الفيلسوف هايدغر أن يطلق زوجته الشرعية بل كانت تحلم أن يأخذ المبادرة في هذا الشأن.

وهذا ما لم يتحقق. ولكن هناك عددا من أصدقاء أرندت دون أن يعرفوا علاقاتهما، يحذرونها من مشاعر هايدغر المعادية للسامية لأن أرندت كانت تنتمي إلى الديانة اليهودية. علاقتهما استمرت حتى عام 1933، وهي ترى هايدغر ينتمي إلى الحزب النازي. وهذا ما أصابها بجرح روحي، نتيجة الكراهية التي تولدت في قلب الفيلسوف إلا أنها ظلت متعلقة به.

من المؤكد أنها تبقى تلتقي بهايدغر في عام 1933 الذي ظل عضوا في الحزب النازي حتى النهاية فيما تغادر هي ألمانيا وتعيش المنفى في باريس حيث تبقى حتى عام 1941 قبل أن ترحل إلى الولايات المتحدة. ومما شك به، إنها تعرف جيدا «خطاب عمدة الجامعة"حيث كان هايدغر يدرس في جامعة فريبورغ حيث يوضح فيه علاقته بالحزب القومي الاشتراكي أي النازي. وكانت على علم بأن هايدغر لن يحضر تشييع أستاذها أدموند هوسريل الذي كان يهوديا.

في سنوات 1936 و1937، كانت زوجة هايدغر، ألفريد، هي الأخرى تنتمي إلى حزب هتلر لكنه أخذ يبتعد عن النازية ويكرس حياته للفلسفة. وعندما فك ارتباطه بالنازية، تم حرمانه من التدريس في الجامعة طيلة خمسة أعوام. وأثناء زيارة آردنت في عام 1950 إلى ألمانيا، قامت بزيارته، ويصبحان صديقين من جديد كما تكشف مراسلاتهما المنشورة.
وتعتقد أرندت ان هايدغر لم يكن نازيا أبدا، وهو كان يتظاهر بذلك إلى درجة أنها قامت بالتوسط في نشر أعماله في الولايات المتحدة بل وأجهدت نفسها من أجل إزاحة هذه «التهمة"عنه. وتعترف بأن كتابها «وضع الإنسان الحديث"بأن الفضل في تأليفه يعود إلى فكر هايدغر.
وفي عام 1974، أي قبل عام من وفاتها، كتبت له قائلة «لا أحد يستطيع أن يقوم بتدريس محاضرة كما تقوم أنت به ولم يستطع ذلك أحد قبلك».

كان هايدغر، قبل كل شيء، أستاذها وصديقها قبل أن يتحول إلى عشيق لها بل كان بمثابة الحامي لها. وأثناء لقائهما في مدينة ماربورغ في عام 1925 حيث كان يدرس في جامعتها، وقف الجميع ضدهما.

كانت في الثامنة عشرة من عمرها، وهو في الخامسة والثلاثين من عمره. كان يعتبر الساحر الصغير في قريته الصغيرة. أنه كاثوليكي، وهي تنحدر من عائلة يهودية. هو ألماني من الجنوب، وهي من مدينة كروغسبيرغ. كان هايدغر هادئا في حين كانت هي مضطربة منذ وفاة أبيها عندما كانت في السابعة. وكانت ساذجة في الحب وهايدغر أول عشيق لها، بل أنه يسحر جميع الطلبة. ولكن هذه العلاقة لم تخرج إلى العلن إلا في عام 1949 عندما تحدثت آردنت عنها إلى كل من كارل غاسبار وماري ماكارثي.

وتكشف رسائلهما عن الخلفية التي كان يفكر بهما الفيلسوفان العاشقان في فترة من أشد الفترات صعوبة وتعقيدا في التاريخ، سنوات حكم النازية: المنفى والنازية ومعاداة السامية واليهودية وغيرها من مفاصل التاريخ التي فرضت نفسها آنذاك.

وكانت علاقتهما محاطة بسرية كاملة، لم يكشف عنها أي من الطرفين، وتفرض عليهما أن يفكرا بجملة من المفاهيم حول العلاقات الإنسانية. كانا طيلة صيف عام 1951 يتناقشان حول «بهجة المعرفة» للفيلسوف نيتشه. وكانت علاقتهما محاطة بنوع من الابتعاد عن ذكر التفاصيل المتعلقة بالحياة الداخلية للعشيقين. وكما يعترف هايدغر أن غالبية الوقت كانا يتحدثان ولم تنقطع رسائلها.
تقول الفيلسوفة حنة أرندت:

«إن فعل التفكير بحد ذاته عملية خطيرة، ولكن ألا تفكر هو أكثر خطورة». هكذا تشرح الفيلسوفة في لقاء تلفزيوني قبل وفاتها في 4 ديسمبر/ كانون الاول من عام 1975 حياة بكاملها قابلة للتقلب. وهذا ما يشرح اللقاء بين طالبة في الثامنة عشرة من عمرها وبين فيلسوف مثل هايدغر. ولعل طفولتها تفسر كثيرا سّر هذه العلاقة. فقد ولدت في عام 1906 في لينيندن، بالقرب من هانوفر في وسط فكري مثقف.

ولكن مرض أبيها النفسي والعقلي جعلها تهرب في عمر الثامنة نحو برلين أثناء الهجوم الروسي في عام 1914. وتطورت المراهقة بسرعة كبيرة. فهي طالبة ذكية، اختارت أن تدرس الفلسفة واللاهوت، وتواصل محاضرات هوسريل في جامعة فريبورغ ومحاضرات غاسبار في هايدلبيرغ، ومن ثم نشرت أطروحتها حول مفهوم «الحب عند أوغستين» في عام 1929.

وبعد ذلك بعام، نشرت مقالاتها في برلين مع غونتر شتيرن الذي تتزوج منه بعد فترة قصيرة. ويظهر لها صديقان هما: هانز جواناس ووالتر بينجامين. مما لا شك فيه أن استيلاء النازية على الحكم وتزايد صعود نعرة معاداة السامية في ألمانيا قلبت حياتها رأسا على عقب بل جعلتها تلك الأحداث تتجه نحو الصهيونية وتدرسها دون الانتماء إليها لكنها عملت في الجمعيات اليهودية التي تدافع عن حقوق الإنسان. وفي عام 1933، يتم توقيفها مع أمها ويتم استجوابهما. وبعد ذلك تغادر ألمانيا إلى براغ وجنيف وباريس. ويلتحق بها زوجها.

وفي باريس تلتقي بكل من والتر بينجامين وجيرشوم شوليم وتتعرف على ريمون آرون. وفي عام 1936، التقت بهانيريش بلوشير الذي أصبح زوجها الثاني في عام 1940 إلا أن السلطات النازية أوقفتهما وأودعتهما في معسكرات فيرنيه وغارس. ولكنهما تمكنا من الفرار إلى مرسيليا، والوصول إلى لشبونة وإلى الولايات المتحدة فيما بعد.

وفي هذه الأثناء، طرد بينجامين نحو الحدود الذي وضع حداً لحياته بالانتحار. وبمساعدة ماكس برود، تجد وظيفة في عالم النشر حيث تقوم بنشر مذكرات كافكا وشولوم وبيرنار لازار وغاسبار. وكانت في هذه الفترة تحضر لكتابها الكبير «أصول التوتاليتارية"الذي صدر في عام 1951 في الوقت الذي كان فيه هذا المصطلح ما يزال جديدا. ومن ثم تتوالى كتبها في الصدور"وضع الإنسان الحديث «1958 و«أزمة الثقافة «1961. وفي عام 1961 تعمل لصحيفة «نيو يوركر"محاكمة ايخمان في القدس والكتاب الذي تؤلفه عنه يثير جدلا واسعا في الأوساط الثقافية والسياسية. ولعل ما يثير في كتاباتها أنها ربطت بين المعاش والحدث والفكر.

يعود الفضل في المحافظة على الرسائل المتبادلة بينها وبين هايدغر إلى حنة أرندت لأنها كانت تسلم منها نسخة إلى الأرشيف.

هل كانت ترغب في نشر هذه المراسلات؟

على أية حال، كانت قد اتفقت مع هايدغر على عدم تمزيق الوثائق الشخصية. ويؤكد ابن الفيلسوف، هيرمان بأن مثل هذا الاتفاق كان قد عقد بينهما. ويبدو أن الفيلسوف لم يحتفظ الرسائل الأولى المتبادلة بينهما.

وفي المرحلة الأولى من مراسلتها، وبعد أن يعين عميدا للجامعة، يدافع فيها عن تهمة معاداة السامية التي ألصقت به، وكان ذلك يعني تعكير صفو علاقته بأرندت. كان ذلك في عام 1932 و1933. والمرحلة الكبيرة من مراسلاتهما تبدأ في 7 فبراير/ شباط من عام 1950. في المساء، قام هايدغر بزيارة إلى حنة أرندت في فندقها في فريبورغ بعد أن أشعرته بوجودها في مدينته. وتؤكد الوثائق المتوفرة من عام 1950 حتى 1954 بأن جو الثقة عاد إلى علاقتهما من جديد بدون أية كلمة عتاب.

كما تكشف هذه الوثائق تفاصيل هامة في سيرة حياة الفيلسوف في بداية الخمسينات. ولم يتقابل العشيقان من عام 1952 حتى عام 1967 لأسباب متعددة أهمها الغيرة الأنثوية التي أظهرتها زوجة هايدغر، ألفريد، والعلاقة المتوترة بين هايدغر وزميله الفيلسوف كارل غاسبر. إضافة إلى أن العاشقين كانا عاكفان على تأليف كتبهما الأساسية وما يتولد عن ذلك من تبادل البحث والنقد.
وفي عيد ميلاد الفيلسوف الثمانين، كتبت أرندت «بأنها تعلمت التفكير من «المعلم»، وتقول في كلمتها «بعد خمس وأربعين لا زلت أفكر بك كما كنت على الدوام». وقبل هذه الاحتفالية، قامت مع زوجها بزيارة الزوجين هايدغر. وقبل الذكرى الثمانين، مات كارل غاسبر.

وفي عام 1970 ودعت زوجها، فتتحول مدينة هايدغر إلى نقطة لقاء بينهما. وكانت تتوقف في هذه المدينة لفترة من الزمن عندما تأتي إلى أوروبا في سنوات السبعينات، وهي تقول عن هايدغر «أسئلتك ترافقني على الدوام». وتضيف «أرجو أن تتحدث لي عن أعمالك وإلا فإنك ستحرمني من التعلم منك». وفي كتابه الشهير «كانط ومشكلة الميتافيزيقيا»، أهدى لها نسخة كتب فيها إلى حنة آردنت... أحييها من صميم القلب ـ مارتن هايدغر».

وعلى الرغم من ذلك، وجدت حنة آردنت في هاينريش بلوشير الصديق والعشيق والمتعاون والموحي والزوج في آن واحد. وجرت بينهما مراسلات مهمة من 1936 حتى عام 1968. إضافة إلى مجموعة من المراسلات مع كورت بلومنفيلد وماري ماكارثي وكارل غاسبار، وهي على درجة كبيرة من الأهمية. وهنري بلوشير على درجة كبيرة من الثقافة الواسعة والمعرفة الدقيقة بتاريخ الفن.

وفي الحقيقة أن الفيلسوفة حنة أرندت ولدت في هانوفر من عائلة فنية يهودية، ومن ثم واصلت دراستها في برلين وماربورغ وفبريبورغ وهايدلبيرغ. وتتلمذت على أيدي اكبر ثلاثة فلاسفة: هايدغر وهوسريل وغاسبار.

وفي عام 1933 كانت في ال27 من عمرها عندما شب حريق ريشتاج، كانت تقوم ب«أعمال غير شرعية"أي معادية للنازية مع زوجها الأول غونتر ستيرن وقدمت الدعم للشيوعيين بالفرار من ألمانيا. ويتم توقيفها لبضعة أيام ثم تتمكن من الفرار إلى فرنسا حتى عام 1951 حيث تحصل في هذه السنة على الجنسية الأميركية.

وفي باريس تتعرف على كل من بيرتولد بريشت وستيفان زفايج ووالتر بينجامين. وفي عام 1937، تلتقي بزوجها هاينريش بلوشير الذي كان ينحدر من عائلة عمالية وينتمي إلى الحزب الشيوعي الألماني. وفي عام 1940 يتزوجان في 16 يناير/ كانون الثاني بعد رحلة شاقة من الهرب من فرنسا حيث كان زوجها رهن معسكرات الاعتقال إلى إسبانيا ومن ثم إلى لشبونة ومن بعد ذلك الرحيل إلى أميركا. ولكنهما لم ينقطعا عن زيارة أوروبا باستمرار حيث زارا في عام 1969 مارتين هايدغر.

زوجها توفي في عام 1970 وهي توفيت في عام 1975 ودفنا سوية. وكان هذان الزوجان يشكلان نموذجا لامرأة فيلسوفة معروفة ورجل يعمل في الظل مثل قائد الأوركسترا، يشبه إلى حد ما الرجل المختفي في الظل والذي يحرك لعبة الفلسفة بطبيعة. وكثيرا ما كان يختار زوجها مهنة «محرك الدمى» في أوراقه الشخصية كما تؤكد جوليا كريستيفا. ولم يقتصر زوجها على الحديث عن روزا لوكسمبورغ وبوخارين وقراءة ماركس ولينين بل دفعها إلى نقد الماركسية التقليدية من خلال تحطيم الأوهام الميتافيزيقية والأنظمة المغلقة.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
المصدر: البيان 



عندما عصف الحب بين هيدغر اللاسامي وحنة أرندت اليهودية

موريس أبوناضر 

تاريخ النشر: 24 نوفمبر 2014

قد تكون الرسائل المتبادلة بين الفيلسوف الألماني مارتن هيدغر وحنة أرندت التي أصدرتها «دار جداول»، بترجمة حميد الأشهب من الألمانية الى العربية، من أجمل النصوص في الأدب الفلسفي. يتفق معظم المفكرين الغربيين على أن هيدغر هو من أهمّ فلاسفة القرن العشرين، وينظرون الى كتابه «الوجود والزمان» على أنه من أهمّ الكتب الفلسفية التي تناولت الجانب الأنطولوجي في الفلسفة. كان مارتن هيدغر متزوجاً وله ولدان عندما ظهرت في حياته فتاة تسمّى حنّة. كانت في الثامنة عشرة، بينما كان هو في السادسة والثلاثين. كان هو أستاذاً في جامعة فريبورغ بينما كانت هي تلميذة درست عليه الفلسفة، ثمّ تطوّرت العلاقة بين الأستاذ وتلميذته الى عاشق وعاشقة يعيشون الحب كما يعيشه الفلاسفة.

كانت حنّة يهودية طاردتها النازية فهربت الى فرنسا، ومن هناك سافرت الى الولايات المتحدة حيث تزوجّت وعملت واشتهرت كفيلسوفة في الفكر السياسي. أما هيدغر فتعاطف مع النازية فترة طويلة من حياته، تسلّم أثناءها عمادة الجامعة، ثم صرف منها بعد الحرب، ومنع التدريس. لكن شهرته كأستاذ وفيلسوف لم تسمح لأعدائه بتحقيق غاياتهم بعزله نهائياً عن المجالات الثقافية. استمرّت العلاقة بين الأستاذ وتلميذته بعد الحرب العالمية الثانية، واستمرّت الرسائل بينه وبينها، وكانت له خير سند في معاركه السياسية والفلسفية الى أن توفّي بعدها بعام أي 1976.

تتشكّل العلاقات العاطفية بين هيدغر وأرندت من ثلاثة فصول: بدأ الأوّل في شباط (فبراير) من عام 1925 عندما كتب لها الرسالة الأولى من بين سبعين رسالة يضمها الكتاب الذي قامت بترجمته دار جداول، يعبّر فيها عن حبه لأرندت بإيحاء وخفر، طالباً منها إقامة علاقة خاصة تكون بسيطة وصافية، مؤكّداً لها أنه، وإن لم يكن من حقّه الاحتفاظ بها لنفسه، إلا أنه واثق من أنها لن تخرج يوماً من حياته. يكتب هيدغر لحنة في رسالة شباط من عام 1925 «لا بدّ أن يكون كل شيء بيننا وببساطة واضحاً ونقياً. لقد حصل لنا الشرف بالتعرف على بعضنا البعض، وأن تصبحي طالبة لي، وأن أصبح أستاذاً لكن ما هو إلاّ سبب لما حصل لنا. لن أستطيع امتلاككم أبداً، لكن ستنتمين من الآن فصاعداً الى حياتي وسينمو هذا الأمر فيك». ويكتب في رسالة من الشهر نفسه «لماذا يكون الحب فوق طاقة كل الإمكانيات الإنسانية الأخرى، ويكون ثقلاً حلواً بالنسبة للمعني بالأمر». ويكتب لها في نيسان (أبريل) من السنة نفسها «عندما سلّمتك المخطوطة اليوم غمرتني فرحة عارمة الى درجة أنني أصبحت دون حيلة ولا عون. لقد سلّمت لك جزءاً من روحي شيئاً قليلاً لحبك، وقد أتى شكرك اللطيف على الأخضر واليابس داخلي».

تميّزت الرسائل الأولى التي كتبها هيدغر الى أرندت بنوع من الحياد لأنه كان يخاطبها «عزيزتي الآنسة أرندت» لكن مالبث أن أخذ يخاطبها «عزيزتي حنة» و»مارتن الذي لك»، و»محبوبتي». يكتب لها في أيار(مايو) من العام نفسه «أشكرك على حبك» ثم يعود ويرسل إليها رسالة أخرى يقول فيها «لا شيء يفصل بيني وبينك»، وأخرى يدعوها فيها الى مواعيد محدّدة «أطلب منك المجيء لرؤيتي في 28 حزيران (يونيو) الأحد بعد الساعة التاسعة ...ألف قبلة «. ويضيف: «إذا كان النور مشتعلاً في غرفتي، فإن ذلك يعني أنني منشغل بموعد آخر. في هذه الحالة، وهذا أمر مستبعد تعالي يوم الأربعاء في الوقت نفسه». أما رسائل أرندت إلى هيدغر وعلى رغم قلّتها فهي تعبّر عن حبّ جارف، وتعلّق بالإستاذ الذي بهرها بعلمه وشخصيّته، فتعترف له بأعزّ ألأمور التي تحياها وتحدث لها. تكتب له في نيسان من عام 1928 «ما أودّ أن أقول لك ما هو في العمق إلا عرض واع للوضع. إنني أحبك كاليوم الأوّل، وهذا أمر تعرفه، وكنت أعرف هذا قبل لقائنا من جديد. إن الطريق الذي أرشدتني إليه هو أطول وأصعب مما كنت أعتقد» ثم توضح في الرسالة نفسها: «سأفقد حقي في الحياة لو فقدت حبي لك». وتكتب له عام 1929 «وهكذا أتوجّه إليك اليوم بالثقة القديمة وبالطلب القديم: لاتنسني ولا تنس أنني أعرف بعمق بأن حبّنا قد أصبح نعمة حياتي». في القصل الأول من علاقاتهما الغرامية تتواصل اللقاءات خلسة تارة في بيته، وتارة في الكوخ الذي يملكه في الغابة السوداء، ومرة ثالثة في الحدائق والفنادق. ولكن مالبث أن انكشف أمر العلاقة في أعين زوجته الغيور، فطلب هيدغر من أرندت الانتقال الى جامعة هايدبرغ حيث صديقه الفيلسوف الوجودي المعروف كارل ياسبرز. وقد ظلّت الرسائل متواصلة بينهما، تجمع بين تدفّق العاطفة وهموم الفلسفة وإشكالات الفكر.

في الفصل الثاني من علاقة هيدغر بأرندت الذي ابتدأ عام 1933 سنة اعتقالها على يد النازيين وفرارها الى فرنسا تنقطع الرسائل بين العاشقين، بخاصة أن هايدغر تقرّب من النازية، وعيّن رئيساً للجامعة، قبل أن يستقيل منها ويعتزل في بيته في الغابة السوداء، ممنوعاً من التدريس بعد هزيمة بلاده.

يبدأ الفصل الثالث من علاقة هيدغر بحنة أرندت بعد سنوات الحصار المفروض عليه، إذ تعيد الاتصال به في شباط (فبراير) عام 1950. يلتقيان في فندق صغير في مدينة فريبورغ الألمانية بعد لحظة عتاب قصيرة تعود المياه الى مجاريها. يكتب لها في هذه المناسبة: «لنا يا حنة ربع قرن يجب أن نسترجعه أودّ أن أعرف أكثر عن طريقك الحالي وعن أعمالك». بالفعل تكشف الوثائق أن العاشقين كانا يعملان كما ذكر هيدغر، هو على كانط، وهي على التوتاليتارية، ولم يتقابلا بعد لقائهما الأوّل لأسباب متعدّدة أهمها الغيرة الأنثوية التي أظهرتها زوجة هيدغر، والعلاقة المتوتّرة بين هايدغر وزميله كارل ياسبرز، إضافة إلى مشاغلهما العائلية. يكتب هيدغر لحنة قائلاً: «سأرسل لك الكتاب حول كانط ومجموع ما اشتغلت عليه حول هولدرلين كتحية بمناسبة عيد الميلاد». وتجيبه حنة في الموضوع نفسه: « لقد طلبت من الناشر أن يرسل لك كتاباً لي، وأودّ أن أقول كلمة في هذا الأمر. ستلاحظ بأن الكتاب لا يحتوي إهداء. لو أن الأمور كانت مرّت بيننا في أحسن الأحوال - أعني بيننا إذن لا أنت ولا أنا - لكنت قد سألتك إذا ما كنت تسمح لي أن أهديك إياه. تحقّق هذا الكتاب من الأيام الأولى في فرايبورغ مباشرة، وإنه مدين لك في كل اللحظات بكل شيء».

تغلب في الرسائل المتبادلة بين هيدغر وأرندت لغة الفكر والتجريد والتعبير الموارب، وإن لم تغب حرارة العاطفة ودفء الحب. رسائل كانت بالنسبة إلى هيدغر وسيلة للتعبير عن حبه الصعب لتلميذة يهودية تتلمذت على يديه في زمن صعود النازية، وكان بالنسبة إلى أرندت أداة للتعبير عن تعلّقها بـ «المعلم» كما كانت تسمّيه. المعلم الذي تعلّمت على يديه كيف تفكّر، وكيف تحبّ.
ــــــــــــــــــــ
المصدر: الحياة

هيدجر: جدل الفن والحقيقة

مجاهد عبد المنعم مجاهد 

لقد غرق الإنسان في عالم الأشياء .. نسي نفسه وسلبته الأشياء نفسه . نسي حقيقة جوهره، وفقد إنسانيته، وفقد تواصله الإنساني، وانفصل الإنسان عن الإنسان، ولم يعد الإنسان إنسانا، وطرد من ذاته فأصبح اللامأوي هو سكناه وهكذا اغترب الإنسان .. ومارتن هيدجر يريد لهذا الإنسان أن يعود الي جوهره وإنسانيته وحدد رسالته ووسيلته في هذا وهي أن نحل امتلاك الإنسان للأشياء بدل أمتلاك الأشياء للإنسان .. والفن هو احدي الوسائل التي يلجأ اليها الإنسان لكي يتحرر من رق الأشياء ..

في عالم الأشياء الجزئية نكون في العالم المزيف وعندما نصل الي الكل القائم علي الحقيقة والحق نتحرر من هذا العالم الجزئي المتشيء  ونصل الي ذروة الحرية ويتمكن الإنسان من أن يجد ماواه  الحق بدل أن يكون المطرود دوما .. فالمهم تاسيس الحقيقة وهذا التأسيس هو الوجود الحق وهذا الوجود الحق هو موضوع الفن ورسالته.

ان العمل الفني عند هيدجر ليس انتاج ذاتية جزئية تكون حاضرة في أي وقت، انه بالعكس انتاج الماهية العامة للشيء .. وسط التشتت الذي تحدثه الأشياء ليستخلص الفنان الكلي والحقيقي فهو اذن يجمع المفقود . اذن في العمل الفني هناك شيء ما آخر يتجمع مع الشيء المصنوع ... اذن جوهر الفن هو أن تكون به حركة لكن هذه الحركة لا يجب أن تكون من الشيءالي  العمل بل من العمل الي الشيء .. يجب أن يكون الاتجاه من الجوهري إلي الأشياء لنضفي عليها الجوهري بدل أن نتجه من الأشياء فنطمس الجوهري ونشيؤه .. وبهذا نصل إلي حقيقة الوجود .. ولهذا فان الفن يفتح كوة ينفذ منها الوجود وتنفذ منها الحقيقة . فالعمل الفني يفتح بطريقته الطريق لوجود الموجودات وهذا الكشف يحدث في العمل .. في العمل الفني فان حقيقة ما هو موجود تعمل . ان الفن هو الحقيقة وقد أطلقت نفسها للعمل.

ان الفن اذا عبر عن الجزئي والحسي والسطحي غرق في التشيؤ وعشنا حالة الاغتراب وبعدنا عن رسالته وجوهره ونكون ازاء فن مزيف .. وعلي هذا ينص هيدجر علي أن الفن يعمل شموليا وكليا .. وبهذه الشمولية والكلية يقضي علي الاغتراب ويقضي علي الحالة الزائفة للأشياء ويحدث انفتاح الحقيقة وبانفتاح عالم فان كل الأشياء تكتسب ابتعادها ودنوها، مداها ومحدودياتها، وفيه تتجمع المسافات ... ان العمل الفني يفتح المسافة التي هي تحرير والفن هو الاحتفاظ الخلاق بالحقيقة في العمل . فالفن هو صيرورة وحدوث الحقيقة .. وهذا الحدوث هو فعل .. ان الفن صراع حتي تبزغ الحقيقة .. ذلك أن طبيعة الحقيقة هي الصراع الأولي الذي فيه يجري كسب ذلك المركز المفتوح .. والعمل هو خوض المعركة حيث يجري كسب لا تحجب الموجودات ككل .. ان عالم الأشياء حجاب والحقيقة مختفية خلف الحجاب ولابد من ازاحة حجاب الأشياء حتي تظهر فالحقيقة لا تمثل الا كصراع بين النور والاخفاء في التعارض بين العالم والأرض .. العالم رمز التكشف والأرض رمز التخفي .. والفن عند هيدجر بهذا كما تصوره الفنان دورر : " في الحقيقة الفن يكمن خفيا في الطبيعة، ومن ينتزعه منها يمتلكه ".

ان هيدجر شأن فلاسفة الجمال العظام يحدد الفن برسالته حيث أن ماهيته قائمة في وظيفته ولهذا يقول : " ان العمل الفني لا يكون له تأثير فعلي كعمل الا عندما نبعد أنفسنا عن روتيننا اليومي ونتحرك الي ما ينكشف في العمل حتي يجعل طبيعتنا الخاصة تتخذ لها مكانة في حقيقة ما هو موجود " .. اذن هو انقاذ للإنسان للخروج من حالة اغترابه .. وهذا يعني ان يسكن الإنسان بشاعرية علي الأرض .. فليست الشاعرية تحليقا ولكنها تأسيس الجوهري . فالعودة الي الجوهري والينبوع والبيت والوطن هي عودة الي الإنسان .. وهذه العودة هي عودة شاعرية لأن الشعر هو تاسيس لانسانية الإنسان .. وطبيعة الفن كله هي الشعر وطبيعة الشعر هي تاسيس الحقيقة والتأسيس لا يكون فعليا الا في الحفاظ والحفاظ هو اظهار الوجود بجعله يوجد .. ولهذا فانفتاح الوجود هو جوهر الحقيقة وجوهر الفن .. وبهذا تظهر الحرية .. وبهذا تمتلكنا الحرية لا أن نمتلكها ..

ويحذرنا هيدجر من الخبرة الجمالية فالخبرة عنده هي العنصر الذي فيه يموت الفن .. فالخبرة ذاتية والذاتية ضد الحقيقة لأن الحقيقة كلية لأنها حقيقة الوجود الذي هو تكشف وتجاوز ولهذا فان طبيعة الفن هي هكذا : حقيقة الموجودات تطلق ذاتها في العمل الفني .. والعمل الفني يفتح المسافة التي هي تحرير وبهذا يصبح الفن كله شعراً لأن الشعر هو انفتاح الوجود وهو الذي يحمل الإنسان علي الأرض ويحمله الي السكن . بل ان الشعر هو الاعتراف الأصلي بالسكن وعندما يظهر ما هو شاعري الي النور حيئنذ فان الإنسان يسكن بإنسانية علي هذه الأرض . وكتابة الشعر ليست اساسا علة لقرح الشاعر، بل بالأحري ان كتابة الشعر هي نفسها فرح، ابتهاج، لأنه في الكتابة تتألف العودة الرئيسية الي البيت والي الوطن والي الينبوع والي الإنسان.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــ
المرجع: إبعاد الاغتراب فلسفة الفن الجميل، تأليف: مجاهد عبد المنعم مجاهد، دار الثقافة للنشر والتوزيع، صص90:87.

الخميس، 21 يوليو 2016

إيميل سيوران في «مثالب الولادة»: الفيلسوف الباهر في الحكمة

هاشم شفيق

تاريخ النشر: 19-12-2015


إيميل سيوران، هو آخر الفلاسفة المتشائمين العظام، وأكثرهم تأثيراً وحفراً في الذات الإنسانية وفي حضارتها الآلية السريعة، طاردة التأمل الإنساني وهدأة الروح والأعماق لدى الكائن الحديث المتعصرن، مع الأفكار الجديدة لعالم الرأسمال وعالم السوق والمتسق، شاء أم أبى، مع التطوّر الهائل للأتمتة وللمنظومة التكنولوجية الصاعدة باتجاه مستقبل سريع للآلة العصرية.

اختزل إيميل سيوران فلسفات العالم الحديث والقديم بفلسفته هو، فلسفته اليومية المُستمدّة ومضتها من الأحوال والمقامات الإنسانية بشتى صنوفها وتنوّعها، وكذلك بشتى تحولاتها البشرية وتفاصيلها الحديثة، اليومية والتاريخية، منذ نشأة الكون عبر الوعي الإنساني، بادئاً بفلاسفة اليونان الشهيرين ومثيري الجدل حول النزعات الإنسانية ومصيرها الآيل إلى الموت والنهاية، من أمثال سقراط وأفلاطون وأرسطو الذين بنوا اللبنات الأولى لعالم الديمقراطيات والتساؤلات حول قيم الماهية والوجود، ووضعوا أسئلة حول الولادة والموت وحول الحقيقة أين تكون وما هو دور الإنسان فيها، مروراً بالهراطقة ومدارس الديالكتيك في البانتيون التي كانت تقام ويأتي كل فيلسوف ليقول ما عنده من رؤى وأفكار حول الحياة والإنسان والعالم.

ليس هناك فيلسوف ومؤرخ وعالم اجتماع، ذاع صيته، أو كان مغموراً، لم يسلط سيوران ضوءه الحاد والكاشف عليه، مفنداً براعات الجميع وناقداً الآخرين، حتى نيتشه معلمه الأمثل لم يسلم من نقد مقولاته ورؤاه الشذرية المتنوّرة، القاسية والأليمة واللامعة والمضيفة من ناحية أخرى.

كم أحببت أن أكتب عن هذا الفيلسوف الذي وجدته الأقرب إلى حالي وتصوّري ورؤيتي تجاه العالم التي لم تكن رؤية متشائمة بعمق، ولكنها تكاد أنْ تكون رمادية، ماسيّة، حول مفهوم الحياة والوجود والكون وحول معنى الذات العليا ومُسيّر الكون الذي يناقشه سيوران في الصغيرة والكبيرة، كفيلسوف لديه الحق في الجدل حتى مع خالقه وخالق هذه العوالم والأكوان

لماذا سيوران؟

الفيلسوف إيميل سيوران، الفرنسي من أصل رومانيّ، تشبّع، وهذه وجهة نظر شخصية بحتة، بفلسفة الشارع، فلسفة اليومي، هذه الفلسفة التي جعلها لأول مرة في تاريخ الفلسفة الكونية، فلسفة مقبولة إلى حدٍّ ما لدى الجميع، كونها نازحة من فلسفة الإنسان نفسه، من يومياته وتاريخه وتكوينه وأسئلته اليومية حول مصيره وحياته، البدء والتكوين، الولادة والحياة والموت، العيش والعمل ومشاركة الإنسان الآخر، الدين والعلم والأفكار التي صاحبت الإنسان منذ ولادته، تحوّلات الطبيعة والكون وتطور البشرية ونزعة الأنا والاستحواذ، وظهور التوحيد الذي تجسّد في أديان ثلاثة، ظهور التاريخ منذ هيروديت وقبله، نشأة المدن والدول والأقوام والترحال الأبدي للأقوام، تمازج الثقافات وتعدّدها وتعدّد الهويات ولغاتها وملازمة الشعر والفن والخيال للعقل الإنساني، وغيرها من مفاهيم وتصورّات وأفكار ومنظومات وعوالم ويوتوبيات وأساطير وملاحم وهرطقات، وحروب ومنازعات واندثار عوالم وكائنات ومدن وسلالات، وتحوّلات أركيولوجية وميثولوجية، وأبستمولوجيات وفيلولوجيات وثيوقراطيات ومفاهيم فلسفية أخرى، كُتب لها أن تصبح أمثولات وكيانات، وغيرها من علوم أنطولوجية ، كلها تمرّ من تحت قلم الفيلسوف الأمثل إيميل سيوران، الذي كتب الكثير حول كل هذه القضايا بروح شاعرية، يمرح فيها الخيال ليضيء الأفكار الجميلة المطعّمة بلغة الشعر والمخيال والفن، ليصبّها في فكرة مستخلصة، ستُصبح مع مرور الأيام حكمة ولقية وشذرة رؤيوية تقي الإنسان الحديث شرور العالم الحديث.

انطلاقاً من هذه الرؤية أحببت هذا الفيلسوف الشاعري، المتمرّد والصادق مع عمله الرؤيوي، ومع ما يكتب من رؤى فلسفية تمس مباشرة قاع الإنسان، فتحس أنه يتحدث عنك، عن حياتك وسؤالك أنت ومشكلتك الوجودية أنت، وعن نوع حياتك وتأطرها في أفق هذا الكون والعالم.

فلاسفة كبار تحدثوا عن الوجود والعدم وعن غاية الإنسان وهدفه على الأرض، بدءاً من دي كارت، وماركس، وسارتر وكامو وميرلو بونتي وسيمون دي بوفوار، وهيدغر ونيتشة، لكن سيوران جاء مختلفاً، ليكون هو، ذلك الفيلسوف المختزل للرؤى والافكار والتصورات، مختزل أقرب أساتذته إلى عالمه الشكاك غير اليقيني، من أمثال هيدغر ونيتشة ودي كارت وشابنهاور.

عطفاً على ما مرّ أعلاه، فمناسبة هذا الاستطراد هو صدور كتاب جديد بالعربية لإيميل سيوران بعنوان «مثالب الولادة» وهو كتاب راق في طرح مفهومته النظرية. وعنوان الكتاب يوضح على نحو تام ما يقصده سيوران من وراء ذلك. وهو مليء وحافل ومترع بالأمثولات الفلسفية والتواريخ والأسماء العظيمة التي بنت التاريخ ووضعت من ثم التسلسل الكرونولوجي للحياة الإنسانية على هذا الكوكب.

ميزة الكتاب هذا، تأتي أيضاً من مترجمه اللامع الشاعر التونسي آدم فتحي، الذي ما عَتمَ يقدم المزيد من عالم سيوران بلغة جذابة وفاتنة ودقيقة وحريصة على إيصال الفكرة والمعلومة والشاهد الزمني والتاريخي، بهوامشه وشروحه الثرية، التي خلت من التعاضل اللغوي والاعتياص البنيوي اللذين يشوبان بعض الترجمات عن الفرنسية، وبخاصة حقل الفلسفة بشكل عام.

لقد ترجم آدم فتحي سيوران بلغة سلسة، منعت مدوّنات سيوران من أن تصبح فلسفة جافة، خشنة، وفيها تعمية وإبهام في مشكلات الترجمة وفنها ، وما أكثرها في عالمنا العربي.
حتى الآن ترجم آدم فتحي العديد من كتب ومفاهيم ويوميات سيوران الفلسفية التنويرية الذكية التي تلاحق مصير الإنسان وحياته العصرية

إذاً «مثالب الولادة» يأتي مُكمِّلاً لمشروع سيوران الكبير، ليخالف فيه فلاسفة سبقوه، أو ليؤيد بعضاً ممن أحبّهم، والشذرة الفلسفية عموماً هي من ابتكار نيتشة، لكن تلميذه أضفى عليها المزيد من الشعاع و الابتكار الذاتي السيوراني. ومضة سيوران صادمة، متألقة وجديدة، بفعل عمق ما يحمله كاتبها من خيال وتفرّد وخصوصية استثنائية، وكذلك فيما يحمله من مضامين ومعارف متطورة وحديثة، تلائم زمانها ومكانها اللذين كتبت فيهما، وكذلك هو الأمر بخصوص الشاعرية التي وظف هايدغر بعضا من أحلامها حول أشعار شاعره الأثير هولدرلن، دون أن ننسى جان بول سارتر الذي كتب مقدمة لكتاب جان جينيه الروائي والمسرحي الفرنسي المتمرّد، وكان هو نفسه، أي سارتر، كاتبا مسرحيا، غير أنّ سيوران يأتي بلهجة فلسفية جديدة وأنيقة، فيها الكثير من معاناة البشرية وأسئلتها الكثيرة التي تحاصر عالمها المعاصر والحديث.

يُقسّم سيوران كتابه هذا، إلى وحدات فكرية وفلسفية ومعرفية، كل وحدة لها منظومتها التنويرية وهدفها في إضاءة محمولها الجمالي والفلسفي، وتبيان ما يسعى إليه من رؤيا كلية، تخص الآخر، لتضيء وعيه الإنساني، وتحاول أن توصل له المغزى والمرام والدلالة، علها تعينه في تخطي مصاعبه اليومية، الوجودية والكونية.
ففي الوحدة الأولى على سبيل المثال، يركز سيوران على قضية الولادة والوجود وعوائق الحياة أمام هذا الوجود وأمام الرحم الذي جاء بالكائن إلى هذا الكون، لتولد معه كل مزاياه السلبية والإيجابية، بينما في الوحدة الثالثة يذهب إلى معاني الحيرة والخيبة والتعبّد في الديانات عامة وانهاك الوعي البشري، مستشهداً بكتاب الكابالا اليهودي والقديسة تيريزا الأفيلية وورد زورث وكولريدج و «فينومينولوجيا الروح» ليهغل وغيرهم من عمالقة الفن والأدب والفلسفة.

بينما في الوحدة المعرفية السادسة يتوقف عند علم النفس، والمصائب اليومية التي تحدث للإنسان مثل الكوابيس والأرق والشك والغيرة وتخبط الذات والأنا، متوقّفاً عند سيغموند فرويد وبعض الأعمال الشكسبيرية والكتب البوذية، مروراً بفكرة «التبديوم فيتايي» والتي تعني التعب من الحياة والسأم منها.
في الوحدة المعرفية الأخيرة نجده، يسلط الضوء على مفهومي الحياة والموت، والتناقض الذي يعيشه الإنسان بين هذين القطبين، وهو في هذه الوحدة لا يبدي إلا التشاؤم وإظهار فكرة اللا جدوى من الوجود بشكل عام.

وفق هذا المساق، يذهب إيميل سيوران ليفكك بطريقته الخاصة، وبعيداً عن الفيلسوف دريدا عوالم الإنسان في كتابه هذا، مثل الوحدة، العزلة، الكراهية، سيادة الآخر، انحراف الأنا، الذات ومشاغلها، الأرق، النوم، الوقت، الزمن ومفهومه اليومي لدى الإنسان، دامجاً حياته بحياة الآخرين ليستخلص عبر كل هذه المفاهيم، وهذه الشذرات الفلسفية التي يطرحها هو كأفكار جديدة لفلسفته هو، ونحن هنا قد لا نشاطره الرأي في الكثير من الآراء التي يطرحها، وقد نتقاطع مع البعض الآخر منها كون «على الأرض ما يستحق الحياة» كما قال محمود درويش يوماً.

مختارات من ومضاته الفلسفية 

"نحن لا نركض نحو الموت، نحن نفرّ من كارثة الولادة، نتخبط مثل ناجين يحاولون نسيانها".
"اقترفت كل الجرائم باستثناء أن أكون أباً".
"التواصل الحقيقي بين الكائنات، لا يتم إلا عن طريق الحضور الصامت، عن طريق اللا تواصل الظاهر، عن طريق التبادل الملغز، والخالي من الكلام، الشبيه بالصلاة الباطنية".
"كلما كان أحدهم مغموراً بالمواهب، قلّ تطوّره على الصعيد الروحي، الموهبة عقبة أمام الحياة الباطنية".
"أن تعيش، يعني أن تتقهقر".
"الطريقة الوحيدة التي تتيح للمرء حماية عزلته تتمثل في أنْ يجرح الجميع، بادئاً بالذين يحبّهم".
"كلّ صداقة هي مأساة غير ظاهرة، سلسلة من الجراح غير المرئية".


إيميل سيوران: "مثالب الولادة"
ترجمة ـ آدم فتحي ـ دار الجمل ـ بيروت 2015
263 صفحة

هاشم شفيق

 ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ