الأحد، 3 يوليو 2016

الإحساس بالجمال عند جورج سانتيانا

فؤاد الكنجي


George Santayana

لما كان علم الجمال يبحث ويستقصي في مبادئ الإبداع التي يقوم عليها (الفن) أ كان تشكيليا أو سينمائيا أو موسيقيا أو نصا أدبيا، شعرا كان أم قصة أم مسرحية ) والكيفية التي تبنى أفكارنا ومشاعرنا ومواقفنا بالخبرة التي اكتسبت من خلال موجودات والظواهر الطبيعية وما حولنا.

ومع ذلك فان من العسير تحديد مفهوم (الجمال) لأن مفهومة يتغاير بحسب ثقافة المتلقي للعمل، فما نجده جمـيلا قد يعتبره شخص آخر غير ذلك ، ولأكن إذا كانت لهما نفس الحواس وكانـا متشـابهين في المزاج والارتباطات فإنهما لا شك سيعتبران نفس الشيء جمـيلا ، أمـا إذا اختلفـت طبيعتهما فإن الصورة التكوينية التي يجدها الشخص الأول جميلة قد يعجز الثـاني عـن رؤيتها جميلة على الإطلاق، ليبقى الأمر في النهاية غاية في البداهة، لان المسألة أولا وأخيرا تصطدم في كيفية تحديد هوية الجميل، ولكن في المطلق يفهم على انه اتجاه نحو الخير وبعيد كل البعد عن عكسه .

ومن هنا أصبح موضوع (الجمال) موضوعا لعلم أو مبحث رئيسي من مباحث الفلسفة، يطلق عليه بـ(علم الجمال) أو (الاستطيقا) حيث يدرج هذا العلم في فلسفة الجمال بكونه قائم على مجموعة من الدراسات المختلطة ساعدت على خلقها بعض الظروف التاريخية والأدبية ، فضلا عن الاعتقاد في أن الخبرة الجمالية ليست مسـتقلة عـن غيرها من الخبرات العادية في الحياة ،

بكون موضوعها تداول بين علماء النفس ومؤرخو الفن والفلاسفة والنقاد وغيرهم.

فـ(الجمال) في (فلسفة علم الجمال) ظلت بين الفلاسفة والمتخصصين والدارسين مدار البحث و التوضيح وتحليل فطرحوا الكثير من الأسئلة لتحديد الإبعاد الجمالية للفن وما هو معيار الذي يجعل من الفن فنا..؟ و ما المقصود بالجمال و قيمة في الفنون ..؟ وما هو الشيء الجميل الذي يجعلنا نطلق على عمل ما عملا جميلا..؟ وهل مستوياته الجمالية له علاقة بالتعبير ..؟ لماذا ومتى وكيف يبدو الجميل جميلا..؟ وما الذي يجعلنا على استعداد للإحساس بالجمال..؟ ثم ماذا عسى أن تكون العلاقة بين الجميل من ناحية وإحساسنا بجماله من ناحية أخرى..؟ وغيرها من الأسئلة المهمة التي هي أهم من الإجابة عليها، لان كما نعرف بان غاية الفلسفة هي طرح الأسئلة وليس الإجابة عنها ، وهذا ما يجعل طرحنا لفكرة (الجمال) إن نستقدم بالبحث عن كيفية التي نحس بالجمال، فالإحساس بالجمال يأتي من الأهمية بكونه مدخل يجعلنا أن ندرك الشيء الجميل، وهذا ما يقودنا لدخول إلى فلسفة (جورج سانتيانا)* بكونه قد ترك لنا بحوثا فلسفية في غاية الأهمية في هذا المجال وعبر سلسلة من المحاضرات التي ألقاها بجامعة (هارفارد) الأمريكية ثم أخرجها في كتاب عام 1896م تحت عنوان ((الإحساس بالجمال.. تخطيط لنظرية في علم الجمال)) .



حيث يبن في بحوثه في هذا الموضوع الحيوي أسس العلاقة بين الجميل وإحساسنا بجماله، حيث يحاول (جورج سانتيانا) مناقشة الإحساس بالجمال والقيم الجمالية، وأهمية البعد الجمالي في التجربة المعاشة، ومن هنا نفهم سر النقد العنيف الذي يوجهه (سانتيانا) إلى المدارس الفنية والجمالية والنظريات الجمالية بكونه يرى أن هناك علاقة وثيقة بين مجالي (الفن) و(الجمال)، ويتمثل هـذا بوضـوح مـن خلال النظر إلى الفنون الجميلة، هذا من ناحية ، ومن ناحية أخرى فان ( سنتيانا ) لا يعني بذلك بتحول المادة إلـى صـورة جميلـة مجرد تحقيق رغبات الإنسان وميوله فحسب، أي أن يكون الهدف هو مجرد تحقيق منفعـة ما ، بل يكون هذا التحويل بمثابة الوقفة الشعورية الممتعة التي ينظر فيها الإنسـان إلى نتيجة صناعته وخلاصة جهده الفكري والفني فيتأمل الصورة الفنية الجميلـة التـي صنعتها يداه، وقد عرض ( سنتيانا ) إلى أهمية الإدراك الحسي في تحصـيل (الخبـرة) الجماليـة ودور الوظائف الحيوية في إدراك الجمال والإحساس به، كما أبرز أهمية العنصر الشكل مـن الموضوع الجمالي ، والذي يأخذ بألباب المشاهدين ويسـتحوذ علـى إعجـابهم بروعتـه وتأثيره عليهم ، ولا يعني ذلك أن المادة او الشكل هي الأساس الأول في الجمال والفن، لكنها مع ذلك تبقى هي المبدأ أو البداية لكل ما هو جميل.

وعلى هذا النحو يصبح (الفن) نظاما للقلب والخيال، يبلغ بصـاحبه حـد الإشباع واللذة ، وعليه تقوم نهضة المجتمع ورقي الحياة، وهكذا ينظر ( سنتيانا ) إلى النشاط الفني بصفته مظهر من مظاهر لاستمتاع (عقل الإنسـان ) بـأعظم ثمرات صناعته وإنتاجه وأسمى إبداعاته ومن خلال ذلك تبنى الحضارة الإنسانية ويصبح لها وجه خاص بكل مجتمع.
ومن خلال هذا الدور يتطرق ( سنتيانا ) إلى بحث مسألة القيم الجمالية فيحـاول التمييـز بينهـا وبـين القـيم الأخلاقية والعملية، فـهو يرى بأن إدراك الأشياء تأتي على حالتين، الأولى أن يعرف الإنسان الأشياء من حيث هي استجابة نافعة تحافظ على الحياة واستمراريتها، وثانيا إن يوضح ويبين إدراكها حسيا يلتقط ما فيها من قيم .
والقيم يفسرها بكونها على نوعان:

إما (جمالية) وأساسها النشوة، وإما (أخلاقية) وأساسها التفضيل، وكلاهما يستندان إلى العقل.
فهو يميز بين (القيم الجمالية) و(القيم الأخلاقية)، “..فالقيم الأخلاقية قيم تتصف بالسـلبية، وتقتصر مهمتها على اجتناب الألم ، ومحاربة الشر، فالعالم الأخلاقي هو عـالم الواجـب والإلزام، والتكليف فضلا عن كونه عالم الصراع ضد الخطيئة ، في حين أن (عـالم الفـن) هو عالم الحرية والاستمتاع ، ومن ثم كان النشاط في مجال الأخلاق مقترنا بالنشاط الجاد والشاق، في حين اقترن الفن باللعب والنشاط الحر الطليق، ومن ناحية أخرى تختلف قـيم الجمال عن قيم الأخلاق والحياة العملية ، من حيث كونها قيما مطلقة لا أهداف من ورائها ولا منفعة ترجى منها فليس للمتعة الجمالية هدف إلا تحقيق اللذة والمتعة وإدراك الخيـر المطلق الإيجابي، وآية ذلك أن النشاط الفني لا يثمر ولا يزدهر إلا في أوقـات الازدهـار الحضاري فهو ترفيه وانطلاق متسامي في حين أنه يختفي في الأوقات التي يسـود فيهـا التدهور والاضمحلال ، فـ(الفن) تقتله الحاجة وتعصف به ضروريات الحياة الملحة ، فـي حين أنه يزدهر ويفسح مجاله أمام الهدوء والحرية وأجواء الخير والرفاهية..” .

ويرى ( سنتيانا) ضرورة التمييز بين المتعة الجمالية وبين ما عداها من متع ولذات الأخرى، وهو في هذا الموضوع يهاجم الآراء التي ذهبت إلى تنزيه المتع الجمالية والفنية مـن الهـوى بكونه يرى “..أن للفن وظيفة هامة حيوية لأنه يضمن لنا الانتقال من مرحلة النشاط المقيد إلى مستوى النشاط الحر ، فالإنسان يجد نفسه أسيرا لبعض الضرورات العملية و المهام الواقعية ، وسرعان ما يتحقق أن في وسعه تعديل بيئته وخلق الجو الملائم لغاياته ، فيستغل ما في الواقع من إمكانيات أملا أن يهبط بمثله الأعلى إلى عالم الواقع محققا لنفسه ضربا أسمى من الإشباع ، و إذا استطاع الإنسان أن يحقق التناسق بين أفكاره من جهة و أفعاله من جهة أخرى ، فهناك يكون في وسعه أن يضمن لنفسه من النجاح والانتصار ما يكفل له الرضا أو الاستمتاع ، وهنا يجيء (الفن) فيكون بمثابة نظام للقلب و للخيال – كما ذكرنا – يعلم صاحبه ذلك العمل الشاق الذي لا بد له من النهوض به للوصول إلى حالة الإشباع وهو العمل الضروري لبناء الحياة وتحقيق الأعمال الناجحة ، وحين يتحرر المرء من (عبودية الطبيعة) ليصل إلى (حرية الروح) فلا يعود رائده الإنتاج من أجل الاستهلاك ثمرة فعله ، بل في وسعه أن يتأمل الأعمال التي أنتجها باعتبارها أعمالا جميلة تعبر عن نشاطه الإبداعي الخاص ، فلا يعود (الفن) مجد مدرسة للحياة ، بل يكون بمثابة الصانع الذي ينتج لنفسه ما هو في حاجة إلى استهلاكه أو بمثابة الحارث الذي يحصد ثمار عمله ، ولا شك أن النشاط الفني هو مظهر لاستمتاع العقل البشري بأعظم ثمرات إنتاجه و أسمى آيات إبداعه..” ويوضح ذلك بقوله:

“..إن الأحكام العقلية تختلف عن الأحكام القبلية والجمالية معا..فالأولى مدارها (الواقع)، والثانية مدارها (القيم) الذي يضيفها الإنسان الى الواقع.
كما تختلف الأحكام القبلية عن الأحكام الجمالية، فالحكم القبلي لابد فيه من إدراك للشر حتى نحكم عليه، بينما الجمالي يعتمد على خبرة مباشرة بالحسن الذي لا يستهدف سوى المتعة المباشرة.
لكن، ترى كيف يحدث الإحساس بالجمال؟
يحدث ذلك بأن يتمثل الرائي في ذهنه صورة مثلى للشيء الذي يصوره الأثر الفني المشاهد، وكلما كان هذا الشيء قريبا من المثل، كان الإحساس بالجمال قريبا إلى النفس..” .
فـ(جورج سانتيانا) هنا نراه يجمع بين الرأي الذي يجعل الجمال منحصرا بالنقد الفني والرأي الذي يوسع من مجالاته بحيث يشمل كل إدراك حسي، وكذلك نراه يجمع بين الاثنين، فهو يقول “انه طبيعة الجمال كائنة في الإدراك الحسي الذي يصاحبه حكم نقدي، و ان الإدراك الحسي الممتزج بالحكم النقدي هو إدراك للقيم الجمالية “.

ويرى فضلا عن ذلك، “..ان الحكم الجمالي يمكن اتهامه بالتفاهة إذا ما تجاوز الأفق الذاتي وليس العكس، كما يروج لذلك أنصار المذاهب التي ترى ان قيم الجمال متعلقة بمدى ارتباطها بالواقع البعيد عن التأثر بالجانب الذاتي للإنسان..” ، ثم يشير إلى نوع آخر من المنفعة وهو التوافق مع الطبيعة حيث يؤكد على” ..أن الجمال هو الضامن لإمكانية توافق النفس مع الطبيعة ، وهذا التكيف هو الذي أدى بأشكال من الفن كفن العمارة مثلا إلى التوافق مع الضرورات العملية ( الوقاية ، الاحتماء ، الإضاءة ، التملك ، تنوع المواد الأولية ) ولكن لم تلبث عين الإنسان أن اعتادت أنماطا معينة من الصور نتيجة لتكرار إدراكها لأمثال هذه الأشكال النموذجية ، فأصبح خط المنفعة هو بعينه خط الجمال..” ، ومن هنا يوافق (سانتيانا) مع (أفلاطون) بوجود جمال مطلق يتحكم في نظام العالم بل ويقرر تنظيم العالم نشأ عن فعل بعض القوى الآلية أو الميكانيكية التي حددت النماذج أو الأنماط ، فلم يكن على إدراكنا الجمالي سوى أن يراعيها في تذوقه للجمال ولذلك يرى (جورج سانتيانا) أن “..مهمة الفنان الامتداد بالمنفعة بحيث تستحيل إلى جمال، فيكون عامل اللذة أو المتعة عاملا أساسيا في صبغ بعض الأشكال التجريدية بقيم جمالية نتيجة لما يترتب على إدراكنا لمثل تلك الأشكال من إحساس ملائم يرتبط بفعل بعض التوترات العضلية و الحسية ، وهكذا يخرج بالنتيجة إلى أن الجمال هو الضامن لإمكان توافق النفس مع الطبيعة..”، فهو يرى “.. بوجود مثل عقلية للشيء، إذ لولاه لما استطاع الإنسان أن يحكم على الشيء بالجمال، وهذا المثل العقلية جاءت أصلا من التجربة الدنيوية الطبيعية الذي يعيشها الإنسان، من خلال الممارسات الحياتية اليومية و من هنا تتولد النظرة الذاتية النسبية في تقدير الجمال، فلا اتفاق مطلق ونهائي في موضوع الجمال..” .

ونلاحظ هنا بان (سانتيانا) لا يميل سوى إلى طريقة في التناول والبحث الجمالي، وهي الطريقة او الرؤية (السيكولوجية) في تناول الحكم والقيم الجمالية، والتي تتناول الإحكام الجمالية والقبلية بوصفها ظواهر عقلية أي نابعة من ذاتية الإنسان ونمط تفكيره وكإنتاج لها، فهو لا يميل إلى الطريقة التي تتناول الأذواق بوصفها نابعة من الشخصية الفردية، وكذلك لا يأخذ بالتفسير التاريخي للفن والجمال بل انه يطمح إلى مناقشة طبيعة الإحكام الجمالية والعناصر التي تتألف منها، لذلك فهو يقول :
” .. سوف ندرس الحساسية ذاتها ومشاعرنا الحقيقية إزاء الجمال، ولن نبحث عن الأسباب العميقة اللاشعورية وراء شعورنا الجمالي، فثمة شروطا وعلامات للإدراك الجمالي ولأجل تميزه عن الإدراك الأخلاقي والعقلي ومنها:

1- الإدراك الجمالي كـ(قيمة) أي انه انعطاف او ميل من الذات نحو الشيء.
2- انه إحساس بالشيء الحسن الماثل إمام الشخص المدرك. 
3- انه مباشر و الإدراك الجمالي هي عملية إخراج ما أحست به الذات وما تحقق بها من نشوة ولذة ..” .

ومن هنا فان الإحساس بالجمال عند (سنتيانا) يحدده بقوله :
“.. في الواقع الحي، كائنات فعلية، لو وصفت كما هي، كان الوصف تقريرا عن (الحق) وهو من شأن العلماء، أما الممكن بالعقل، فهذا الممكن هو صورة باللون أو الصوت أو اللغة أو الحجر (الفن) بحيث تأتى كما نود أن تكون، و هي مظاهر الجمال الذي تستريح لها النفس البشرية لأنها مصاحبة للنشوة، أي أن إدراكنا للواقع هو أدراك للحق، وإدراكنا لجمال الفن هو إدراك للقيمة الذي أضفناها نحن الى الأشياء..” .
و يقول : “.. أن الجمال لا يوجد مستقلا عن إحساس الإنسان و قولنا أن هناك جمالا لا ندركه يساوي قولنا أن هناك إحساس لا نشعر به، وحين نفرق بين متعة الجمال و الجسد، نجد أن الجمال يعطينا شعورا أو وهما بأننا أحرار من أجسادنا و يجعلنا نحلق كالأرواح بشفافية تسيطر على مشاعرنا دون أن نلمسها، أما المتع الأخرى فلا تعطينا هذه الشفافية بل إنها أقرب لوصف (أفلاطون) للمتعة على أنها (( المسامير التي تدق نفوسنا و تربطها بالجسد ..)) .. وقد يعود هذا إلى أن :

أولا إن متعة الجمال ليست متعة تختص بعضو معين من أعضاء الجسد كما تفعله متعة الطعام أو الشراب مثلا والتي ترتكز على عضو اللسان.
وثانيا ان متعة الجمال لا توجد منفصلة عن عملية الإدراك بل إن مصدر المتعة فيها يعود إلى الإدراك نفسه بخلاف متعة الجسد التي ينفصل فيها الإدراك عن الإحساس الجسدي..” .
إذن فالخبرة الجمالية كما يوضحها (جورج سانتيانا) تمثل نشاطا متحررا من ضغط الحاجة وقسر الضرورة ، ولذا فهي تقترب من النشاط الانطلاقي الحر، ومن ذلك نفهم على أن (سانتيانا) يرى بأن الفن يمثل أرقى أنواع (الحرية) ، في حين أن الأخلاق تمثل نوع من الرقابة و القيود ، ومع ذلك لا ينكر التقاطع الحاصل ما بين الفن و الأخلاق وهنا تكمن أهمية الربط بين ما هو جمالي وما هو واقعي .
فالفن يعبر عن الخبرة المعاشة من قبل الفرد في نفس الوقت الذي يعبر فيه عن ذاتية وإبداع الفنان- الإنسان، ويبدو إن مدار الإجابة عن ماهية الفن ، ارتبط ارتباطا وثيقا بمعرفة الغاية منه ومن ذلك نفهم سبب تعدد الإجابات حول ذلك السؤال والتي تنوعت بين رؤيتي أساسيتين:
الأولى جعلت غاية الإمتاع وتحقيق اللذة الشعورية والإحساس بها .
والثانية جعلته منحصرا في التعليم واستغلال الفن لإغراض لا عملية خارج إطار الإحساس بالجمال .
و ( الجمال ) عموما يشير إلى ما هو جميل او ما يبدو لنا جميلا فضلا عن كون دراسة الجماليات دراسة فلسفية، ولكن هنالك رؤى أخرى لا تجعل الجمال منحصرا في بوتقة الإشارة إلى ما هو جميل فحسب، ولا محض الدراسة الفلسفية لما هو جميل، ولكونها تشير إلى حقيقة أخرى تبدو أكثر عمومية وهي مسألة النظر إلى الجمالية أو الجمال باعتبار مجموعة من المعتقدات حول الفن والجمال ومكانتها في الحياة وضرورة الاهتمام به، أو اخذ ما يعرف بضرورة الالتفات حول الفن من اجل الفن نفسه، ومعارضة الفكرة بأن يكون الاهتمام الأول للحياة فحسب، ويبدو أن هذا الاختلاف ناشئ من الاختلاف حول الإجابة عن السؤال.. ما هو الفن..؟

فكلمة ( الفن ) تعنى عند (جورج سانتيانا) معنيين مختلفين هما : “..معنى عـام : يجعـل مـن الفـن مجموعة من العمليات الشعورية الفعالة التي يؤثر الإنسان عن طريقها على بيئتـه الطبيعيـة حتى يتمكن من تشكيلها وصياغتها وتكييفها ، و معنى خاص : ويجعل من الفن فيه مجـرد استجابة للحاجة إلى اللذة أو المتعة أي لذة الحواس ومتعة الخيال ، وذلك بغض النظر عن وجود الحقيقة أو عدمها ، وعلى هذا النحو يكون الفن بالمعنى الأول غريزة تشكيلية شاعرة بغرضها ، فإنه لو قـدر لـ(الطير) أن يشعر بفائدة ما يصنعه عندما يشرع في بناء عشه لأمكنا أن نسمي نشاطه هـذا بالنشاط الفني ، وهكذا يصبح الفن بمعناه العام هو كل فعل تلقائي يعززه النجاح ويحالفه التوفيق بشرط أن يتجاوز البدن لكي يمتد إلى العالم فيجعل منه منبها أكثر توافقا مع النفس.. ” ويبر ذلك عبر عدة مواقف:
الموقف الأول هو فصل الفن عن الحياة ، لأن الفن للفن، و أن النشاط الفني غير مشروط و أنه نشاط مستقل استقلالا تاما عن شتى مظاهر الحياة البشرية الأخرى و أدى هذا الموقف إلى عبادة الجمال .
و الثاني ان يستبعد النشاط الفني من دائرة مظاهر النشاط البشري الجدي ، فيساير (أفلاطون) في طرده الشعراء من جمهوريته ، ويحجر على الفن باسم الرقابة الأخلاقية الصارمة ، وينسب للفن وظيفة ترويحية باعتباره مجرد أداة تسلية في نطاق حياة منظمة تحكمها مقولات الفعل .

والثالث، ينسب إلى الفن قيمة نسبية بوصفة مرحلة ضرورية من مراحل التقدم (الديالكتيكي) للنفس البشرية ، و إن كان من شأن هذا التقدم أن يفضي إلى تجاوز الحياة الجمالية للانتقال إلى مرحلة أخرى قد يمثلها العالم أو الأخلاق أو الدين ، و أصحاب هذا الاتجاه يعترفون بقيمة الفن لكنهم يخضعونه لمبدأ تقويمي يحكم عليه سلفا بالبقاء في مستوى أدنى من مستويات غيره من مظاهر النشاط البشري ، ومن ثم فلا ينسبون للفن أي طابع نوعي باعتباره مرحلة مؤقتة من مراحل تطور الوعي البشري .
اما الموقف الرابع، فهو الموقف الأوحد الذي ينصف الفن في نظر (سانتيانا ) الذي يدمج النشاط الجمالي في صميم الحياة العقلية للوجود البشري باعتباره مظهرا من مظاهر سعي الإنسان نحو تحقيق المثل الأعلى ، وبذلك لا يكون الفن مستقلا تماما عما عداه من منشط الحياة الإنسانية ، ولا يبقى بمعزل عن الحياة الجدية ، ولا يظل خاضعا خضوعا مطلقا للأشكال العليا من أشكال الحياة الروحية، وفي هذا الصدد يقول ( سنتيانا ) في كتابه ((العقل في الفن )): 
..” إن العلاقة بين الفن والجمال هي علاقة وثيقة ، ذلك أن الفنون الجميلة التي تعبر عـن هذه العلاقة ، ما هي إلا ضروب مـن الإنتـاج يفتـرض أنهـا تتضـمن بعـض القـيم) الاستيطيقية ( والفن هو انتقال من مرحلة المادة إلى الصورة ، أي بمعنى الانتقـال مـن المادة الجامدة إلى أخرى مرنة يصنعها الإنسان ليتكيف بها مع رغباته وميوله ، فالإنسـان يكون في حالة رغبة مستمرة وشوق متواصل لتعديل الواقع المادي الصلب وجعله ملائمـا لرغباته ومتوافقا مع أحلامه، وفي تلك الأثناء يحول الإنسان جاهدا أن يتحرر من عبودية الطبيعة لكي يصل إلى حرية الروح، تلك الحرية التي تصنع ما يلاءم الإنسان ويملئ رضاه و ميوله ..” . ويتطرق ( سنتيانا) في كتابه ( الإحساس بالجمال ) إلى شـرح وتفسـير اللـذة الجماليـة ودوافعها، وهو يرى “.. أن إحساس المرء بجمال اللوحة يمكن أن يكون دافعا لشرائها وليست هذه قاعدة عامة. إذ يتمنى الإنسان امتلاك الأحجار الكريمة الباهظة الـثمن بيـد أنـه لا يستطيع ماليا القيام بذلك، ورغم ذلك فإن اللذة الجمالية تظل مقرونة علـى الـدوام بحـب التملك شأنها شأن أي لذة أخرى، فالذي يحب أو يعجب بشيء ما يود امتلاكه في حقيقـة الأمر كما أن إعجاب الرجل بجمال المرأة يكون دائما مقرونا بحب التملك..” و يقول (سانتيانا):

” .. أن الكثير توهموا نزاهة المتعة الجمالية من الغرض ، و كأن المرء حين يجد نفسه إزاء موضوع جمالي لا يفكر مطلقا في السعي نحو الظفر به أو امتلاكه ، حقا إن تقدير اللوحة لا يختلط في العادة بالرغبة في شرائها لكن من الطبيعي أن تكون هناك علاقة وثيقة بين الحافزين ، فليس ما يمنع أن نشتهي الملذات الجمالية كما نشتهي غيرها من الملذات ، بل إن صعوبة الحصول على بعض الملذات الجمالية يسبب زيادة قيمتها في نظرنا كالأحجار الكريمة ما دامت اللذة الجمالية شخصية فلا موضع للقول أنها أقل أنانية أو نفعية..” ،

و المنفعة التي ركز عليها (سانتيانا ) هي منفعة اقتصادية تتمثل في الشراء و الاقتناء واشتهاء الملذات الجمالية فالعلاقة بـين الإحساس باللذة والاستمتاع بشيء ما والشعور برغبة الامتلاك متلازمان وفي الحياة مـن الأمثلة على ذلك الكثير. وقد وجه ) سنتيانا ( النقد لما ذهب إليه (كانت) عن ( كلية وعمومية الـذوق الجمـالي ) وكان الأخير يذهب في بحثه عن الجمال الذي ضمنه مؤلفه القيم (( نقد ملكة الحكم )) “.. إلـى أن الأحكام الجمالية تتسم بالعمومية والكلية لأن المرء حين يحكم على شيء مـا بالجمـال إنما يعنى بذلك ( الجمال بالذات ) أو أن هذا الشيء ( جميل في ذاته ) وأن هذا الجمال هو ما يراه الآخرون كذلك ، ولكن هل من المعقول أن يصبح الحكم على الجميل واحدا وكليا وعاما عند جميع الناس..” ، فـ(سنتيانا ) يرى” .. أن الواقع يشهد بعكس ذلك فالأذواق تختلـف تماما من شخص لآخر ، كما تختلف في الشخص الواحد من مرحلة لأخرى وهكذا، فكيف يتسنى لنا القول بوحدة الذوق العام عند جميع الناس أنه لو صح ذلك لصـارت الأحكـام الجمالية مطلقة عامة، وهي في الواقع غير ذلك، لأنها نسبية فردية، خاصة ..” فيرى أنه ” .. لا يوجد اتفاق كبير على الأمور الجمالية ، والنـزر الضـئيل مـن الاتفاق الذي نجده بين الناس إنما يقوم على تشابههم في الأصل والطبيعة والظروف هـذا، فيقول (سانتيانا) :

” ..أن البعض يضع الفن في مستوى أدنى بكثير من مستويات العلم أو الدين أو الأخلاق أو الفلسفة ، وهؤلاء يتناسون أن الفن يزيد من ثراء تجارنا الباطنية و أن الكشف عن الجمال هو أكبر دليل على إمكان تحقيق الخير الأسمى في صميم التجربة البشرية ، و الحق أن الفن هو الشكل الوحيد من أشكال الفعل الذي يستطيع أن يزودنا بالتحقق المثالي الذي لا تستطيع التجربة أن توفره لنا إلا في القليل النادر وهو اتحاد الحياة و السلام معا ، ولذا فالجهد الأخلاقي كثيرا ما يصبغ بصبغة جمالية خصوصا إذا تسنى لهذا الجهد أن يتحقق في وسط أكثر حرية ، و إذا كانت الرابطة وثيقة بين علم الجمال و علم الأخلاق لأنه يريد إخضاع القيم الجمالية للقيم الأخلاقية أو العكس فثمة تبادلا في نظره بين الأعمال الفنية و أفعال الحياة ، و لأن جمال الفن لا يمكن أن ينفصل عن إنسانية السلوك ، وهنا لا بد أن نعترف أن الجهد الأسمى الذي يبذله الإنسان لكي يحيا بمعنى الكلمة هو الجهد الذي يتجلى في خلق الجمال وتذوق الآثار الجمالية ، و إذا كان هناك معنى للعمل الشاق الذي يقوم به الإنسان طوال حياته فذلك المعنى لن ينفصل عن سعادة الاستمتاع بالانسجام ولذة الشعور بالجمال ..” .
إذن الخبرة الجمالية كما يؤكدها (سانتيانا) هي الخبرة الممتازة التي تحقق ضربا من التوافق بين مسار أفكارنا ومسار الطبيعة ، أو بين عقلنا و تجربتنا ، وهكذا تتلاقى الكلمة النهائية في كتاب (العقل و الفن ) مع الكلمة النهائية في كتاب (الإحساس بالجمال ) ما دام انبثاق الفن ابتداء من الغرائز إنما هو المعيار الصحيح لنجاح الطبيعة وسعادة الإنسان، “فالجمال المدرك في الطبيعة لا يقتضي من الإنسان ممارسة دائبة بل هو إدراك مباشر مثله مثل الإدراك العادي للأشياء والموجودات، التي ستتجلى حقائقها فيزيائيا، أما إحساس الإنسان بالجمال فلا يرتقي إلا بواسطة الفن، كما لا يدرك الواقع إلا بواسطة العلم..”.

ويرى( جورج سانتيانا) ” ..أن الجمال لا يمكن أن يوجد مستقلا بعيدا عن إحساس الإنسان الذي لابد أن يكون مصحوبا بإدراك وبحكم نقدي أو بفعل تفضيل، فنحن لا نفضل الأشياء لأنها تنطوي على جمال معين، بل إن جمال الأشياء وقيمتها هو انعكاس لتفضيلنا إياها..” .
ومن خلال ما تقدم في هذا الموجز الذي عرضناه عن مواقف فلسفة (سانتيانا) في علم الجمال فقد استطاع على قدر كبير إن يقدم جوابا حول تلك الإشكالية الجمالية مؤكدا على أهمية الذات من جهة كونها تمثل الإحساس بالجمال والتذوق ومصدر القيمة الجمالية وأهمية الموضوع أي كان في العملية الجمالية وتحقيق الوعي الجمالي من جهة أخرى، فالتوجه الجديد الذي طرحه (سانتيانا) في دراساته الجمالية، تمركز حول أهمية البعد الجمالي الذي يكمن بمدى معرفتنا وإحساسنا بالوعي الجمالي والذي يشير إلى الشعور بالقيم الجمالية بما هي كذلك، مستقلة عن الأخلاق أو الاقتصاد أو الدين أو السياسة أو عن أي من الارتباطات المألوفة، ويعبر هذا الاتجاه الأنف الذكر عن فكرة جوهرية وهي أهمية قيمة الفرد و انجازه الشخصي وأفضلية كل ذلك في الجمالية الاصطلاح الشامل ومن خلال (الإحساس بالجمال).
_______________________

*(جورج سانتيانا) هو(جورج أوجستين نيكولاس رويز دي سانتيانا)، فيلسوف، وكاتب، وشاعر وروائي اسباني ولد في مدريد عام 1863 ثم هاجرة عائلته إلى أمريكا عام 1872، و هناك تلقى تعليمه وعمل في الولايات المتحدة فترة طويلة من حياته، إلا أنه لم يتخل قط عن أصوله اللاتينية وجذوره الأوربية.
حيث درس في المدرسة اللاتينية ، ثم في جامعة (هارفرد) التي تخرج فيها بتفوق عام 1886. بعد عامين قضاهما في جامعة (برلين) عاد إلى جامعة (هارفرد) لاستكمال الدكتوراه، وصار عضواً في هيئتها التدريسية عام 1889. ومع إقامته في أمريكا إلا انه لم ينقطع عن زيارة بلاده (إسبانيا) وبعض دول أوربا والشرق، وبعد وفاة والدته في أثناء زيارة لإسبانيا، وعلى الرغم من العروض المغرية من جامعته قرر البقاء في أوربا ولم يذهب إلى (أمريكا ) نهائيا، كما انه رفض أيضا عرضا للعمل في جامعة (أكسفورد)، وتفرغ للتأمل والتأليف، واستقر في روما بدءاً من عام 1924حتى وفاته عام 1952.

مع أن الإسبانية كانت لغة (جورج سانتيانا) الأم إلا أنه كتب كامل إنتاجه ، وأبرز أثاره الفلسفية والفكرية باللغة الإنكليزية التي قدمها للبشرية إلى جانب أشعاره ذات الطابع الفلسفي، وكتبه في المجمل تضم أهم الأفكار التي جمعها خلال اهتمامه بنظرية علم الجمال وتاريخها وأهمية تنظيم الحقائق النقدية المعروفة ووضعها في شكل مذهب موحد مستلهما في ذلك المذهب الطبيعي في علم النفس، وكان أول ما نشره مجموعة شعرية بعنوان ( سونيتات وأشعار أخرى عام 1894) ، ثم كتابه تحت عنوان (الإحساس بالجمال – 1896) حيث يعتبر هذا الكتاب الإنجاز الأهم في هذه الحقبة الدراسية في علم الجمال، وبعده إلف كتاب ( تفاسير في الشعر والدين – 1900( ثم كتابه (حياة العقل- 1906) أعقبه كتاب بمجلدين بعنوان (ثلاثة شعراء فلاسفة: لوكريتيوس و دانتي وغوته – 1910 ) وكتاب (رياح العقيدة – 1913) ناقش فيه شعر( شِلي وفلسفة برغسون و رَسل) ثم إلف كتاب ( الريبة والإيمان عام 1923) وهذا الكتاب هو عبارة عن محور فكر سانتيانا في حقبة ما بين الحربين العالميتين، كما وألف كتاب في أربعة مجلدات (أنواع الوجود 1928 ولغاية1940( كما وقد كتب (جورج سانتيانا) رواية واحدة هي (البيوريتاني الأخير1935 ) كما وألف سيرته الذاتية في أشخاص وأمكنة في ثلاثة مجلدات للفترة (1944ـ1953)، كما وألف كتابا تحليلا عن دور الإنسان والتناقضات في المجتمع الأمريكي تحت عنوان (الهيمنة والقوة 1951)، وقد كان (جورج سانتيانا) يعمل في ترجمة شعر الإيطالي ( لورِنزو دي مديتشي ) قبيل وفاته في روما حيث دفن في مقبرتها الإسبانية.

(*) فؤاد الكنجي شاعرو فنان تشكيلي من العراق.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق