الخميس، 21 يوليو 2016

إيميل سيوران في «مثالب الولادة»: الفيلسوف الباهر في الحكمة

هاشم شفيق

تاريخ النشر: 19-12-2015


إيميل سيوران، هو آخر الفلاسفة المتشائمين العظام، وأكثرهم تأثيراً وحفراً في الذات الإنسانية وفي حضارتها الآلية السريعة، طاردة التأمل الإنساني وهدأة الروح والأعماق لدى الكائن الحديث المتعصرن، مع الأفكار الجديدة لعالم الرأسمال وعالم السوق والمتسق، شاء أم أبى، مع التطوّر الهائل للأتمتة وللمنظومة التكنولوجية الصاعدة باتجاه مستقبل سريع للآلة العصرية.

اختزل إيميل سيوران فلسفات العالم الحديث والقديم بفلسفته هو، فلسفته اليومية المُستمدّة ومضتها من الأحوال والمقامات الإنسانية بشتى صنوفها وتنوّعها، وكذلك بشتى تحولاتها البشرية وتفاصيلها الحديثة، اليومية والتاريخية، منذ نشأة الكون عبر الوعي الإنساني، بادئاً بفلاسفة اليونان الشهيرين ومثيري الجدل حول النزعات الإنسانية ومصيرها الآيل إلى الموت والنهاية، من أمثال سقراط وأفلاطون وأرسطو الذين بنوا اللبنات الأولى لعالم الديمقراطيات والتساؤلات حول قيم الماهية والوجود، ووضعوا أسئلة حول الولادة والموت وحول الحقيقة أين تكون وما هو دور الإنسان فيها، مروراً بالهراطقة ومدارس الديالكتيك في البانتيون التي كانت تقام ويأتي كل فيلسوف ليقول ما عنده من رؤى وأفكار حول الحياة والإنسان والعالم.

ليس هناك فيلسوف ومؤرخ وعالم اجتماع، ذاع صيته، أو كان مغموراً، لم يسلط سيوران ضوءه الحاد والكاشف عليه، مفنداً براعات الجميع وناقداً الآخرين، حتى نيتشه معلمه الأمثل لم يسلم من نقد مقولاته ورؤاه الشذرية المتنوّرة، القاسية والأليمة واللامعة والمضيفة من ناحية أخرى.

كم أحببت أن أكتب عن هذا الفيلسوف الذي وجدته الأقرب إلى حالي وتصوّري ورؤيتي تجاه العالم التي لم تكن رؤية متشائمة بعمق، ولكنها تكاد أنْ تكون رمادية، ماسيّة، حول مفهوم الحياة والوجود والكون وحول معنى الذات العليا ومُسيّر الكون الذي يناقشه سيوران في الصغيرة والكبيرة، كفيلسوف لديه الحق في الجدل حتى مع خالقه وخالق هذه العوالم والأكوان

لماذا سيوران؟

الفيلسوف إيميل سيوران، الفرنسي من أصل رومانيّ، تشبّع، وهذه وجهة نظر شخصية بحتة، بفلسفة الشارع، فلسفة اليومي، هذه الفلسفة التي جعلها لأول مرة في تاريخ الفلسفة الكونية، فلسفة مقبولة إلى حدٍّ ما لدى الجميع، كونها نازحة من فلسفة الإنسان نفسه، من يومياته وتاريخه وتكوينه وأسئلته اليومية حول مصيره وحياته، البدء والتكوين، الولادة والحياة والموت، العيش والعمل ومشاركة الإنسان الآخر، الدين والعلم والأفكار التي صاحبت الإنسان منذ ولادته، تحوّلات الطبيعة والكون وتطور البشرية ونزعة الأنا والاستحواذ، وظهور التوحيد الذي تجسّد في أديان ثلاثة، ظهور التاريخ منذ هيروديت وقبله، نشأة المدن والدول والأقوام والترحال الأبدي للأقوام، تمازج الثقافات وتعدّدها وتعدّد الهويات ولغاتها وملازمة الشعر والفن والخيال للعقل الإنساني، وغيرها من مفاهيم وتصورّات وأفكار ومنظومات وعوالم ويوتوبيات وأساطير وملاحم وهرطقات، وحروب ومنازعات واندثار عوالم وكائنات ومدن وسلالات، وتحوّلات أركيولوجية وميثولوجية، وأبستمولوجيات وفيلولوجيات وثيوقراطيات ومفاهيم فلسفية أخرى، كُتب لها أن تصبح أمثولات وكيانات، وغيرها من علوم أنطولوجية ، كلها تمرّ من تحت قلم الفيلسوف الأمثل إيميل سيوران، الذي كتب الكثير حول كل هذه القضايا بروح شاعرية، يمرح فيها الخيال ليضيء الأفكار الجميلة المطعّمة بلغة الشعر والمخيال والفن، ليصبّها في فكرة مستخلصة، ستُصبح مع مرور الأيام حكمة ولقية وشذرة رؤيوية تقي الإنسان الحديث شرور العالم الحديث.

انطلاقاً من هذه الرؤية أحببت هذا الفيلسوف الشاعري، المتمرّد والصادق مع عمله الرؤيوي، ومع ما يكتب من رؤى فلسفية تمس مباشرة قاع الإنسان، فتحس أنه يتحدث عنك، عن حياتك وسؤالك أنت ومشكلتك الوجودية أنت، وعن نوع حياتك وتأطرها في أفق هذا الكون والعالم.

فلاسفة كبار تحدثوا عن الوجود والعدم وعن غاية الإنسان وهدفه على الأرض، بدءاً من دي كارت، وماركس، وسارتر وكامو وميرلو بونتي وسيمون دي بوفوار، وهيدغر ونيتشة، لكن سيوران جاء مختلفاً، ليكون هو، ذلك الفيلسوف المختزل للرؤى والافكار والتصورات، مختزل أقرب أساتذته إلى عالمه الشكاك غير اليقيني، من أمثال هيدغر ونيتشة ودي كارت وشابنهاور.

عطفاً على ما مرّ أعلاه، فمناسبة هذا الاستطراد هو صدور كتاب جديد بالعربية لإيميل سيوران بعنوان «مثالب الولادة» وهو كتاب راق في طرح مفهومته النظرية. وعنوان الكتاب يوضح على نحو تام ما يقصده سيوران من وراء ذلك. وهو مليء وحافل ومترع بالأمثولات الفلسفية والتواريخ والأسماء العظيمة التي بنت التاريخ ووضعت من ثم التسلسل الكرونولوجي للحياة الإنسانية على هذا الكوكب.

ميزة الكتاب هذا، تأتي أيضاً من مترجمه اللامع الشاعر التونسي آدم فتحي، الذي ما عَتمَ يقدم المزيد من عالم سيوران بلغة جذابة وفاتنة ودقيقة وحريصة على إيصال الفكرة والمعلومة والشاهد الزمني والتاريخي، بهوامشه وشروحه الثرية، التي خلت من التعاضل اللغوي والاعتياص البنيوي اللذين يشوبان بعض الترجمات عن الفرنسية، وبخاصة حقل الفلسفة بشكل عام.

لقد ترجم آدم فتحي سيوران بلغة سلسة، منعت مدوّنات سيوران من أن تصبح فلسفة جافة، خشنة، وفيها تعمية وإبهام في مشكلات الترجمة وفنها ، وما أكثرها في عالمنا العربي.
حتى الآن ترجم آدم فتحي العديد من كتب ومفاهيم ويوميات سيوران الفلسفية التنويرية الذكية التي تلاحق مصير الإنسان وحياته العصرية

إذاً «مثالب الولادة» يأتي مُكمِّلاً لمشروع سيوران الكبير، ليخالف فيه فلاسفة سبقوه، أو ليؤيد بعضاً ممن أحبّهم، والشذرة الفلسفية عموماً هي من ابتكار نيتشة، لكن تلميذه أضفى عليها المزيد من الشعاع و الابتكار الذاتي السيوراني. ومضة سيوران صادمة، متألقة وجديدة، بفعل عمق ما يحمله كاتبها من خيال وتفرّد وخصوصية استثنائية، وكذلك فيما يحمله من مضامين ومعارف متطورة وحديثة، تلائم زمانها ومكانها اللذين كتبت فيهما، وكذلك هو الأمر بخصوص الشاعرية التي وظف هايدغر بعضا من أحلامها حول أشعار شاعره الأثير هولدرلن، دون أن ننسى جان بول سارتر الذي كتب مقدمة لكتاب جان جينيه الروائي والمسرحي الفرنسي المتمرّد، وكان هو نفسه، أي سارتر، كاتبا مسرحيا، غير أنّ سيوران يأتي بلهجة فلسفية جديدة وأنيقة، فيها الكثير من معاناة البشرية وأسئلتها الكثيرة التي تحاصر عالمها المعاصر والحديث.

يُقسّم سيوران كتابه هذا، إلى وحدات فكرية وفلسفية ومعرفية، كل وحدة لها منظومتها التنويرية وهدفها في إضاءة محمولها الجمالي والفلسفي، وتبيان ما يسعى إليه من رؤيا كلية، تخص الآخر، لتضيء وعيه الإنساني، وتحاول أن توصل له المغزى والمرام والدلالة، علها تعينه في تخطي مصاعبه اليومية، الوجودية والكونية.
ففي الوحدة الأولى على سبيل المثال، يركز سيوران على قضية الولادة والوجود وعوائق الحياة أمام هذا الوجود وأمام الرحم الذي جاء بالكائن إلى هذا الكون، لتولد معه كل مزاياه السلبية والإيجابية، بينما في الوحدة الثالثة يذهب إلى معاني الحيرة والخيبة والتعبّد في الديانات عامة وانهاك الوعي البشري، مستشهداً بكتاب الكابالا اليهودي والقديسة تيريزا الأفيلية وورد زورث وكولريدج و «فينومينولوجيا الروح» ليهغل وغيرهم من عمالقة الفن والأدب والفلسفة.

بينما في الوحدة المعرفية السادسة يتوقف عند علم النفس، والمصائب اليومية التي تحدث للإنسان مثل الكوابيس والأرق والشك والغيرة وتخبط الذات والأنا، متوقّفاً عند سيغموند فرويد وبعض الأعمال الشكسبيرية والكتب البوذية، مروراً بفكرة «التبديوم فيتايي» والتي تعني التعب من الحياة والسأم منها.
في الوحدة المعرفية الأخيرة نجده، يسلط الضوء على مفهومي الحياة والموت، والتناقض الذي يعيشه الإنسان بين هذين القطبين، وهو في هذه الوحدة لا يبدي إلا التشاؤم وإظهار فكرة اللا جدوى من الوجود بشكل عام.

وفق هذا المساق، يذهب إيميل سيوران ليفكك بطريقته الخاصة، وبعيداً عن الفيلسوف دريدا عوالم الإنسان في كتابه هذا، مثل الوحدة، العزلة، الكراهية، سيادة الآخر، انحراف الأنا، الذات ومشاغلها، الأرق، النوم، الوقت، الزمن ومفهومه اليومي لدى الإنسان، دامجاً حياته بحياة الآخرين ليستخلص عبر كل هذه المفاهيم، وهذه الشذرات الفلسفية التي يطرحها هو كأفكار جديدة لفلسفته هو، ونحن هنا قد لا نشاطره الرأي في الكثير من الآراء التي يطرحها، وقد نتقاطع مع البعض الآخر منها كون «على الأرض ما يستحق الحياة» كما قال محمود درويش يوماً.

مختارات من ومضاته الفلسفية 

"نحن لا نركض نحو الموت، نحن نفرّ من كارثة الولادة، نتخبط مثل ناجين يحاولون نسيانها".
"اقترفت كل الجرائم باستثناء أن أكون أباً".
"التواصل الحقيقي بين الكائنات، لا يتم إلا عن طريق الحضور الصامت، عن طريق اللا تواصل الظاهر، عن طريق التبادل الملغز، والخالي من الكلام، الشبيه بالصلاة الباطنية".
"كلما كان أحدهم مغموراً بالمواهب، قلّ تطوّره على الصعيد الروحي، الموهبة عقبة أمام الحياة الباطنية".
"أن تعيش، يعني أن تتقهقر".
"الطريقة الوحيدة التي تتيح للمرء حماية عزلته تتمثل في أنْ يجرح الجميع، بادئاً بالذين يحبّهم".
"كلّ صداقة هي مأساة غير ظاهرة، سلسلة من الجراح غير المرئية".


إيميل سيوران: "مثالب الولادة"
ترجمة ـ آدم فتحي ـ دار الجمل ـ بيروت 2015
263 صفحة

هاشم شفيق

 ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق