الجمعة، 22 يوليو 2016

هيدجر: جدل الفن والحقيقة

مجاهد عبد المنعم مجاهد 

لقد غرق الإنسان في عالم الأشياء .. نسي نفسه وسلبته الأشياء نفسه . نسي حقيقة جوهره، وفقد إنسانيته، وفقد تواصله الإنساني، وانفصل الإنسان عن الإنسان، ولم يعد الإنسان إنسانا، وطرد من ذاته فأصبح اللامأوي هو سكناه وهكذا اغترب الإنسان .. ومارتن هيدجر يريد لهذا الإنسان أن يعود الي جوهره وإنسانيته وحدد رسالته ووسيلته في هذا وهي أن نحل امتلاك الإنسان للأشياء بدل أمتلاك الأشياء للإنسان .. والفن هو احدي الوسائل التي يلجأ اليها الإنسان لكي يتحرر من رق الأشياء ..

في عالم الأشياء الجزئية نكون في العالم المزيف وعندما نصل الي الكل القائم علي الحقيقة والحق نتحرر من هذا العالم الجزئي المتشيء  ونصل الي ذروة الحرية ويتمكن الإنسان من أن يجد ماواه  الحق بدل أن يكون المطرود دوما .. فالمهم تاسيس الحقيقة وهذا التأسيس هو الوجود الحق وهذا الوجود الحق هو موضوع الفن ورسالته.

ان العمل الفني عند هيدجر ليس انتاج ذاتية جزئية تكون حاضرة في أي وقت، انه بالعكس انتاج الماهية العامة للشيء .. وسط التشتت الذي تحدثه الأشياء ليستخلص الفنان الكلي والحقيقي فهو اذن يجمع المفقود . اذن في العمل الفني هناك شيء ما آخر يتجمع مع الشيء المصنوع ... اذن جوهر الفن هو أن تكون به حركة لكن هذه الحركة لا يجب أن تكون من الشيءالي  العمل بل من العمل الي الشيء .. يجب أن يكون الاتجاه من الجوهري إلي الأشياء لنضفي عليها الجوهري بدل أن نتجه من الأشياء فنطمس الجوهري ونشيؤه .. وبهذا نصل إلي حقيقة الوجود .. ولهذا فان الفن يفتح كوة ينفذ منها الوجود وتنفذ منها الحقيقة . فالعمل الفني يفتح بطريقته الطريق لوجود الموجودات وهذا الكشف يحدث في العمل .. في العمل الفني فان حقيقة ما هو موجود تعمل . ان الفن هو الحقيقة وقد أطلقت نفسها للعمل.

ان الفن اذا عبر عن الجزئي والحسي والسطحي غرق في التشيؤ وعشنا حالة الاغتراب وبعدنا عن رسالته وجوهره ونكون ازاء فن مزيف .. وعلي هذا ينص هيدجر علي أن الفن يعمل شموليا وكليا .. وبهذه الشمولية والكلية يقضي علي الاغتراب ويقضي علي الحالة الزائفة للأشياء ويحدث انفتاح الحقيقة وبانفتاح عالم فان كل الأشياء تكتسب ابتعادها ودنوها، مداها ومحدودياتها، وفيه تتجمع المسافات ... ان العمل الفني يفتح المسافة التي هي تحرير والفن هو الاحتفاظ الخلاق بالحقيقة في العمل . فالفن هو صيرورة وحدوث الحقيقة .. وهذا الحدوث هو فعل .. ان الفن صراع حتي تبزغ الحقيقة .. ذلك أن طبيعة الحقيقة هي الصراع الأولي الذي فيه يجري كسب ذلك المركز المفتوح .. والعمل هو خوض المعركة حيث يجري كسب لا تحجب الموجودات ككل .. ان عالم الأشياء حجاب والحقيقة مختفية خلف الحجاب ولابد من ازاحة حجاب الأشياء حتي تظهر فالحقيقة لا تمثل الا كصراع بين النور والاخفاء في التعارض بين العالم والأرض .. العالم رمز التكشف والأرض رمز التخفي .. والفن عند هيدجر بهذا كما تصوره الفنان دورر : " في الحقيقة الفن يكمن خفيا في الطبيعة، ومن ينتزعه منها يمتلكه ".

ان هيدجر شأن فلاسفة الجمال العظام يحدد الفن برسالته حيث أن ماهيته قائمة في وظيفته ولهذا يقول : " ان العمل الفني لا يكون له تأثير فعلي كعمل الا عندما نبعد أنفسنا عن روتيننا اليومي ونتحرك الي ما ينكشف في العمل حتي يجعل طبيعتنا الخاصة تتخذ لها مكانة في حقيقة ما هو موجود " .. اذن هو انقاذ للإنسان للخروج من حالة اغترابه .. وهذا يعني ان يسكن الإنسان بشاعرية علي الأرض .. فليست الشاعرية تحليقا ولكنها تأسيس الجوهري . فالعودة الي الجوهري والينبوع والبيت والوطن هي عودة الي الإنسان .. وهذه العودة هي عودة شاعرية لأن الشعر هو تاسيس لانسانية الإنسان .. وطبيعة الفن كله هي الشعر وطبيعة الشعر هي تاسيس الحقيقة والتأسيس لا يكون فعليا الا في الحفاظ والحفاظ هو اظهار الوجود بجعله يوجد .. ولهذا فانفتاح الوجود هو جوهر الحقيقة وجوهر الفن .. وبهذا تظهر الحرية .. وبهذا تمتلكنا الحرية لا أن نمتلكها ..

ويحذرنا هيدجر من الخبرة الجمالية فالخبرة عنده هي العنصر الذي فيه يموت الفن .. فالخبرة ذاتية والذاتية ضد الحقيقة لأن الحقيقة كلية لأنها حقيقة الوجود الذي هو تكشف وتجاوز ولهذا فان طبيعة الفن هي هكذا : حقيقة الموجودات تطلق ذاتها في العمل الفني .. والعمل الفني يفتح المسافة التي هي تحرير وبهذا يصبح الفن كله شعراً لأن الشعر هو انفتاح الوجود وهو الذي يحمل الإنسان علي الأرض ويحمله الي السكن . بل ان الشعر هو الاعتراف الأصلي بالسكن وعندما يظهر ما هو شاعري الي النور حيئنذ فان الإنسان يسكن بإنسانية علي هذه الأرض . وكتابة الشعر ليست اساسا علة لقرح الشاعر، بل بالأحري ان كتابة الشعر هي نفسها فرح، ابتهاج، لأنه في الكتابة تتألف العودة الرئيسية الي البيت والي الوطن والي الينبوع والي الإنسان.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــ
المرجع: إبعاد الاغتراب فلسفة الفن الجميل، تأليف: مجاهد عبد المنعم مجاهد، دار الثقافة للنشر والتوزيع، صص90:87.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق