الأربعاء، 20 يوليو 2016

بوخليط والنظرية الجمالية الباشلارية

 رانية الشريف العرضاوي(*)


إنّ مشروع باشلاريات القرائي الذي يطرحه سعيد بوخليط بين يدي القارئ العربي يمكن عدّه نقلة فكرية جريئة، تقود لعوالم فلسفية ونقدية ومعرفية مختلفة تمامًا عما عُهد من كلّ الطُّروحات الفكرية المعاصرة. إنه مشروع تقديم فكر فلسفي إنساني مختلف بكل الروحانية التأمليّة التي يسعى إلى تحقيقها، وذلك تحت سقف العقلانية الباشلارية الشاعرية الفريدة. هذه (الفردانية) ليست إلا صورة لما يقدّمه الكون الإنساني الأكبر إذا ما استعان بمنحة التأمّل ضمن سياقات علمية ضاربة في العمق. لقد سعى بوخليط إلى عرض هذا الطرح مترجِمًا ومتأمِّلا ومحلِّلا الجزيئات والكليات في الأسفار التي دوّنها الفيلسوف والعالم الفيزيائي الناقد غاستون باشلار، كلّ ذلك ضمن منهجية علمية تقارب الفينومينولوجيا إلى حدٍّ كبير باعتبار باشلار ظاهرة فلسفية، وجمالية، ونقدية، وأدبية تستحق التأمّل والخضوع للبحث والقراءة العلمية.

يأتي هذا العمل الرابع لبوخليط ضمن سلسلة (باشلاريات) والتي تبنّى إخراجها للقارئ العربي؛ ليرسم بذلك أفقًا اصطلاحيًّا وفهميًّا يبنيه بوخليط من خلال التقصّي والتحليل لعدد من مؤلفات باشلار. هذا التقصّي يطّرح بين يدي القارئ ضمن أحد عشر فصلا، يغطّي كلّ فصل منها جانبًا عميقًا من الفَهم الجماليّ الذي تطرحه النظريّة الباشلاريّة - إن صح التعبير- معلنًا بذلك ميلادًا للتواصل بين فكر باشلار وفكر القارئ العربي، الذي سيجد فيه عالمًا رحبًا يسوسه التأمّل في الكون الدّاخلي (الإنسان) والخارجي (العالم). عبر قنوات الرُّوح المعرفيّة العاليّة عند باشلار، استطاع بوخليط الانتقال بين المؤلّفات الباشلارية المتنوعة مُسلِّطًا الضّوء على مُعالجاتها لعدد من الشعراء الغربييّن، هذه المؤلّفات التي طبّق فيها باشلار أسلوبه النقديّ الحلميّ الجديد الذي أفشى بعمق تلبّس المنهج الفينومينولوجي Phenomenological method للقلم الباشلاريّ، غير أنّ هذا العمق ضرب في الأنا الباشلارية المخالفة لكل مألوف؛ فكانت فينومينولوجيا حالمة تأمليّة رسَم باشلار ملامحَها بكل إتقان، ملامحًا برزت عبرها آراؤه وأفكاره حول قراءته العناصر الكونية Cosmological elements الأربعة: (النار، والماء، والأرض والهواء) في النتاج الأدبي البشري، موظّفًا الأسطورة واللغة والصورة الشعريّة. هذا التلبّس الذي انتحله باشلار لقراءة الظواهر البسيطة والمعقّدة حولنا هو ما جعل المُخَرج الباشلاريّ مُخرَجًا مختلفًا بكلّ طروحاته وقراءاته للأدباء أمثال لوتريمان ومالارميه وغيرهما من المبدعين البارعين. فكانت الّلحظة الحميمية التي جمعت بين شعرية الشعراء والمبدعين من جهة، وشعرية الناقد من جهة أخرى، وهو ما أسفر عن كتابة جمالية فلسفية شعرية متكاثفة، نجح بوخليط، رغم صعوبة المهمّة، في تقديمها للقارئ العربي عبر فصول هذا الكتاب في أسلوب علميّ سلس وواضح.

لقد سعى باشلار سعيًا حثيثًا لتأسيس نظرية جديدة للخيال، وبناءً يتناول النتاج الأدبي، خاصّة الشعريّ منه، بطريقة مختلفة تظهر الوجه الجمالي الأعمق للنصّ مهما كانت هُويتّه ومهما تباين زمنه. هذه الجماليّة هي التي ستمنح القارئ فرصة صناعة الإبداع عندما تتجسّد أمامه، فيتواصل معها مندهشًا من خلال قراءة كونه الداخلي الذي تمثّل بطريقة ما في سكنات وحركات النصّ. وعبر ارتحالات النصّ وتسلّله إلى روح القارئ يُخلَق الخيال الجديد، ويولد عالم شعري آخر به يستمر الإبداع منفلتًا من كلّ امتدادات سُلطة المؤلّف أو النصّ أو الّلحظة الإبداعيّة، هذا الانفلات هو مناط التّخليق الإبداعيّ المستمرّ والخيال الخلاّق الذي آمن باشلار بوجوده.

إنّ فكرًا رحبًا يؤسّس للتجديد ضمن بناء القراءة النقدية والجمالية للأدب والكون هو فكر يستحق الوقوف والتجريب، وهو ما نحتاجه بحقّ في الحراك العربي الثقافي اليوم. باشلار يعطينا مفاتح علمية ممنهجة لإعادة النظر في كثير من الظواهر التي حولنا، ابتداءً من الظاهرة الأدبية التي يحمل همّها المبدع، وامتدادًا إلى ظاهرة أحلام اليقظة التي نعيشها يوميًا؛ فنعي من خلالها حاضرنا، ونستشرف مستقبلنا بين كفوف ماضينا. باشلار يمنحنا فرصة جديدة لتحليل المغاليق التي أعرضنا عنها، سواء في تراثنا الأدبي أو الفلسفي، أو في نتاجنا الفكري المعاصر. إننا أمام ثورة تخيلية يمكن تقمّصها عبر متابعة السلسلة الباشلارية، ومن ثمّ محاولة تطبيقها قرائيًا أو نقديًا على كل ما توهّمنا تمام فضّه أو استحلاب كل أسراره. الشعر والفلسفة والأدب بل وكل العلوم قابلة للتجديد والتأمّل وإعادة التوليد والتخصيب، وبناء العقول القادرة على إكمال مسيرة الحضارة يقتضي النظر في الماضي عبر أدوات حديثة معاصرة، ونبذ النّبذ أو الانقطاع الذي توهم بعضهم إمكانية نجاحه بين التراث والحاضر أو بين الـ(نحن) والآخر، أو بين التقليدي والجديد.

إنّ مشروع باشلار الجمالي ليس حكرًا على الغرب أو الشرق بل هو مشروع إنساني بالمعنى الواسع لكلمة الإنسان، لا لون له ولا دين ولا جنس، وهذا ما يجعله في غاية الأهمية؛ إذ يمكن الاستفادة منه بشكل كبير في إنعاش التجديد في الفكر العربيّ، وقراءة المعرفة بصورة حديثة لا تُفقدها جماليتها أو هويتّها، وهو ما يجعلني أشدّ على يد د.سعيد بوخليط الذي تبنّى بكل إخلاص إخراج هذا المشروع إلى النور؛ ليكون كنزًا ثمينًا بين يدي القارئ العربيّ يجتلب منه أدوات معرفية جديدة تفتح له آفاقا لا حدود لها، يكون من خلالها الفهم المعاصر والعميق لكثير من الظواهر الجمالية الشعرية والفلسفية في نتاجنا الفكريّ التراثي والمعاصر. أبارك لك د. سعيد هذا الجهد، وأتمنى لك مزيدا من العمل الناجح، والسعي الموفّق، والهدف المحقّق، وأشكر لك منحي فرصة التقديم لعمل أتشوّف لرؤيته بين يدي القارئ العربيّ الجاد.


(*) أستاذة النقد الأدبي بجامعة الملك عبد العزيز بجدّة.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق