* محمد عيد إبراهيم - شاعر ومترجم من مصر
من ملف راهن القصيدة العربية
)مجلة أتارغاتيس(
)مجلة أتارغاتيس(
ليس
للشعر أن يكون إلا كلاماً، أو هو نفسه الكلام، والكلام أعلى من اللغة في لغوها مع
الفنون الأخرى. ليس للشعر أن يكون إلا كالمجنون المثابر على جنونه، فسيصادف الحكمة
في النهاية، كما يبيّن وليم بليك. هل يقول الشعر، مع مالك بن الريب “تذكّرتُ من
يبكي عليّ فلم أجد وأين مكان البُعد إلا مكانيا”، الشعر كالعنقاء، يصعد ذُرى لم
يألفها، كالمخترعات الحديثة تجاور بعضها بعضاً، ولا ينفي أحدها الآخر؛ الشعر يدخل
ناراً، ولا يخرج منها كما كان.
من هنا يغيّر الشعر جلده، تأسّياً بتقلّب الجمهور، مع الوعي بشرائح ما نزعم أنه “الجمهور”، فلم يجد الشعر سبيلاً أمامه إلا المقاومة، فحتى الشَعرة لها ظلّ، ولن يكون للشِعر أن يضيف ساقاً ميتة إلى جسد حيّ، كما قال ماياكوفسكي. وقد صار الشعر، بعد أن زال عنه غبار الإيديولوجيات، فناً خالصاً يسعى إلى الأخذ بمكنونات باطنية بل وينظر المرء ربما في خطوط يده التي يعايشها ولم يدقّق النظر فيها يوماً. ولم لا يغيّر الشعر جلده كلّ فترة، فالثعبان يعمَى لحظة تغيير جلده.
يقول سلفيو النقد إن الشعر يستعر في الماضي، ويقول حداثيو النقد إن الشعر يستعر في المستقبل، لكننا نقول ليس للشعر أن يستعر إلا بين أيدينا، الآن، بزمن الحاضر، في متعة أبيقورية أو صوفية، سواء كانت سامية أو مُسفّة. الشعر يقرّ ما لا يمرّ إلا عبر الجسد. لكن التغيير ليس غايةً في حد ذاته بل وسيلةً للتعافي من جرح شمولية الفكر أو ثيوقراطية السلطة. يتحول الشعر ضدّ نفسه أحياناً، في الحساسية والرؤية والنسيان أو تعلّم الجديد، يطرحُ دمه كما يطرح الأخطبوط حِبره، في كلّ وجهة وبالسرعة الواجبة.
يستعمل الشعر خلاصة القيم، سواء كانت دينية أم تاريخية، يستعمل الأسطورة كقناع على الحاضر المُشرِف الأليم، وقد يخلُص إلى مرحلة بين الخوف والكشف، يعي الفردوس قبل أن يُطرد منه، أو يتذكّر سباحته العمياء في عتمة الرحم، وقد يمرّ من الطفولة للشيخوخة رأساً دون أن يبالي بفتوة الشباب وأزمانه الضائعة، وقد يفتح عيوناً لانهائية كما قال نوفاليس إلى ما وراء النجوم.
إننا نعيش تحت سماء واحدة معروفة بحياة مشهودة وهي حياة لنا، يجب أن نقاوم من يبتذلون اللغة سواء من كاتب متخاذل أو أكاديميّ فجّ أو مرتزق أفكار أو صحافيّ رقيع، فهم من يجعلون اللغة بقلب واهن لا يقوم. حين يشرُع الشاعر في اصطياد العبارة يبدأ إبداع حياته، ويتأمّل في الوقت نفسه فوضاها التي هي مجرد وهم آخر.
لا يعني الشكل للشاعر، غير ما يفعله بالقصيدة، فالشكل مخزن المعرفة الذي يغترف منه الشاعر، وما يؤلّف أدوات الفنّ عنده. لكن “الشكل” ليس “صوتاً” ثابتاً، مثابراً، بيانياً، يتبلور في قصائد منفصلة، بل هو السؤال الذي يبدأ تمثّل الأهداف التي تتحقق بها شعرية القصيدة. هكذا يظلّ الشاعر، مدفوعاً ببدائيته ومفتوناً بجماليات الطبيعة، واصفاً لحظات عنفه ووحشيته كانعكاسٍ لمعاناته وظنونه، من ناتج أننا فقدنا اليوم لمستنا مع الجانب البدائيّ من الطبيعة.
هكذا الشعر، كلّما كُشفت أمامنا طرق غمُضت أخرى، فهو يُعمَّر داخل نطاق موسيقيّ لا يُسمَع أو يُرى، يُحرّك أجسامنا من لحظة لأخرى، مثل ماء دافق بنهر. الشعر يُرينا، كأيّ كائن آخر، كيف نعترف بأنفسنا جزءاً من هذا العالم ومادّة من قوى الطبيعة. لكن الشعراء يدركون أن العنف كامن تحت سطح قوة الطبيعة، وهم لا يخفون هذا العنف بل يستحضرونه على علمٍ بأوصافه، بدرجة حساسية وفهم عاطفة تفيد في إثارة المشاعر دون قمع وعي الآخر. مع كلّ شاعر يُشكّل أو حتى يُشوّه، اللغة والكلمات والصور، النبْر والإيقاع، الموسيقى أو الإيهام بموسيقى، ستظلّ طبلة الساحر ترافقه طيلة رحلته إلى المجهول في عين القصيدة.
كلّ قصيدة، عند الشاعر، هي كل شيء ولا شيء في الوقت نفسه، دائرة مكتملة، لكنها ليست نهائية، درجة الصفر للكتابة، حرف الألف بالأبجدية، رحلة الأعمى إلى الكهف بالماضي على ظهره والواقع يُلاحق كعبيه. تجسّد القصيدة رحلة العواء داخل الكائن بحثاً عن المعرفة. نجهل مسار الرحلة، كلّ شيء محتمل، فالدرب من دون ذاكرة، دون سابق معرفة، دون أدنى اتجاه.
الشعر بذرة يشطأُ منها النبات ليصبح فيما بعد جنة عدن، ليقضم آدم تفاحة المعرفة التي تكشف عريه، فيستبين وعيه بذاته، بقوته، وبالشكل مرّة واحدة. كأنما الشعر مبدأ الخلق في الكون. لكن الكون ليس كمثله شيء، فهو أشبه بالعنكبوت، أو “عديم التشكّل”، كما قال جورج باتاي. هكذا يجب أن يظلّ الشعر.
وليس لشاعر أن يدّعي الخلود، فكلّ امرئ يصحو من النوم ليموت، وكلّ شجرة تُضحّي بنفسها وهي تثمر إلى أن تتعفّن ثم تُحرق أو تُجزّ، وكلّ امرأة تدور حول رجل أو رجل يقع على امرأة إلا وفي خَلَده الخلود، لكن الجميع إلى زوال في حركة إلهية مطّردة تنفي القديم نحو الجديد الذي سيصبح قديماً ذات يوم مستقبلاً، كأنه “ماضي الأيام الآتية” كما يقول أُنسي الحاج.
لكلّ رِدح من الزمان بذور، ولكلّ شريحة جمهور مبتغاها، فمن ينشُد الغامض يجده، ومن ينشُد الواضح يعثر على أثره، هناك القصيد البسيط المباشر، وهناك المركّب المتعقد أو القصير المكثّف أو الطويل الملحميّ، كلّه في تجاور ما يؤكّد جناس البشر مهما تباينت ألوانهم واختلفت مشاربهم، حيث لا تشذّ المشاعر أو تعمى القلوب التي في الصدور عما تريد، هو الشعر “إن يشا شئتُ، وإن شئتُ يشا”، كما يفرض الحلاّج الصليب.
من هنا يغيّر الشعر جلده، تأسّياً بتقلّب الجمهور، مع الوعي بشرائح ما نزعم أنه “الجمهور”، فلم يجد الشعر سبيلاً أمامه إلا المقاومة، فحتى الشَعرة لها ظلّ، ولن يكون للشِعر أن يضيف ساقاً ميتة إلى جسد حيّ، كما قال ماياكوفسكي. وقد صار الشعر، بعد أن زال عنه غبار الإيديولوجيات، فناً خالصاً يسعى إلى الأخذ بمكنونات باطنية بل وينظر المرء ربما في خطوط يده التي يعايشها ولم يدقّق النظر فيها يوماً. ولم لا يغيّر الشعر جلده كلّ فترة، فالثعبان يعمَى لحظة تغيير جلده.
يقول سلفيو النقد إن الشعر يستعر في الماضي، ويقول حداثيو النقد إن الشعر يستعر في المستقبل، لكننا نقول ليس للشعر أن يستعر إلا بين أيدينا، الآن، بزمن الحاضر، في متعة أبيقورية أو صوفية، سواء كانت سامية أو مُسفّة. الشعر يقرّ ما لا يمرّ إلا عبر الجسد. لكن التغيير ليس غايةً في حد ذاته بل وسيلةً للتعافي من جرح شمولية الفكر أو ثيوقراطية السلطة. يتحول الشعر ضدّ نفسه أحياناً، في الحساسية والرؤية والنسيان أو تعلّم الجديد، يطرحُ دمه كما يطرح الأخطبوط حِبره، في كلّ وجهة وبالسرعة الواجبة.
يستعمل الشعر خلاصة القيم، سواء كانت دينية أم تاريخية، يستعمل الأسطورة كقناع على الحاضر المُشرِف الأليم، وقد يخلُص إلى مرحلة بين الخوف والكشف، يعي الفردوس قبل أن يُطرد منه، أو يتذكّر سباحته العمياء في عتمة الرحم، وقد يمرّ من الطفولة للشيخوخة رأساً دون أن يبالي بفتوة الشباب وأزمانه الضائعة، وقد يفتح عيوناً لانهائية كما قال نوفاليس إلى ما وراء النجوم.
إننا نعيش تحت سماء واحدة معروفة بحياة مشهودة وهي حياة لنا، يجب أن نقاوم من يبتذلون اللغة سواء من كاتب متخاذل أو أكاديميّ فجّ أو مرتزق أفكار أو صحافيّ رقيع، فهم من يجعلون اللغة بقلب واهن لا يقوم. حين يشرُع الشاعر في اصطياد العبارة يبدأ إبداع حياته، ويتأمّل في الوقت نفسه فوضاها التي هي مجرد وهم آخر.
لا يعني الشكل للشاعر، غير ما يفعله بالقصيدة، فالشكل مخزن المعرفة الذي يغترف منه الشاعر، وما يؤلّف أدوات الفنّ عنده. لكن “الشكل” ليس “صوتاً” ثابتاً، مثابراً، بيانياً، يتبلور في قصائد منفصلة، بل هو السؤال الذي يبدأ تمثّل الأهداف التي تتحقق بها شعرية القصيدة. هكذا يظلّ الشاعر، مدفوعاً ببدائيته ومفتوناً بجماليات الطبيعة، واصفاً لحظات عنفه ووحشيته كانعكاسٍ لمعاناته وظنونه، من ناتج أننا فقدنا اليوم لمستنا مع الجانب البدائيّ من الطبيعة.
هكذا الشعر، كلّما كُشفت أمامنا طرق غمُضت أخرى، فهو يُعمَّر داخل نطاق موسيقيّ لا يُسمَع أو يُرى، يُحرّك أجسامنا من لحظة لأخرى، مثل ماء دافق بنهر. الشعر يُرينا، كأيّ كائن آخر، كيف نعترف بأنفسنا جزءاً من هذا العالم ومادّة من قوى الطبيعة. لكن الشعراء يدركون أن العنف كامن تحت سطح قوة الطبيعة، وهم لا يخفون هذا العنف بل يستحضرونه على علمٍ بأوصافه، بدرجة حساسية وفهم عاطفة تفيد في إثارة المشاعر دون قمع وعي الآخر. مع كلّ شاعر يُشكّل أو حتى يُشوّه، اللغة والكلمات والصور، النبْر والإيقاع، الموسيقى أو الإيهام بموسيقى، ستظلّ طبلة الساحر ترافقه طيلة رحلته إلى المجهول في عين القصيدة.
كلّ قصيدة، عند الشاعر، هي كل شيء ولا شيء في الوقت نفسه، دائرة مكتملة، لكنها ليست نهائية، درجة الصفر للكتابة، حرف الألف بالأبجدية، رحلة الأعمى إلى الكهف بالماضي على ظهره والواقع يُلاحق كعبيه. تجسّد القصيدة رحلة العواء داخل الكائن بحثاً عن المعرفة. نجهل مسار الرحلة، كلّ شيء محتمل، فالدرب من دون ذاكرة، دون سابق معرفة، دون أدنى اتجاه.
الشعر بذرة يشطأُ منها النبات ليصبح فيما بعد جنة عدن، ليقضم آدم تفاحة المعرفة التي تكشف عريه، فيستبين وعيه بذاته، بقوته، وبالشكل مرّة واحدة. كأنما الشعر مبدأ الخلق في الكون. لكن الكون ليس كمثله شيء، فهو أشبه بالعنكبوت، أو “عديم التشكّل”، كما قال جورج باتاي. هكذا يجب أن يظلّ الشعر.
وليس لشاعر أن يدّعي الخلود، فكلّ امرئ يصحو من النوم ليموت، وكلّ شجرة تُضحّي بنفسها وهي تثمر إلى أن تتعفّن ثم تُحرق أو تُجزّ، وكلّ امرأة تدور حول رجل أو رجل يقع على امرأة إلا وفي خَلَده الخلود، لكن الجميع إلى زوال في حركة إلهية مطّردة تنفي القديم نحو الجديد الذي سيصبح قديماً ذات يوم مستقبلاً، كأنه “ماضي الأيام الآتية” كما يقول أُنسي الحاج.
لكلّ رِدح من الزمان بذور، ولكلّ شريحة جمهور مبتغاها، فمن ينشُد الغامض يجده، ومن ينشُد الواضح يعثر على أثره، هناك القصيد البسيط المباشر، وهناك المركّب المتعقد أو القصير المكثّف أو الطويل الملحميّ، كلّه في تجاور ما يؤكّد جناس البشر مهما تباينت ألوانهم واختلفت مشاربهم، حيث لا تشذّ المشاعر أو تعمى القلوب التي في الصدور عما تريد، هو الشعر “إن يشا شئتُ، وإن شئتُ يشا”، كما يفرض الحلاّج الصليب.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق