السبت، 30 يونيو 2018


 حوار مع إيف بونفوا: القصيدة والكلام*
ترجمة: سعيد بوخليط

تقديم : شهر شتنبر 2010،قصدت حي ''ليبيك'' في باريس،وبالضبط الشقة الصغيرة التي يشغلها إيف بونفوا منذ سنة 1950،فضاء خصصه أساسا للكتابة والقراءة.ثم يقطن منزلا آخر يتواجد في الوجهة الثانية من نفس الشارع.بعثت له الأسئلة مدونَة قبل موعدنا،لأن بونفوا يرفض المجازفة المحفوفة بالممارسة الحوارية،دون المبادرة أولا إلى إجراء تعديل ممكن.بوسعنا فهم ذلك تماما.استقبلني بحفاوة كبيرة داخل تلك الغرفة المتوهجة.كان موضوع اللقاء حقيقة بدون موضوع،فقط هي أجواء جلسة مفتوحة.أسهب بونفوا في الحديث عن صداقاته المهمة أيضا كالأدب.
*س- هل كتابة القصيدة،مثلما يدعي فرانسيس بونج Ponge،"أن تتكلم ضد الأقوال"؟
ج- بونج؟ لقد اعترضت عليه خلال فترة، لكن ربما خاصة لأني لم أفهمه جيدا.يبدو لي،أن ''تحيزه للأشياء''،يمثل انحيازا للكلمات،بحيث تمت مراعاة الأخيرة عند مستوى حديثها عن المظاهر المتعلقة بحواس الأشياء،ثم تجلياتها،التي ليست سوى مظهرها.أن ندرك الأشياء بشكل أفضل، حسب فرانسيس بونج، لن يكون إذن بشكل أكثر دقة،سوى استعمال كلمات تفهم بهذه الطريقة،أي باختصار الانقطاع إلى هذا المستوى المفهومي للغة.مشروع يعود ل مالارميه،شرعي تماما،لكن غير ماأنتظره من القصيدة : أن تستوطن فضاء وجود، واعية بمكانها ولحظتها،ما أسميه بتناهيها، ثم توظف الكلمات التي تعمق هذا النوع من التجارب،حيث المخاطرة بالوجود نفسه.أنا اليوم مهيأ للاعتقاد بأن بونج ليس على درجة من البساطة مثلما ظننت،لكن ما أتيت على الإدلاء به لكم،بخصوص نفاذ صبري وقتها يسمح لي بمقاربة سؤالكم عن"التكلم ضد الأقاويل"ثم أنحاز إلى الشيء من أجل تجديد الكلام.نعم، ينبغي ذلك، لكن أن لا يكون هذا الشيء مجرد فاكهة نعاينها وسط سلة،أو تعلمنا كيفية تمييز المذاق،لكن بواسطة الفاكهة التي سنقطفها في يوم من الأيام ثم تمكث بين زوايا ذاكرتنا لأنها تجلت خلال لحظة مهمة في حياتنا.هذا الشيء طبقا لظروف كهذه ،ليس فقط مادة مزخرفة قليلا بسرور لكنه أساسا مخاطِبا،ولكي أستحضر ذلك حسب كلماتنا ينبغي تخليصه  من دلالاته المفهومية،تلك التي تسمح بالأوصاف والتقديرات،من أجل إنتاج ماهو خارجي،وكلياني: اللاوجود. الصراع ضد الكلمات بقدر كونها مفاهيم.ثم عشقها حينما- تخلق أسماء خاصة – تستقبلنا ضمن ما سيصبح فضاء لنا.لا يتعلق الأمر بالامتناع عن أصولها التحليلية،والتي تضمن في ذاتها معارف،سواء العلوم أو من أجل الفعل،ولكن استيعاب بأنه يمكنها،إذا أدركنا توخي ذلك،وحتى مع اللامبالاة، اليقينية للمادة،تشييد مسكن،خلال بضعة أيام لاتزال أمام الإنسانية.
* س- كيف تأتى لكم الحفاظ على نظرة الطفل كما تعبرون عنها؟
ج- نعم، ذات السؤال، الذي استدعيته حقا على الفور وما أدليت به لكم، لأن هذه الفكرة المتعلقة بالشيء كمحاوِر، معناها التذكير بتجربة الطفل قبل أن يقتنع شيئا فشيئا، بالنموذج وكذا توجيه الراشدين، ثم يدرك العالم باعتباره معطى موجودا مطاوعا، قابلا للتلاعب به: باعتباره تشيؤا وليس حقيقة حية.أعتقد أن القصيدة ليست سوى صيانة لهذا الشعور بالحضور الكلي الذي يخلق سعادة،ثم أيضا جزع،"أيام خلاَّقة''.نتيجة لذلك، فالذاكرة الجوهرية قدر كونها صارت منسية، خلال هذا القرن الملازم  للتكنولوجيا،والمأخوذ بالمعارف الكمية، بحيث لا نعيش بين أشياء بل كائنات.ثم كيف نحافظ على تلك التجربة الأولى،ربما هذا،بل  إنها في اعتقادي الطريقة الأساسية،من خلال إدراك عبر ألفاظها لصوتها في ذاته،القائم عند الجانب الآخر،مع كل واحد من المدلولات التي بواسطتها يُخفي الفكر المفهومي داخله الحضور المحتمل لما تدل عليه.نصغي إلى تلك الرنّة البعيدة،وصدى  لغة واحديته، نتلقاه داخل فكرنا حسب الإيقاعات الصاعدة من الجسد،أي الحاجة،ليس إلى الامتلاك بل أن توجد،بالتالي هذا الشدو الذي أقامت بواسطته  الواقعة البشرية فوق الأرض،منذ الخطوات الأولى للغة.هذا الشدو المجدِّد للكلمات،بحيث أتمنى حقا،أن لايتوقف ولن يتوقف قط كي يلازم اللحظات المضطربة لقراراتنا الكبرى.
س-على النقيض من حداثة يمثل الواقع بالنسبة إليها اتجاها نحو''غير الممكن''(جورج باطاي)أو الهروب منه بشكل ملحٍّ جدا (السوريالية)،هل تدافعون عن قصيدة منفتحة على العالم.كيف أدركتكم هذه اللحظة؟
ج-مرورا بما أشرتم إليه للتو! لدي في الحقيقة انجذاب نحو القوة اللاذعة التي بحسبها أدرك باطاي- مثلما فعل قبل ذلك فرانتيسكو غويا Goya ضمن ماسمي ب''رسوماته سوداء"- خارج الحيز الإنساني، ليل هذه الحيوات التي تأكل بعضها البعض من أجل لاشيء، في هوّة المادة، وهذا العدم. لكن ألا يشكل الفزع من هذا الخارج،وكذا الشخص الذي نجسده،أو نظن كذلك، مجرد نتيجة لاستعمال الكلمات،التي تبحث عن معرفة الأشياء وفق تجلياتها الكمية،فإننا نخلق فورا عددا من الألغاز؟من الأفضل أن تستكشف في الكلام هذه الواقعة التي تؤسسه،وكذا الحاجة كي تقيم مع كائنات أخرى،الذين يميزون كأقارب،مجالا لمشاريع وكذا التقاسم.يستحسن وأنت على قارب وسط العاصفة عدم الانزعاج من هول الأمواج العاتية،بل تصميمك على أن هذا القارب بمثابة الكائن نفسه،الذي يجدر المحافظة عليه.تعتبر السوريالية، أساسا أندريه بروتون،الوحيدة تقريبا المندرجة ضمن هذه الجماعة،عموما بالنسبة للفكر،مثلما يعرف جيدا.أندهش حينما أسمعكم تقولون بأن السوريالية شكلت هروبا ''بكيفية مستعجلة جدا''.لم تتوقف أبدا رغبة بروتون للتدخل قصد تطوير المجتمع.لذلك بادر إلى ممارسة سعيه على المستوى السياسي الأكثر فورية،وبكثير من الوضوح،خلال حقبة كل الأوهام.هل نذكِّر ببساطة أننا نتجه مباشرة صوب الكارثة إذا لم نمنح اهتمامنا لحاجيات حياة تبقى معرفتها المفهومية و العقلانية، مقتصرة فقط على ماهو خارجي.في حين،اعتقد بروتون، بأن الحلم يحافظ للحياة على الذاكرة.
س-هل بدا لكم أن بحثكم يشكل مثالا يقتفي أثره اليوم الشعراء الشباب؟هل تنتبهون لإبداعهم؟
ج-أن يوجد عالم جديرا بالانتباه خارج ما تقوله لغة اختُزلت إلى إدراكاتها الحسية المفهومية،هو في كل الأحوال ما يشعر به بعض شعراء جيلي،من أندريه دو بوشي إلى بيير ألبيرت جوردان أو فيليب جاكوتيه أو لوي- روني دي فوري.ولأني أظن بأن الأمر يتعلق هنا بحدس أنه لاشيء يمكنه أن يكتم الأنفاس،فإني لا أشك بأنه يوجه البعض،على الأقل مع الأعمال الحديثة، ضمن طيات اهتمامات أخرى،أكثر تجليا.لكنه أمر مطروح أيضا،أن القرن الذي نعيشه صنع الكثير في الغرب،من أجل زجر أسلوب الوجود ذاك.لاتنعدم الحساسية الشعرية قط،بل هي ناشئة مع اللغة ثم تولد ثانية بين تضمينات كل خطاب،لكن النقد والتعلم،اللذين يلزمهما إبراز البراعم الجديدة ،وكذا الاهتمام بها، لامس دوما بنوع من الإفراط الأعمال بتحليل دلالتها المفترضة،مع سجالات كبيرة بخصوص هذا المستوى.من المهم أن نفهم ما يقوله نص مكتوب،يعتقد أو ينشد أحيانا قول شيء ثان :فائدة هذا البحث صنف معين من الحقيقة ،جوهري أساسا.لكن بوسعنا نسيان أن القصيدة،ليست أولا قولا،مثل باقي الاستعمالات الأخرى للكلمات،بل تمثل مشروعا تستعيد معه الأخيرة،زخمها وكذا قدرتها على الانذهال من الحقيقة الخاصة وكذا جمال الفضاء الأرضي. 
س-هل يوجد حدّ بين عملكم الشعري وما صرحتم به عبر العديد من نصوصكم المتداولة (دراسات، حوارات)؟ فماهو وضع هذه المنافذ بالنسبة المجال الشعري؟
ج-هل تقصدون الفصل،بسؤالكم عن الحدّ؟أتمنى حقا،أن لا يكون الأمر كذلك،لأنه خيانة للقصيدة، مادام يلزم عملها أن يكون كتابة وفكرا  ضمن نفس الاندفاع.تتجاوز الكتابة المقاربة المفهومية للأشياء لكن على نحو فوري يلاحظ الفكر الوضعية،قصد إبرازه لمسالك ضمن هذا الحيز بين تجليات انتُهكت سلفا ثم تمثلات لم تتم بعد  معايشتها تماما.كل ذلك في إطار ماهو شخصي تماما للقصائد،مادام أنه باستمرار بناء على علاقة أكثر فرادة مع الذات، سيمتلك الكلياني مزيدا من الحظ كي يكتشف على نحو ثان ويستطيع أن يتملَّك ثانية.القصيدة فكر،ليس من خلال وصفات تعرضها ضمن نصوص لكن حينما تتأمل في اللحظة نفسها التي أخذت شكلا.يلزم الإصغاء لهذا الفكر، هناك حيث تطويه الأعمال.لم أقصد من جانبي،الكتابة حول ألبرتو جياكوميتي أو فرانتيسكو غويا،وكذا آخرين،سوى كي أعثر ثانية على  منظورات ربما على نحو آخر،من خلال هؤلاء الشعراء، للقضايا التي تطلب منا القصيدة البث فيها.ليس، فَلْتات من الحقل الشعري !بل بالأحرى الإيحاء بأن جل أفكار مجتمع ما يلزمها أن تشغل موقعا بالنسبة له،رغم إملاءات العلم وكذا أطروحات النقاش السياسي.تبحث القصيدة عن تقويض الإيديولوجيات،والأخيرة فعالة بقدر كونها وبالا على العلاقات البشرية.
س-منذ أولى نصوصكم :(Du mouvement et de l immobilité (de Douve ;1953 إلى أحدثها (Planches courbes ; 2001) ،هل لاحظتم تطورا للكتابة لديكم؟
ج-نعم ثم لا.أعتقد بأنه يقوم لدى كل واحد منا تأهب جوهري أمام العالم، نتيجة تجارب قديمة تلعب دور المصفاة : تحضر أشياء لن نبادر للقيام بها،أو مجرد  رؤيتها،أو لا نتطلع إليها قط ،ثم على العكس كليا من ذلك، قد نتشوق نحو العثور عليها ثانية،على المستوى الأكثر فورية وحسية ،بذات قدر قيم أو اختيارات العقلي.لكن يبعث كل فعل للكتابة تأملا حول ما قمنا به،من هنا تلك الصيرورة،التي نتلمسها سواء على مستوى الكتابة وكذا الفكر.بالنسبة إلي وكذا أي شخص آخر، يتبلور هذا النوع من التطور،بحيث لا يمكنني سوى الإصغاء، ولو قليلا، لما تحدثني به كتاباتي،التي ترتضي أحيانا أفكارا لاواعية.ولأمد بعيد مهد هذا الدرس طريقه بكيفية أقول عنها مجازية،بناء على أوضاع رمزية بوسعي إعفاء نفسي من فهمها،بيد أنها  بداهات انتهت بفرض نفسها،وهو ما يشغلني أكثر فأكثر.
*هامش : poésie immédiate ;13 septembre ;2012          

الثلاثاء، 26 يونيو 2018


 اللجوء إلى أوروبا : سجال بين جان دانييل وإدغار موران *
ترجمة: سعيد بوخليط


تقديم : لقد فاقم تدفق اللاجئين على أوروبا،العداوة نحو  الهجرة.وأمام الطلقات الإنذارية الإعلامية،كان مُلِحّا الإصغاء إلى أصوات مختلفة.من هنا، جاءت هذه المحاورة بين جان دانييل وإدغار موران.
س-ميزت الدخول السياسي سلسلة متوالية من الإعلانات الحادة حول الهجرة، الاندماج، الجبهة الوطنية، الهوية الفرنسية، بل وحتى ''العِرْق".هل لازال سجال الأفكار ممكنا خارج الجدالات العنيفة والمتمركزة ذاتيا؟
*جان دانييل : من دون شك أن التلفزيون ساهم في تحول السياسة إلى فرجة، وجعل من متدخلين أبطالا سعداء تقريبا حيال تراجيكوميديا مستمرة،حتى وإن كانت المفاهيم التي أشار إليها تساؤلكم،قد بدأ الإعلان عنها منذ سنوات الثمانينات.أما فيما يخص العنف، فعندما أسمع شخصا يسمى : Alain Finkielkraut، يشتكي من اعتداءات لا تطاق، يشعرني ذلك بالذعر جراء افتقاده الذاكرة أو الثقافة.بحيث لم يكلف نفسه مجرد تخيل أن أشخاصا مثل إدغار وأنا، اختبروا حقا ذلك.أولا من طرف الشيوعيين، نتيجة تشهيرنا بالستالينية، ثم بعد ذلك الصهيونيين المتطرفين جراء مواقفنا نحو إسرائيل وفلسطين،وأخيرا في البرتغال إبان ثورة القرنفل، حينما أبلغت عني جريدة :'' l’humanité''باعتباري أحد المدمرين لوحدة اليسار.لكن،بخصوص هذه المواقف اللاذعة،أريد الإشارة، أنه قبل تطوير إدغار لعمله الكبير، فقد ارتبطت مثله تماما بهذا التقليد الشكي وكذا التركيب.أندريه جيد Gide ومونتين،ميزهما التعقد الخصب،ثم الولع بالارتياب،وكذا النزوع نحو التردد، بحيث ذهب أندريه جيد، حد قول :(( أحيانا، أتلفظ جملة، لكني لا أذهب غاية أقصى الأمر، بالقدرة على التمكن من التشكيك في الجملة التي قرعت الأولى)).والحال،يوجد جحود نحو التعقّد: بقدر إخفاقنا في تجميع كل مظاهر قضية ما، سنشعر بالتشوه.الممارسة الصحفية، التي تناهض زمنا يمهل،تفسح المجال في المقابل أمام فن الكاريكاتور،واللعنات وكذا قرارات الاتهامات. الالتزام المطلق بالوضوح كما الشأن مع مهنتنا يقود أحيانا إلى اختيار التبسيط،بمعنى تخليا عن التركيب.
*إدغار موران : يسعى الفكر المُرَكَّب،إلى معالجة قضية سياسية أو ذات راهنية بالبحث أولا في استحضار دلالتها، معيدا ربطها بسياقها الجغرافي،التاريخي، الإنساني،وأيضا تلك التي لها دلالة التجاذبات .هذا بدون شك ما ينعدم اليوم.ذكرني الاستشهاد بأندريه جيد، بمقولة ثانية :((يقول البعض، من أجل السعي لتقدم البشرية،ينبغي تغيير المجتمع.بينما يؤكد البعض الآخر، على ضرورة تغيير أنفسنا في المقام الأول.أنا،لا أعرف بأي منهما أبدأ)).أعتقد، ينبغي لهذين الحتميتين التآلف  وبأن الفكر المُرَكّب ليس ثنائيا،بل في أغلب الأحيان وفق إيقاع : "ثم /وثم".على المستوى السياسي،يعود تداخل التزاماتي،إلى أنه في الأصل، كانت مذاهب الفوضوية،والاشتراكية،والشيوعية متمازجة بشكل دقيق. لم تكن مثلا  ديكتاتورية البروليتاريا لدى ماركس، سوى وصولا إلى مجتمع بدون دولة،أي مجتمع متحرر .في تصوري،أصل المذهب الفوضوي،مراعاته الحاجة إلى الحرية وكذا استقلال الشخصية،أما أفق الاشتراكية، فأن يكون المجتمع في وضع أفضل،ثم أخيرا ينهل مصدر الشيوعية،من فكرة الأخوَّة أو الجماعة.أضيف إلى ذلك،الأصل الايكولوجي،الذي يقيم علاقتنا بالطبيعة،تطبعها الحميمة والحيوية في الآن نفسه.  
*جان دانييل :للمفارقة،أني لم أصل حقا إلى ماركس سوى بفضل مفكر معتبر لدى اليمين،أقصد ريمون آرون.فقد شكل عمله : "مراحل الفكر السوسيولوجي''،تحفة بخصوص التبسيط.من أجل اختزال التعارض الجوهري بين الاشتراكيين،والشيوعيين،فالاشتراكية،إجمالا،هي الاجتماعي،إذن تعكس المساواة في العمق،بينما تجسد الشيوعية،التقاسم وكذا غياب المِلكية.
س- يبدو من المفارق جدا أنكم استشهدتم بماركس بالإحالة على آرون بينما يعتبر جان بول سارتر،عرَّاب مجلة ''نوفيل أوبسرفاتور'' إلى جانب (بيير منديس فرانس).
*جان دانييل :نعم،لقد أصبتم.لكن سارتر،كان بمثابة فولتير،حسب دوغول ! حينما ذهبت للقائه بخصوص العدد الأول من الجريدة،خاطبني سارتر على الفور:((اطمئنوا،أعرف أنكم من أتباع كامو حتى النخاع)).لقد دافعت طويلا عن كامو في إطار عزلة كبيرة ضد أنتلجنسيا ماركسية جديدة،ودون الحديث عن احتقار البورجوازية الأدبية اليمينية.لقد وجدت مع كامو فكرا وحساسية راسختين بما يكفي كي أرتب وضعي باستمرار.حينما قال، في نهاية خطابه بمناسبة حصوله على نوبل: ((لا أتطلع إلى إعادة صياغة العالم، بل أريد الحيلولة دون  تخريبه)) ، أو عندما استشهد بسيمون فايل التي ارتبط اسمها بالحرب الاسبانية :((كل مرة نمسك فيها مسلحين باسم العدالة،فإننا نضع قدما على أرضية اللاعدالة)).بفضل كامو،أدركت قدرة  تبني مرجعية قيمية راديكالية تتصدى للعنف الممارس في حق المدنيين، حتى ولو جاء كإجراء انتقامي ضد ممارسات عنيفة سابقة.ثم حينما يقول أيضا بأنه :"إصلاحي جذري''،هذا يعني : أود الذهاب صوب أقصى حد بخصوص إصلاح ما ،قبل أن لاتصبح التسوية تلوثا. 
*إدغار موران : كنت شيوعيا، لما تعرفت على كامو،غداة الحرب،بالتالي عجزت عن استيعابه.بالنسبة إلي،هو شخص ينتمي إلى فصيلة من نعتهم هيغل ب"الأرواح الجميلة'' أو "القلوب الكبيرة"،بينما يتعلق الأمر بتدنيس يديك حينما تلامس الواقع.سأدرك فقط أهمية كامو، فيما بعد.أما عن سارتر،فقد تأثرت به فلسفيا قليلا،لاسيما دراسته حول المتخيل.لكن،على المستوى السياسي،وجدته دائما بلا قيمة.حينما كنت مقاوما فترة الاحتلال،لم يكن هناك.ثم لمَّا انفصلت عن الشيوعية الستالينية،سنة 1956،صار سارتر رفيق درب الحزب الشيوعي.بالنسبة إلي،يمثل نموذجا للبلاهة السياسية .أخيرا،فيما يتعلق بريمون آرون،انطوى بالتأكيد عمله :"أفيون المثقفين''،على مضامين رصينة، لكن هو نفسه دخَّن أفيون السلطة بمخالطته الوزراء وكتابته على صفحات جريدة ''لوفيغارو''….
س- في وقت يغازل كثير من المثقفين اليمين وقد فقدوا ثقتهم في اليسار،لازلتما معا تلتمسان باستمرار خطى اليسار؟
*جان دانييل : إذا أردت خلال هذه اللحظة التأكيد على أني يساري دائما،ثم توخيت الاعتراض على من غادروا اليسار،باعتباره مجرد موضة أو رداء ،فاليسار بالنسبة إلي،مفعم بطموح نحو العدالة،بل أقول،إنه ''عاطفي".نراكم حنينا قياسا لأزمنة الوفاء، بالتطلع إلى غد أفضل.اليوم،نشاهد عددا غير مسبوق من الأشخاص يميزهم إحباط بئيس،ثم نفترض فيهم منحنا الأمل.لكني أنا يساري، ليس فقط باعتباري مثقفا يسكنه الحنين إلى أسرته الكبيرة،بل كطفل مناضل.يعتبر التحقير،أكثر شيء يستفز أعصابي في هذا العالم، وعلى جميع المستويات.لا يقتضي النضال ضد التحقير معارف خاصة،بل تيقظا مستمرا. وإذا، خسر اليسار باستمرار قيمه الخاصة،فإن وظيفته الحقيقية تتجه نحو العثور خلال كل مرة على أخرى جديدة.هذا ما أومن به.
*إدغار موران :لا أحب مصطلح ''اليسار''،الذي يجمع بين أشياء مختلفة جدا.لكن في نهاية المطاف، أشعر بعمق انتمائي إلى اليسار، لسببين :الانشغال بالإنسانية،ثم الإيمان بالأخوّة.ثم لكوني فرنسيا،أوروبيا، منتميا إلى البحر الأبيض المتوسط ،فإني في الواقع متضامن مع كل النوع البشري،أحس مثل جزئية صغيرة،أساهم في مغامرته الخارقة.لذلك،ردة فعلي الأولى بالنسبة للاجئين القادمين من سوريا واليمن وأمكنة أخرى،لم تتردد كي تقول :يلزم مساعدتهم. ثم فيما بعد،نرى كيفية الإعداد لهذه المساعدة.بيد أني لاحظت في المقابل، هيمنة للخوف، وتسيدا لسياسة الجدار.حينما تدهور الوضع في شمال فرنسا مقارنة مع جنوبها خلال شهر يونيو 1940،لم يتجه تفكيرنا فترة النزوح،نحو تنصيب خيام أو إقامة مدينة للأكواخ،بل استضفنا هؤلاء الأفراد طيلة أشهر تحت وازع الرحمة.
س- إذن، لماذا المثقفون صامتون؟
*إدغار موران : حينما نتأمل الطريقة التي تمت بها مساندة المهاجرين غير الشرعيين،بالرغم من كل شيء، ليس فقط من طرف المثقفين، بل لدى جزء كبير من السكان، فالتطور لافت للنظر.أعتقد، بأن ذلك يعود إلى الارتداد العميق للحاضر.نعاين زحفا للفيشية vichysation ،لم تنبثق بديهيا من العدم.تجلى دائما وجهان لفرنسا،تصارعا منذ قضية ألفريد دريفوس،وقانون لويس كومبس، المتعلق بالعلمانية،لكن فرنسا الجمهورية  تغلَّبت عليه. ثم فرنسا الثانية،التي كانت  خلال عهد سابق ملكية ارستقراطية،رجعية جدا، فقد بقيت في جانب منها عنصرية،و قومية بشراسة.ثم مع الأزمة العميقة،الاقتصادية والحضارية في الوقت نفسه،بل يمكنني القول''أنتروبولوجية''،إنها تلك التي يتسع مداها،بينما يعيش شعب اليسار ذبولا.وليس مفاجئا رؤية بعض مثقفي اليوم،يغيرون عقيدتهم .لايقبل أي مكتسب المراجعة،وضمن ذلك الديمقراطية. لكن ما لا يتجدد يصاب بالتلف.ثم لايمكِّن سواء الاستمرار في الشتائم،و صب اللعنات،أو التشهير،من تحقيق مفعول ضد الجبهة الوطنية،إذا لم نعمل على تشكيل طريق وتطلع جديدين،وسيظل السعي  مضحكا. هذا ماحاولت التفكير فيه مع ستيفان هيسيل بين طيات كتاب :"طريق الأمل''.تضمر فرنسا تحت القشرة السياسية والإدارية،عشرات آلاف المبادرات تستشرف حضارة أخرى،أكثر تضامنا وأخوية،تتعارض مع دوافع هيمنة المصلحة،والجدوى،والاعتبار الكمي وكذا إخفاء الهوية.تسكنني قناعة، أنه عوض المبادرة إلى سياسة للقسوة،يلزم على العكس من ذلك ممارسة سياسة للإنعاش،قد تكون بيئوية،من خلال تنمية مصادر الطاقة النظيفة،ثم تنظيف المدن من التلوث بأشغال كبرى،وكذا فلاحة المزرعة.
*جان دانييل : صحيح أن الاستخفاف بالمهاجرين ثم كراهية المغتربين،لم  تكن مواقف اليمين الكلاسيكي قبل ثلاثين سنة.بناء على وجهة النظر هذه،فقد تراجعنا بقوة.ساهمنا دائما عبر منبر هذه الجريدة، بتيقظ في النقاشات المتعلقة بالهجرة.لقد بدأنا نسائل حضور المهاجرين داخل البلد،مباشرة بعد انتخاب فرانسوا ميتران،في ظل تأثير الأزمة وكذا "منعطف الصرامة''.سنة 1981 ،ملصق الحملة الانتخابية لفرانسوا ميتران،أظهره أمام كنيسة وسط بلدة صغيرة. شعار ''القوة الهادئة''،ثم أغنية''فرنسا الودودة'' لشارل تروني.سبع سنوات فيما بعد،لم يفكر أي شخص في إمكانية استعادة نفس الملصق،بحيث لا يمكننا قط أن نفرض على الفرنسيين رمزا وحيدا،حتى ولو كان شعريا وجمهوريا،عن فرنسا ستبقى مسيحية.لأنه في غضون ذلك، فرض الإسلام ظهوره ضمن المشهد،عبر تجليات عدد قليل من المساجد. لقد لاحظنا خلال فترة السنوات السبعة الأولى، تحولا إيديولوجيا لليسار.نستحضر تصريحا مختصرا لميشيل روكار :((لا يمكننا استقبال كل بؤس العالم))،وسنة 1984،أقرّ لوران فابيوس بأن :((الجبهة الوطنية تطرح أسئلة جيدة، لكنها تأتي بأجوبة سيئة)).إنها حقبة،حيث تمأسست زمرة صغيرة من الجبهة الوطنية عبر التنديد بالمهاجرين.
س- ثم شرعت تتموضع في مركز السجال؟
*جان دانييل : لقد رأينا إذن تأجج لما سنسميه بعد ذلك ب''التفاضل"، وهي طريقة تنظر بحساسية إلى الاختلافات.لازالت الجبهة الوطنية متخلفة بخصوص ممارسة شائنة مناهضة للسامية وأحيانا تنكر المحرقة.لم يكن ضروريا شيطنة لوبن :فهو شيطان سلفا.لقد تغيرت الأشياء عندما تبيَّن ل مارين لوبن أن الإسلاموفوبيا تثير شعبية أكثر من الرهان على العنصرية.توضح لها سريعا، ما يلزمها استثماره من مشاكل التعايش مع أقلية مسلمة ،في ذات اللحظة التي صار فيها العالم الإسلامي كل يوم فريسة مميزة لمختلف أنواع العنف وميدانا لحركات راديكالية.خلال تلك الفترة حظيت بشرف محاورة كلود ليفي شتراوس، فاستحضر مسألة التعارض المحتمل بين مجتمعات مختلفة إذا توخى بعضها الهيمنة على البعض الآخر. استرعى انتباهي منذئذ أنه بوسعنا الإقرار عن بعد بتفاعلات أو استبعاد، قبل الخشية من حدوث انفجار للعداوات.هذا الذي دفع السيد Alain Finkielkrault،كي يمنحني شرف الإحالة علي .لكن يجدر الانتباه!إذا كان صحيحا أن ليفي شتراوس،دافع عن حق أي مجتمع في المحافظة على هويته الثقافية والجسدية،ثم لغته وعاداته وماضيه،فإنه بذلك لم يمؤسس قط أي كره للأجانب. كان سيشعر بالفزع من تيار الإسلاموفوبيا.
*إدغار موران :على النقيض مما نكرره،لم تمت آلة الدمج.لقد عرفت عراقيل،لأننا أضفنا إليها صعوبة أخرى :حينما أطلق ساركوزي كلمة"مسلم''على جميع الأشخاص الذين نراهم بمثابة عرب،جزائريين ومغاربة.نضمهم إلى الإسلام مع أن الكثير منهم يعتبرون مفكرين-أحرارا،ولو كانوا يواجهون حقا عراقيل داخلية بخصوص نقد النص المقدس.لكن بقدر،وصفنا لهم بالمسلمين،ولانٌدَرِّس في مدارسنا،أن فرنسا متعددة الثقافة طبيعيا،بقدر ما نصير أقل من مستوى إيجاد حل للمشكل.بل،إن فرنسا منذ تشكلها كوطن،فقد ضمت :البروتون،الباسك،الأقطان،الأوفرن،ثم الألزاس،وشعوب مختلفة،امتلكت لغتها وثقافتها الخاصة.خلال قرون،اكتست هذه الشعوب''طابعا ريفيا'' .وحينما وصل المهاجرون،مع نهاية القرن التاسع عشر،سيتوالى ذلك،في ظل تجارب صعبة دائما(استحضرنا مؤخرا الاضطهاد المروع الذي عانه الإيطاليون في مدينة مارسيليا).يطرح الاستفسار بخصوص معرفة إن كان في وسع القادمين من شمال إفريقيا استيعابهم بعد جيلين أو ثلاثة،نجاح الاندماج بفضل الزواج المختلط. هناك نجاح وإخفاق.نرى من جهة أشخاصا مندمجين اجتماعيا،لكن من جهة ثانية،تعيش أقلية من شباب الأجيال الثانية والثالثة، إحساسا بالرفض، مما يقود البعض إلى التشبع بالفكر الجهادي.إذن بينما استوعبت فرنسا سلفا عددا من الاختلافات،فالشيء الوحيد الذي نفتقده،يشير في نهاية المطاف إلى هذا الوعي بالتعدد الثقافي الطبيعي.ينبغي تنصيص الدستور الفرنسي على أن فرنسا جمهورية واحدة ومتعددة الثقافة.
*جان دانييل : فرنسا المعجزة،أرسى دعائمها التعدد.سواء ميشليه،وبروديل، وديغول،أوميتران،جميع هؤلاء بدءوا مذكراتهم بتعريف ورع وعاشق للوطن الفرنسي،يخصص جانبا كبيرا إلى تعددية الأصل بالنسبة للذين التحقوا بها وعملوا على تشكيل نسيجها.أعتقد مع ذلك أن فرنسا أقل تعددية ثقافية مما يجدر بها أن تصيره.يمثل الإسلام إشكالية جديدة،لكن حتى إذا وافقتُ على فكرة ''بيير مانين'' الذي يظن بأن هجمة الإسلام كشفت وفاقمت ضعفا متناميا، ستجد في فرنسا وأوروبا مشروعا مشتركا.يبقى أن التطرف الجهادي،وداعش يمدان الجبهة الوطنية وأتباعها بأسلحة جديدة.
*إدغار موران : ينبغي أيضا توضيح  بأن الإسلام بمثابة ديانة نموذجية لليهودية-المسيحية. فمحظورات القرآن هي محظورات يهودية،وشعيرة الخروف تمثل تضحية أبراهام،والمسيح نبي،كما أن الصوامع تشبه أبراج الأجراسعدم فهم ذلك،سيكون مضحكا إذا لم يكن تراجيديا.
* هامش : l’ obs numéro 2659. 2015.PP/54-57.