الأربعاء، 16 ديسمبر 2020

معجم كارل بوبر(الحلقة12 ):

                        * الميتافيزيقا و''مخطط الأبحاث الميتافيزيقية"

              * العالم  1 ، العالم 2 ، العالم 3

                              ترجمة : سعيد بوخليط    

 

 

تقديم:

عندما صادفت،منذ عقدين،كتاب الأستاذة الفرنسية روني بوفريس،الصادر حديثا آنذاك. توخيت بداية،إنجاز مقاربة تلخيصية تعريفية للعمل باعتباره عنوانا جديدا على  رفوف المكتبات.لكن بين طيات ذلك، تبين لي أن كتاب:العقلانية النقدية عند كارل بوبر ثم السيرة العلمية لصاحبته،ينطويان على قيمة معرفية كبيرة.لذلك،من الأمانة العلمية والتاريخية إن صح هذا التأكيد إعادة كتابته باللغة العربية نظرا لي : 

*اشتغلت روني بوفريس؛من بين أشياء أخرى،على نظريات كارل بوبر.وترجمت له أعمالا من الإنجليزية إلى الفرنسية؛لاسيما سيرته الذاتية. كما أن بوبر نفـسه؛أوكل لها مراجعة الترجمة الفرنسية لعمله الذائع الصيـت بؤس التاريخانية.

*اعتبرت روني بوفريس عملها هذا،تقديما عاما لمعجم بوبر المفهومي. ساعية بذلك، إلى جرد ألفبائي للمصطلحات والمفاهيم التي وظفها بوبر، قصد صياغة مشروعه. لقد رصدت وفق تعريفات سريعة لكنها دقيقة وعميقة؛أهم المفاهيم سواء تلك التي نحتها بوبر،أو توخى في إطارها،على العكس من ذلك، مناقشة أصحابها وإبداء رأيه حولها: العقلانية النقدية/ التحقق/ المعرفة الموضوعية /المحتوى/ النظريات العلمية / تحديد /الديمقراطية / المجتمع المنفتح/ مقولة الأساس/ قابلية التكذيب/ قابلية التزييف والتفنيد/ الرائزية /التاريخانية / العقل و اللغة / اللاوعي/ الاستقراء / الوسائلية /الليبرالية / الماركسية/ الميتافيزيقا / العوالم الثلاث / المجتمع المنغلق /الوضعية/ القابلية / النسبية / الكليانية والطوباوية / التوتاليتارية….

خطاطة مفهومية، تعكس البرنامج النظري والمنهجي الذي خطه بوبر لنفسه.وقد توزع بين : منهجية العلوم؛ فلسفة المعرفة العامة؛ البيولوجيا؛ علم النفس؛ العلوم الاجتماعية؛ تأويلات الفيزياء الحديثة؛ تاريخ الفلسفة؛ فلسفة الأخلاق و السياسة؛ نظرية العلوم الاجتماعية .

أرضية فكرية وعريضة، يتجادل ضمنها مع: أفلاطون وسقراط وهيغل وماركس وفتجنشتاين وهيوم وكانط ...إلخ. منحازا أو مختلفا،لكن بمعنى يتجاوز حدي منطق الميتافيزيقا الغربية الثنائي القيمة :صادق أو كاذب، ولا يوجد احتمال ثالث. لأن بوبر يؤكد نصيب الحقيقة من الخطأ. السمة الفكرية التي تهمه؛أكثر من اليقين والاعتقاد المطلقين.

هكذا ظل بوبر رافضا باستمرار،لكل أنواع الطوباويات والإطارات الشمولية المنغلقة؛بل والأفكار الرومانسية المنتهية حتما إلى العقيدة الجامدة والدوغماطيقية؛لأنها تستند بدءا وانتهاء على المرجعية الأحادية.

 لم يكن من باب الصدفة إذن،أن يخرج بوبر آخر أعماله تحت عنوان مثير: "أسطورة الإطار،في دفاع عن العلم والعقلانية". يقول بوبر في تأويل لما أشرت إليه:(( وعلى الرغم من أنني معجب بالتقاليد وعلى وعي بأهميتها. فإنني في الوقت ذاته أكاد أكون مناصرا أصوليا للا-أصولية: إنني أستمسك بأن الأصولية هي الأجل المحتوم للمعرفة، مادام نمو المعرفة يعتمد بالكلية على وجود الاختلاف. وكما نسلم جميعا، الاختلاف في الرأي قد يؤدي إلى النزاع، بل وإلى العنف. وأرى هذا أمرا بالغ السوء حقا، لأنني أستفظع العنف، غير أن الاختلاف في الرأي قد يؤدي أيضا إلى النقاش، وإلى الحجة وإلى النقد المتبادل. وإني أرى هذه الأمور ذات أهمية قصوى، وأزعم أن أوسع خطوة نحو عالم أفضل وأكثر أمنا وسلاما، قد قطعت حين وجدت حروب السيف والرمح لأول مرة من يضطلع بها، وفيما بعد حين حلت محلها في بعض الأحيان حرب الكلمات ))( أسطورة الإطار: في دفاع عن العلم والعقلانية . ترجمة يمنى طريف الخولي. سلسلة عالم المعرفة. أبريل- مايو2003)

ولكي يتم تسليط الضوء بقوة،على الأفق المتطور لهذا الفكر الإنساني في جوهره، أسرعت بوفريس غير ممتثلة لترتيبها الألفبائي؛ نحو الصفة التي عشق بوبر،أن يسم بها اجتهاداته الفكرية والمنهجية. أقصد تصنيف: العقلانية النقدية .

فما هي إذن أبرز ملامح وتجليات هذه الفلسفة ؟ ثم  كيف عملت  بوفريس على توظيف ذلك حين مقاربتها مشروع بوبر؟ لاشك، أن الإجابة عن بعض هذه الأسئلة تخول من جهة أخرى؛ إثارة انتباه القارئ نحو أهم أطروحات هذا العمل،والتي سنقف على مضامينها عبر سلسلة هذه الحلقات.  

 

الميتافيزيقا و"مخطط الأبحاث الميتافيزيقية":

دون أن يعطي كارل بوبر تعريفا محددا للميتافيزيقا، نظرا لنقده لـ"الماهوية"،ومع توظيفه أحيانا دون تمييز لمفهومي: "قضايا فلسفية" و"قضايا ميتافيزيقية". فإنه يرد الاعتبار أولا للميتافيزيقة ضد وضعيي حلقة فيينا Vienne، وقد جمعته علاقات مع أعضائها لكن دون انتمائه قط إلى هذه الحلقة،على العكس من المنحى الأسطوري المصاحب لهذه القضية،ثم بعد ذلك ضد فتجنشتاين الذي أكد على وجود"ألغاز" لسانية وليس تحديدا قضايا فلسفية.بهذا الخصوص،أظهر غضبه واحتجاجه حينما سمع دفاع بوبر الشاب عن فكرة وجود حقيقي للقضايا الفلسفية.

 ينفصل بوبر عن النزعة العلمية التي بحسبها يمثل العلم حقل الشيء القابل للبرهنة واليقيني بينما الميتافيزيقة ميدان الاعتباطي،الخيالي وكذا الغامض.

 إن عبارة ميتافيزيقية ليست قابلة للاختبار،كذلك يتعذر دحضها ولايمكننا التحقق منها، معطيات تميزها عن نظرية علمية،لكنها لا تعني تماما بأنها فاقدة للمعنى، والحقيقة وكذا القيمة، مثلما اعتقد الوضعيون. بل قابلة للتدليل والنقد.لقد أصبحت بعض النظريات الميتافيزيقية قابلة للاختبار،وشكلت بذلك إلهاما للعلم.

 تكلم بوبر عن مخطط الأبحاث الميتافيزيقية فيما يتعلق بالداروينية ولا شيء سيمنع في نظرنا،اعتبار بأن بوبر لا يفعل ذلك تحديدا،بل يوجه انتقاده إلى فرويد،وقد أوضح طبيعة انتقاداته  في عمله المعنون ب: " postcript".ذلك أن بعض مناحي النظرية الفرويدية، بوسعها أيضا تبني نظام مخطط الأبحاث الميتافيزيقية،مما يجعلها قابلة للتحسن جراء النقد وتصبح في يوم من الأيام خاضعة للاختبار.

يقود شرط قابلية الدحض عند بوبر،الذي يعتبر أكثر تباينا مع علمية الماركسية والتحليل النفسي،قياسا لمعيار التحقق الوضعي، كفاصل بين العلم واللاعلم أو بين العلم والميتافيزيقا، نحو التمييز بين :

1 المنطق والرياضيات، حقل ما يمكن البرهنة عليه، أي الفكر،وليس المعرفة (التخمينية). 2 المعرفة التجريبية. 3 الميتافيزيقا.

العالم 1، العالم 2، العالم 3 :

العالم 1 : "عالم الفيزياء، الأحجار، الأشجار، الكيمياء والبيولوجيا".

العالم 2 : "عالم العواطف،الخوف والأمل، استعدادات للتأثير وكذا مختلف التجارب الذاتية".

العالم 3 : "عالم الفكر الإنساني،الأفكار،النظريات.أيضا،أعمال الفن والقيم الإيتيقية. وكذا المؤسسات الاجتماعية".

 يبدو بأن العالم الفيزيائي قد سبق وجوده عالم الأحاسيس الحيوانية والحالات السيكولوجية. في حين لم يبدأ العالم 3،سوى مع تطور لغة إنسانية خاصة : يعتبر أيضا نظام عرض العوالم الثلاثة،نظام تعاقب.

يبلور التجسيد اللساني للاعتقادات،نمطا جديدا من الحقيقة. تضيف أطروحة بوبر :''عالما ثالثا''،إلى عالم الأشياء المادية وكذا الوعي الذاتي والأشياء المعاشة،إنه عالم مضامين الفكر والدلالات الموضوعية.

لايمكننا أن نفهم تماما استقلال المعرفة عن تجارب الذات السيكولوجية،إلا إذا أقررنا ليس فقط عدم ارتباط حقيقة نظرية علمية باعتقادات شخصية،لكن بكيفية أكثر جذرية، تميُّز حقيقة النظرية عن حقيقة الفكر الذي أبدعها ويتضمنها: هكذا تقوم عند المستوى الأنطولوجي إبستمولوجيا بوبر دون الذات.

 سنلاحظ استقلال هذا "العالم 3"،الذي بوسعنا أيضا تسميته"عالم الثقافة" ويتوخى البعض اختزاله إلى عالم ذاتي للوعي. لكن من بين أفكار بوبر الأكثر أصالة تمسكه باستقلال عالم موضوعات الفكر عن الذات الإنسانية التي أبدعته.يخلق الإنسان نظريات وأفكار،بحيث  لا يمكن للأخيرة التبلور دونه، لكن بمجرد إبداعه لها، يفقد سيطرته عليها؛ثم يصادفها في غموضها،ويصطدم حينئذ معها. مما يعني قبل كل شيء،عدم استيعابه لها. هكذا يتسامى جذريا محتوى فكر،بالفهم الذي لدينا عنه، مادامت نتائجه متعددة بشكل لا نهائي.

يعتبر العالم 3 جوهريا بالنسبة لبوبر،عالما لا نهائيا،غير مكتمل،بالتالي غير متوقع : تكمن الأفكار المستقبلية خارج كل توقع،في نطاق ارتباط  باقي العالم بها،وتتضمن بالنسبة إليه اللاتحديد: "نساهم جميعا في تطور العالم 3 ...، بيد أنه خلال تطوره،لايفلت فقط عن إدراك إنسان بعينه،بل قياسا لجميع البشر(مثلما تظهر ذلك القضايا المتعذر حلها)".

ما هي العلاقة بين العوالم الثلاثة؟لايمكن للعالم 1، والعالم 3، تأثير أحدهما في الآخر مباشرة، لكن فقط من خلال العالم 2، الذي يتفاعل معه الاثنان:مثلا، من خلال الفهم السيكولوجي للنظريات، قد يتغير العالَم الفيزيائي. بما أن استقلال العالم 2 يعتبر أكثر بداهة من استقلال العالم 3، فقد اهتم بوبر بالدفاع عنه ضد المعترضين: يحدد وضعه قياسا إلى قضية جسد/ روح كثنائية،بل وكتفاعل متجدد.

ميز  بوبر مستندا على ديكارتية جديدة، نمطين من الحقائق،فيزيائية وسيكولوجية، ثم يضيف مشيرا إلى إمكانية وجود تفاعل بين الصنفين: قد يؤثر الفكر على الجسد، مثلما بوسع الأخير ممارسة مفعوله على الفكر.بالتالي يرفض التماثل،حينما يكون مجرد صيغة ضمنية للأحادية: يستحضر الوضع الذي دافع عنه ديكارت سابقا، لكن بصياغة أخرى تتوخى تجاوز الصعوبات التي أفقدتها اعتبارها.لذلك يعتقد بوبر بإمكانية صياغته أطروحته وفق الصيغة التالية:

1- هناك ثنائية، ليست بالتأكيد للجواهر،بل حالات وتطورات متفاعلة. 2 يقدم الوعي لحركات الجسد جهازا للضبط المرن. أما مايتعلق بأقصى مستويات الوعي بالذات،الخاصة  بالإنسان،فلم يكن بوسعه التجلي إلا كارتداد للتشكّل اللساني للنظريات، مثل تلك المتعلقة باستمرارية الأجساد في الزمان. يفسح العالم 3 المجال أمام ظهور الوعي الذاتي،شيء يفتقده الحيوان.

 

*المصدر:

Renée Bouveresse :le rationalisme critique de karl popper ;ellipses ;2000.

http://saidboukhlet.com/

السبت، 21 نوفمبر 2020

جان فرانسوا ليوتار : تفسير مابعد الحداثة إلى الأطفال(الحلقة 1)

 

                                           

                             ترجمة : سعيد بوخليط

 


   تقديم : لقد جمعنا بعض هذه الرسائل التي كتبها جان فرانسوا ليوتار بخصوص قضية مابعد الحداثة.لم يكن السعي هيِّنا كي نحصل على موافقته بخصوص إخراجها إلى العموم. نريد عبر هذه المبادرة المساهمة في إزالة شوائب بعض الاتهامات،الواصفة لهذا الاتجاه باللاعقلانية ،النزعة المحافظة الجديدة، الإرهاب الفكري، الليبرالية البلهاء، العدمية، الكَلَبية، وأوصاف أخرى.يظهر بأنه غير مكترث أبدا بهذه النعوت،بل يقول بخصوص توظيفها إشارة تكشف على أنه عوض الاستناد إلى القراءة،مانسميه قراءة،والاستناد على مرجعية دلائل فورية،يفضل خصومه بالأحرى القدح الشخصي حسب مقولات جاهزة كليا،لاتتناسب قط مع الاحترام الجدير بالفكر حينما نخوض سجالات من  هذه  العينة.

لكنه يتحجج خاصة بكون بساطة هذه النصوص الموجهة للأطفال،وكذا  وضوحها المضلِّل بيداغوجيا،لايمكنها قطعا المساهمة،وإن أصدرناها،كي تقوِّم طبيعة جدال يبقى غامضا جدا.أيضا، يضيف،فقد كان بعيدا للغاية على أن يبدو واضحا بخصوص هذا الإشكال كي يجازف بالإبلاغ عن حدس يبقى غامضا. 

نعتقد مقابل تصوره هذا،وهنا يكمن الدليل  الذي أرغمه على التنازل،أنه ليس سيئا  بأن الإحساس المبهم(ليس بوسعه تقديم دليل سوى وفق إشارات تاريخية)،عبر هاجس أن شيئا ما يتغير بالنسبة لأحاسيسنا يحدث دون استعداد وتبعا لالتباسه.بعيدا على أن يكون هذا اللااكتمال واللاتوقع،مناقضا للعقل،وكذا الاستقامة،سيحترم على طريقته موضوع فكرته، والتاريخ المعاصر،وكذا الذكاء الذي لايمكن بحسبه لفكرنا أن يعرض نفسه سوى  كطفل.

لقد حذفنا من هذه الرسائل الفقرات التي لاترتبط بموضوعها الجوهري.أهملنا التكرارات الواردة في هذه الرسالة أو تلك. بناء عليه،أعدنا بطريقتنا صياغة شكل محتوى العمل.    

                           الناشر/ باريس 25دجنبر 1985 

 

 

  -جواب عن سؤال : مفهوم مابعد الحداثة؟

إلى توماس كارول

مدينة ميلان،15 ماي 1982

*ملتمس

إننا في لحظة استرخاء،أتكلم عن لون الزمان.نخضع لضغط عبر مختلف الجوانب كي ننهي ذلك مع التجريب،في الفنون وكذا مجالات أخرى.

 قرأت مؤرخا للفن يمدح الاتجاهات الواقعية ويناضل من أجل ارتقاء نزعة ذاتية جديدة.

قرأت ناقدا فنيا يبث ويبيع "المغاير للطليعي'' في أسواق الفن التشكيلي.

قرأت،تحت اسم مابعد الحداثة،معماريين يتخلصون من مشروع باوهاوس،حيث يلقون بالرضيع الذي لازال بعد تجربة، وسط ماء الحوض الوظيفي.

قرأت بأن فيلسوفا جديدا اكتشف ماسماه بغرابة اليهودية-المسيحية ويتوخى من خلال وضع خاتمة للإلحاد الذي عممناه.

 قرأت بين صفحات أسبوعية فرنسية بأننا لسنا سعداء مع ألف هضبة(1)مادمنا نتوخى حقا،خاصة حين قراءة كتاب فلسفي،أن ننعم بقليل من المعنى.

قرأت مع مداد ريشة مؤرخ وازن بأن الكتَّاب والمفكرين الطليعيين، سنوات الستينات والسبعينات نشروا الرعب من خلال توظيف اللغة،وينبغي بالتالي تحديد شروط سجال مثمر بأن يُفرض على المفكرين طريقة مشتركة للتكلم،وتحديدا طريقة المؤرخين.

قرأت لفيلسوف لغوي بلجيكي شاب يشتكي من أن الفكر الأوروبي،حيال التحدي الذي تطرحه أمامه الآلات التي تتكلم،قد تنازل لهذه الأخيرة عن الاهتمام بالحقيقة،وطرح نظام لساني آخر(2) بدل نموذج النظام المرجعي(نتكلم عن أقاويل،نكتب عن كتابات،التداخل النصي) ،من ثمة تأكيده على ضرورة أن نبعث حاليا انطلاقة متينة للغة بناء على المرجع.   

قرأت مختصا مسرحيا موهوبا،يؤكد بأن مابعد الحداثة برهاناتها ونزواتها لاوزن لها أمام السلطة،لاسيما حينما يكون الرأي العام مضطربا يشجع هذه الأخيرة على ممارسة سياسة  الرقابة التوتاليتارية أمام تهديدات الحرب النووية.   

قرأت مفكرا مرموقا يدافع عن الحداثة ضد من وصفهم بالمحافظين الجدد.يعتقد،بأن رغبة هؤلاء تتجه تحت لواء مابعد الحداثة،إلى التخلص من مشروع الحداثة اللامكتملة،ذلك المتعلق بالأنوار.حتى ولو اعتقد آخري مناصري الأنوار،كما الشأن مع كارل بوبر أو تيودور أدورنو،بأنهما دافعا عن المشروع فقط ضمن نطاق دوائر حياتية خاصة،السياسة  بالنسبة لصاحب كتاب المجتمع المنفتح، ثم الفن بالنسبة لمؤلف النظرية الجمالية.

يؤكد يورغان هابرماس(تذكُرُ هذا الاسم)بأنه إذا أخفقت الحداثة،فلأنها تركت كليانية الحياة تتجزأ إلى تخصصات مستقلة تتدبرها الكفاءة الدقيقة للمتخصصين،هكذا فالفرد الملموس يعيش "المعنى اللامتسامي ''وكذا ''الصيغة المفككة'' ليس كانعتاق،بل وفق نموذج السأم الهائل الذي كتب عنه بودلير قبل قرن تقريبا.

تبعا لإشارة من ألبريشت ويلمر،يعتبر الفيلسوف بأن علاج هذا التجزيء للثقافة وانفصالها عن الحياة لايمكنه أن يتأتى سوى من''تغيير لوضعية التجربة الجمالية حينما لايتم التعبير عنها في المقام الأول بخصوص أحكام الذوق''،لكنها''وظفت من أجل استكشاف وضعية تاريخية  للحياة"،بمعنى"حينما نضعها في علاقة مع قضايا الوجود''.لأن هذه التجربة "تندرج ضمن رهان للغة ليس ذاته رهان النقد الجمالي''،بل تتدخل في''المحاولات الإدراكية وكذا التوقعات المعيارية''،إنها''تغيِّر الطريقة التي تحيل في إطارها مختلف هذه اللحظات نحو بعضها البعض''. مايلتمسه هابرماس من الفنون وكذا التجربة التي يحققها،تكمن عموما في تشييد جسر على امتداد الفجوة الفاصلة بين خطاب المعرفة،ذلك المتعلق بالإيتيقا والسياسة،بالتالي تعبيد الطريق أمام وحدة التجربة.

ينصب سؤالي حول معرفة صنف الوحدة التي يحلم بها هابرماس.هل تمثل القصد الذي توخاه مشروع الحداثة في تأسيس وحدة سوسيو- ثقافية  تجد داخلها مختلف عناصر الحياة اليومية والفكر موقعا باعتبارهما مجموعا عضويا؟أو أنَّ الانتقال الذي ينبغي له اختراق رهانات اللغة اللامتجانسة، والمعرفة، والإيتيقا، ثم السياسة،ينتمي إلى نظام ثان غيرها؟وإذا كان الجواب بنعم،كيف سيكون ممكنا تحقيق تركيبها الفعلي؟

الفرضية الأولى،ذات إيحاء هيغيلي،لاتسائل ثانية مفهوم تجربة شاملة جدليا؛في حين تعتبر الثانية أكثر قربا من فكر نقد مَلَكَة الحُكم،لكن يلزمها مثل هاته أن تتحمل إعادة الاختبار الصارم الذي فرضته مابعد الحداثة على فكر الأنوار،وكذا فكرة نهاية متكاملة بين التاريخ،و الفاعل.لم تكن بداية هذا النقد مع فتجنشتاين وأدورنو،لكن بعض المفكرين،الفرنسيين أو غيرهم،الذين لم يحظوا بشرف قراءتهم من طرف الأستاذ هابرماس،مما كان سيضعهم على الأقل في منأى بخصوص الإشارة السيئة المتعلقة بالتيار المحافظ الجديد.   

2-الواقعية :

الاستفسارات التي أوردتها بداية ليست جميعها متساوية.بل يمكنها أيضا أن تتعارض.قامت الواحدة منها باسم مابعد الحداثة،في حين اتجهت الأخرى نحو منازعتها.فليس بالضرورة الشيء نفسه التماس مرجع(وكذا الحقيقة الموضوعية)،أو المعنى (وكذا التسامي المعقول)،أو مرسل إليه(ثم جمهور)،أو مرسِل(وكذا التعبيرية الذاتية)أو التوافق التواصلي(ثم قانون عام للتبادلات،مثلا نوع الخطاب التاريخي).لكن تكتنف الدعوات المتعددة الأشكال بإرجاء التجريب الفني نفس الدعوة للنظام،والرغبة في الوحدة،والهوية، والأمن،والشعبية(بمعنى الرأي العام،وكذا''العثور على جمهور'').يلزم إدخال الفنانين والكتَّاب إلى حضن الجماعة،أو على الأقل،إذا اعتبرنا الأخيرة مريضة،فيلزم أن نفوض لهم مسؤولية علاجها.    

توجد إشارة لاجدال فيها عن هذا الترتيب المشترك : يعتبر التخلص من إرث الطليعيين أكثر المقتضيات فورية بالنسبة لهؤلاء الكتَّاب.هكذا يتجلى بشكل خاص نفاذ صبر مايدعى ب" المغاير للطليعي''. في هذا الإطار،الأجوبة التي أدلى بها ناقد إيطالي إلى نقاد فرنسيين لم تترك أي مجال للشك. حين النفاذ إلى خليط الطليعيين،يعتقد الفنان والناقد أنهما أكثر وثوقا بخصوص إلغائهم  بدل مهاجمتهم مباشرة.لأنه بوسعهم تحويل الانتقائية الأكثر تهكما إلى تجاوز للخاصية الجزئية عموما لأبحاث سابقة. الرغبة الصريحة في عدم الاكتراث بهم،تجعلهم عرضة للاحتقار من طرف الاتجاه الأكاديمي الجديد.والحال،استطاعت الصالونات والأكاديميات،خلال فترة استقرار البورجوازية في التاريخ،أن تشغل وظيفة تطهير وكذا منح جوائز آداب السلوك بخصوص مجالات التشكيل والأدب تحت غطاء الواقعية.لكن الرأسمالية ذاتها تنطوي على سلطة معينة كي لاتتحقق أشياء معتادة،أدوار الحياة المجتمعية والمؤسسات،التي تصفها التمثلات ب''الواقعية''،لايمكنها قط  استحضار الحقيقة سوى وفق نموذج الحنين أو الاستهزاء،كمناسبة بالأحرى للمعاناة بدل الارتياح.يبدو بأن الكلاسيكية محظورة في إطار عالم حيث الحقيقة مضطربة جدا وبالتالي لاتقدم مادة إلى التجربة،بل لاستقصاء التجريب.

هذا الموضوع مألوف لدى قراء ولتر بنيامين.هل يلزمنا أيضا أن نتناول تحديدا أثر ذلك. لم يكن التصوير الفوتوغرافي تحديا للرسم،أُلقي به من الخارج،وكذلك فيما يتعلق بالسينما الصناعية والأدب السردي.يتمم الأول بعض مظاهر مخطط يتوخى تنظيم المرئي الذي هيأه القرن الخامس عشر الميلادي في إيطاليا،بينما مكنت الثانية من إتمام إغلاق تعاقبات عضوية تماما شكلت مثالا نموذجيا للروايات الكبرى منذ القرن الثامن عشر فترة تشكلها.فأن يحل  الميكانيكي والصناعي،بدل اليد والحرفة،لم يمثل كارثة في ذاته،اللهم إذا اعتقدنا بأن الفن في ماهيته يعكس تعبيرا عن فردية مبهرة تخدمها كفاءة حِرَفية للنخبة. 

يكمن التحدي أساسا في إمكانية تحقيق الأفضل نتيجة ماستحققه الصورة والسينما، على نحو سريع جدا،وبإشعاع تفوق أهميته مائة ألف مرة منجز الواقعية المرتبطة بالرسم والسرد،والمهمة التي تفوضها النزعة الاتباعية لهذه الواقعية،حفظها الضمائر من الانسياق وراء الشك.يلزم الفوتوغرافيا والسينما الصناعيتين التغلب على الرسم وكذا الرواية حينما يتعلق الأمر بترسيخ المرجع،ثم ترتيبه بناء على منظور تمنحه معنى سهل الإدراك،وتكرير التركيب والمعجم اللذين يتيحان للمرسل إليه القدرة على مباشرة تفكيك سريع للصور والمتواليات وبالتالي النفاذ  بيسر وجهة إدراك هويته الخاصة وفي نفس الوقت تلقيه لتأييد من طرف الآخرين،مادامت تشكل أبنية الصور تلك و متوالياتها منظومة تواصلية بين الجميع.هكذا تتضاعف مفعولات الحقيقة أو بشكل أفضل أوهام الواقعية.     

إذا تطلع الرسام والروائي،صوب عدم التحول بدورهما إلى مناصرين للقائم،ثم قاصرين علاوة على ذلك، فيجدر بهما رفض هذه الوظائف العلاجية،والتساؤل عن قواعد فن التشكيل أو الحكي عنها مثلما أخذوها وتناولوها عن الأسلاف، ستبدو لهم فورا أنها وسائل للخداع،الإغواء والطمأنينة،بالتالي تحظر عليهم أن يكونوا''صادقين''. يحدث انشقاق لامثيل له،خلف التسمية المألوفة للرسم أو الأدب. الذين يرفضون إعادة النظر في قواعد الفن ينجحون على مستوى الامتثال الجماعي،بحيث يطرحون للتواصل،ضمن نطاق''قواعد جيدة"،الرغبة المستوطنة لواقع الشيء مع معطيات وكذا وضعيات قادرة على إرضائها. البورنوغرافية توظيف للصورة والفيلم من أجل هذا القصد. تصير نموذجا عاما بالنسبة لمختلف فنون الصورة  والسرد غير المتأهبة لتحدي الإعلام الجماهيري.   

فيما يخص الفنانين والكتّاب الذين يقبلون مسألة التشكيك في  القواعد الفنية والتشكيلية والسردية، ثم المبادرة إلى تقاسم موقفهم المرتاب من خلال نشر أعمالهم،حينئذ يجدون أنفسهم بلا مصداقية في نظر الهواة المنشغلين بالحقيقة والهوية،وبلا جمهور مضمون. يمكننا بهذه الكيفية أن نعزي جدال الطليعيين حيال التحدي الذي طرحته الواقعيات الصناعية وكذا الإعلام الجماهيري على فنون الرسم وكذا السرد. لايعمل مفهوم''الفن الجاهز"لمارسيل دوشامب سوى الاستدلال بحيوية وبشكل ساخر عن هذا التطور الثابت فيما يتعلق بالتخلص من حِرْفة الرسم،بل والفنانومثلما أشار تييري دو دوف على نحو ثاقب،فالقضية الجمالية المعاصرة،لايتمثل هاجسها في :ما الجميل،لكن : ماهو الفن (وكذا الأدب؟).  

إن الواقعية المتطلعة من خلال تعريفها الوحيد إلى تحاشي سؤال الواقعية الذي يتضمنه إشكال الفن،تجد دائما نفسها في مكان ما بين الاتباعية والفن الهابط. حينما تسمى السلطة حزبا،تتغلب الواقعية مع صيغتها الأخرى المتمثلة في الكلاسيكية الجديدة،على الطليعة التجريبية بفضحها ومنعها.أيضا يلزم الصور"الجيدة''، والحكايات "الجيدة''، ثم مختلف الأشكال الجيدة التي يلتمسها الحزب، المنتقاة والمبثوثة،العثور على جمهور يرغب فيها مثل دواء مناسب للاكتئاب والقلق الذي يعيشه.التماس الحقيقة الواقعية،أي الوحدة، والبساطة،والتداول،إلخ،لم يكن لها نفس الزخم أو الاستمرارية لدى الجمهور الألماني فترة مابين الحربين وكذا الجمهور الروسي بعد الثورة :ثمة مايؤكد الاختلاف بين الواقعيات النازية والستالينية.

بيد أن مناهضة التجريبية الفنية تصبح رجعية أساسا،حينما تلتقطها حمولة  الجهاز السياسي:حينئذ يتوجب فقط على الحكم الجمالي إبداء رأيه بخصوص خضوع هذا العمل أو ذاك لقواعد فنية ثابتة.عوض أن ينتاب العمل الفني القلق بخصوص مايجعل منه موضوعا فنيا،وإذا كان بوسعه مصادفة معجبين،فالتقليد السياسي يقر بمعارف قبلية حول ''الجميل'' ومن ثمة تكريسها،تنتقي أعمالا وجمهورا مرة واحدة وإلى الأبد.لذلك تستثمر المقولات في الحُكم الجمالي بنفس كيفية الحُكم المعرفي.ولكي نتحدث على منوال كانط،ستأتي الأولى والثانية في صيغة أحكام قطعية :اختبر التعبير''تهيئا جيدا''ضمن إطار الإدراك أولا،ثم لانستعيد مع التجربة سوى''الحالات'' التي يمكن التفكير فيها شموليا من خلال ذلك التعبير.  

حينما تستدعي السلطة رأس المال،وليس الحزب،سيبدو الحل''المغاير للطليعي''أو ''مابعد الحداثة"حسب معنى تشارلز جينكس،أكثر ملاءمة من الحل المضاد للحداثة.تعتبر الانتقائية بمثابة الدرجة الصفر للثقافة العامة المعاصرة.نسمع الريغي،نشاهد الويسترن،نتناول الطعام في ماكدونالد عند الظهيرة ثم نهيئ وجبة محلية ليلا،نتعطر بعطر باريسي في طوكيو،ثم نرتدي زيا تقليديا في هونغ كونغ،فالمعرفة مادة لعبة تلفيزيونية.يسهل العثور على جمهور بالنسبة للأعمال الاليكترونية.حينما يتجلى الفن بكيفية رديئة،فإنه يمدح الفوضى التي تتسيَّد''ذوق''الهاوي.يرضى الفنان،ومدير الرواق،والناقد والجمهور بأي شيء،فاللحظة مناسبة للفتور.لكن هذه الواقعية المتعلقة بالهراء تمثل مجالا للمال:مع انتفاء المعايير الجمالية، سيظل بالإمكان والأفضل تقييم قيمة الأعمال تبعا لما توفره.تتكيف هذه الواقعية مع مختلف الميول،مثل صنيع رأس المال بالنسبة لكل'' الاحتياجات''،شريطة امتلاك الميول والحاجات، قدرة شرائية. أما بخصوص الذوق،فلسنا مضطرين كي نتحلى برهافة الحس حين التأمل أو التسلي.

يواجه البحث الفني والأدبي تهديدا ثنائيا،من طرف"السياسة الثقافية"،وتارة أخرى بفعل سوق الفن والكِتاب. تكمن النصيحة التي يتلقاها من طرف هذه القناة،أو تلك،في تقديم أعمال متصلة أولا، بموضوعات ماثلة أمام أنظار الجمهور الذي توجهت إليه،ثم تصبح بعد ذلك جاهزة("محكمة الصنع")بحيث يتعرف هذا الجمهور على قصدها،ويفهم دلالاتها،ويمكنه في ظل ذلك إبداء موافقته أو العكس،بل وحتى إن أمكنه الأمر،استخلاصه بعض الطمأنينة، من الأعمال التي استساغها.    

*المصدر :

Jean-Francois lyotard :Le postmoderne expliqué aux enfants ;correspondance(1982- 1985) ;Galilée ;1986.PP/9- 23.

(1)  حتما يقصد ليوتار هنا؛ الكتاب المشترك بين جيل دولوز وفليكس غاتاري(المترجم).   

(2)يسمى هذا النظام اللساني الجديد؛ ب Adlinguistique : (المترجم).

 http://saidboukhlet.com