الاثنين، 31 ديسمبر 2018



من ألبير كامو إلى ماريا كازارس(الرسالة10 و11)  *
ترجمة: سعيد بوخليط

* الاثنين 17يوليو 1944
                                  (الرسالة رقم10)
لم أكتب إليكِ،منذ يوم الأربعاء.وقلبي لم يتوقف عن الإحساس بالاختناق كما لو تمسكه  كمّاشة.حاولت القيام بما يتحتم القيام به حتى أتخلص من هذه الفكرة الثابتة التي تسكنني.لكني عجزت عن القيام بأي شيء.قضيت يومين بأكملهما تماما،أقرأ دون ترتيب وأدخن،لم أحلق ذقني،وإرادتي مشلولة،الإشارة الوحيدة التي بعثتها لكِ في خضم كل ذلك،تحيل على رسالتي ليوم الأربعاء.أظنني سأتلقى اليوم جوابا عنها.أهمس لنفسي :"ستجيب.وتعثر على كلمات تخلخل عقدة هذا الأمر الضاغط علي بفظاعة''.لكنكِ لم تكتبي.
لا أعتقد أني سأرسل لكِ هذه الكلمات.لاتحضرني راهنا فكرة الكتابة نتيجة حالة قلبي الراهنة.رغم ذلك أكابد صعوبة منع نفسي كي تبوح لكِ أنه منذ أسبوع أو أكثر،أعيش نوعا من التعاسة الباعثة على الاشمئزاز بسببكِ،ولأنكِ لم تأتي.آه!صغيرتي ماريا، أظنكِ حقا لم تفهمي أو تستوعبي أني أحبكِ بعمق،بكل قوتي،وذكائي وقلبي.لم تعرفيني سلفا حق المعرفة،لذا استعصى عليكِ استيعاب شخصيتي.رغم حديثكِ ذات يوم عن حس التهكم المميز لطبيعتي وهو تقييم صحيح.لكن إلى أين ذهب مختلف ذلك ؟إن كان بوسع شخص مثل جانين قراءة ماكتبتُه أو الإصغاء إلى اللغة التي تمسكتُ بها لحظة عدم لامبالاتكِ المطلقة،فأصيبت بالانذهال .مع ذلك،تفترض أني أعشقكِ.لكنها غير مدركة بتاتا، وأنتِ معها ،مستوى الولع والإلحاح والجنون.لم تفهمي أني ركزت فجأة حول كائن واحد قوة شغف وزعته سابقا قليلا في كل مكان تقريبا، صدفة، ثم خلال كل المناسبات.
نتج عن ذلك، نوع هائل من الحب يتطلع إلى كل شيء لكن يستحيل بالنسبة إليه تجاوزكِ.فالفكرة التي تلاحقني منذ أسبوع وتعصر فؤادي،أنكِ لا تحبينني.أن تعشق كائنا،لايعني فقط مجرد إخباره أو الإحساس بذلك بل الإقبال على ممارسة أفعال يقتضيها المقام.وأعلم يقينا أن حركة هذا الحب الذي يكتسيني تدفعني نحو عبور بحرين وثلاث قارات حتى أكون قريبا منكِ.ذللت مختلف العوائق في سبيلكِ،ولم يعد غير القليل.لكن تصوُّري بهذا الخصوص- فكرة تؤلمني- أنكِ افتقدتِ،نعم أنتِ الملهبة جدا والمدهشة كثيرا،تلك الشعلة التي كان بوسعها الاهتداء بكِ نحوي.إذن، جراء تأخركِ، يتضاعف قلقي كل يوم.فعلا راسلتيني،لكن دون أي امتياز وأنتِ تكتبين في ذات الوقت إلى المتواجدين معي.بدورهم،تبعثين لهم قبلات وتناديهم بنفس أسلوب مناداتي.بالتالي،أين الاختلاف؟سيتجلى الفارق في تغلبكِ على جل العقبات، ثم أكتشف وجهكِ أمام وجهي كي نعيش معا، وحدنا فقط، أنت وأنا،وسط هذا العالم،ونشكل وقائع أيام مجد وكذا تبرير لكل حياتي.لكنكِ  لم تأتي.ثم  اقترب يوم رجوعي ولم تأتي.هل تدركين دلالة مختلف ذلك بالنسبة لكل مجرى حياتي.
ماريا،عزيزتي،عشقي الغالي؟هل تدركين أيضا بأن الإلحاح  الذي يصطحبني في كل مكان وخلق مني حقيقتي الحالية،قد بلورته كذلك من خلال هذا الحب المنبثق سريعا ويغمرني اليوم كليا.فكرة أن تحبيني ولو قليلا، تكفيكِ حتى يخطر إلى ذهنكِ مخاطبتي بواسطة رسالة،لكن ذات الفكرة غير كافية لنسيان كل شيء،ولا لأخبركِ بأن ساعة واحدة برفقتي تساوي حقا يوما أقضيه وسط الغابات مع أي أبله من المحيطين بي، خلاصة كهذه تقلب كياني.نفسي مستاءة منذ أسبوع،ومجروح كبريائي الذي ركّزته أيضا بسذاجة حولكِ. حضرت لدي تصورات شتى ووضعتُ مخططات عديدة.منذ يومين أو ثلاثة، خمنتُ في امتطاء دراجتي والعودة إلى باريس.حلمتُ قليلا، ثم همست: "أغادر في حدود الساعة صباحا وعند الساعة الحادية عشرة، سيكون بوسعي احتضانها''.لمجرد هذه الفكرة وحدها،أشعر بارتعاش يدايّ.لكنكِ لاتعشقينني،فما جدوى السعي؟أيضا،قفزت إلى ذهني مسألة وضع نهاية لعلاقتنا،غير أنه يصعب علي آنيا تصور حياتي بدونكِ وأعتقد بأني سأكون كذلك نذلا للمرة الأولى طيلة حياتي.بالتالي،أنا محتار حقا.ببلاهة،لازلت،إرادتي مرهونة بكِ :"سأتوصل برسالة منها!"هكذا الأمر  وأجزم بأني لست فخورا.أتجول هنا،بين هذه الكائنات الثلاث المتألمة نفسيا،وتكابد على نحو عبثي ثم يجدر بي الإصغاء والمراعاة،أو المواساة،مع كل حمولة الأسئلة المادية المتعلقة بي، في حين أريد بدوري، الالتجاء إلى الدائرة الموجعة لهذا العشق متكتما على أمري وأواصل معاناتي في صمت.
في خضم جل ذلك،أحس بالغيرة،قدر ما يقتضيه السياق من البلاهة.أقرأ رسائلكِ ومع ذكركِ لاسم أيّ رجل أشعر بجفاف في لساني.فأنتِ لا تخرجين سوى صحبة رجال.وضع طبيعي بالتأكيد. إنه شأنكِ، ومهنتكِ، وحياتكِ.لكن ما العمل بعشق عادي،بينما أمضي كليا نحو العنف والصراخ. قطعا ليس هذا بالتصرف الذكي.لكن ماجدوى الذكاء حاليا؟.
مثلما تلاحظين،أعرض مختلف الحيثيات على الطاولة،الأزرق إلى جانب الأبيض،ولا أخفي قط شيئا.لكني لم أظهر بعد مايكفي من الصراخ والانفعال. منذ أسبوع تقريبا، أمسكت عن الكلام،أحتوي الأمر،أراعيه وأقلِّبه من كل الوجوه.لكن أنا من قضى حياته مسيطرا على أوهامه،أجدني اليوم فريسة لها،وبصدد مجادلة أوهام.آه ماريا!،حبيبتي ماريا،لماذا تركتيني على هذا المنوال ولم تفهميني؟
سأنتهي هنا، يستحسن التوقف، أليس كذلك؟لقد أتعبتكِ وربما تفكرين بضجر،بينما أخط هذه السطور،أنه يلزمكِ على أية حال الحضور إلى هنا.لا أريد أسى في هذا السياق.أنتِ من كان في مقدوره،قبل أيام،أن يحيطني بهجة، لو هرعتِ نحوي، بكل قوة الحب،آه !لقد توقفتُ عن التطلع صوب ذلك.حقيقة،لاأعرف أبدا ما بوسعي توخيه،بحيث أتخبط وسط هذا الشقاء،وأشعر بكوني أخرق،تائها إلى حد ما،عموما،أنا متألم،نعم أتألم بشدة .كثير من الحب،ممزوج أيضا بكثير من الإلحاح،والكبرياء،لايمكنه بديهيا الإتيان بالأفضل،بالنسبة لنا معا.آه ماريا! ماريا عديمة الذاكرة بشكل مهول،لن يحبكِ أبدا شخص ثان كما أحبك.قد تصرحين بهذا عند نهاية حياتكِ لما يصير في وسعك أن تقارني، وتلاحظي وتستوعبي وتفكري ثم تخلصين إلى التالي : "أبدا لم يعشقني شخص بهذه الكيفية".لكن مافائدة هذا إذا(المعنى غير تام لأننا لم نستطع قراءة كلمتين وردتا في رسالة كامو).وكيف سيكون مآلي إذا لم تحبيني مثلما أتشوق إلى ذلك.لست راغبا في أن تكتشفيني "جذابا"، ولاعطوفا ولا أي حقيقة أخرى،أحتاج فقط إلى حبكِ وأقسم لكِ أن المعنى ليس نفسه.عموما،لن تنتهي هذه الرسالة أبدا.لكن أيضا ما يسكن دواخلي يأبى الانتهاء.اعذريني،صغيرتي.وددت لو صار كل هذا مجرد وهم ،بيد أني أومن قطعا أن قلبي لايخطئ أبدا.لا أدري تماما ماينبغي القيام به،ولاقوله.طبعا،لو كنتِ هنالكني سأرحل قريبا.يمثل هذا الانفصال،فخَّا رهيبا لحبنا،وقعت فيه أنتِ،أما أنا فلم أكن قط بهذا القدْر متجردا،وأعزل.
أقبِّلكِ،لكن مع هذه الدموع التي تخنقني وأعجز عن ذرفها. 
             
                         (الرسالة رقم11) 
                                                                                   
*الثلاثاء الثالثة ظهرا،18يوليو 1944
توصلت قبل قليل برسالتكِ.حاولت أن أهاتفكِ،لكن خط الاتصال بين باريس وفيرديلو، غير فعّال حاليا.يلزمني إذن أن أكتب إليكِ خلال أسرع وقت ممكن ما أود البوح به لكِ.
لم أراسلكِ منذ خطابي الأخير والذي انتقدتيني بسببه.مع ذلك،كتبت لكِ رسائل حمقاء فضلت الاحتفاظ بها.الشيء الوحيد الذي الجيد معرفته بالنسبة إليكِ، يتمثل في كوني قضيتُ أسبوعا رديئا.لكني أرى اليوم عدم جدوى إقرار أحدنا للثاني بتعاستنا المشتركة.لاتقوم إلا طريقة وحيدة قصد توضيح جل ذلك،أن أجدكِ أمامي. إذن أريد منكِ إخباري(بواسطة رسالة، أو أتلقى إشعارا بمكالمة هاتفية،بحيث يمكنني لحظتها الاتصال بكِ في حالة إصلاح الخط الهاتفي) :
1)جواب إيجابي أو سلبي،يهم  تأكيد قرار مجيئكِ أو احتمال ذلك.
2 )إن كان نعم،متى تحديدا،أريد موعدا مضبوطا جدا. 
إذا لم يكن في وسعكِ القدوم،فسأعود بكل بساطة،إلى باريس خلال أربع وعشرين ساعة.لست مهتما بصحتي،ولاعملي،بل أحبكِ أنت.إذن،أدرك استحالة الانتظار.
كما تلاحظين،كل شيء واضح جدا،وفي غاية الهدوء حاليا .بالنسبة لما تبقى،فلا أريد سواء الاعتذار عن  أي شيء  أو الاحتجاج.لكن إذا حاولتِ السعي بدوركِ الإصغاء منتبهة إلى هذا الصوت الداخلي الذي لم يتوقف منذ ثلاثة أسابيع على مناداتكِ،ستدركين بأنه لن يعشقكِ أبدا شخص آخر كما أفعل أنا.
إلى اللقاء،حبيبتي الغالية.أنتظر جوابكِ.في كل الأحوال،أعرف أني سألتقيكِ قريبا.فقط وحدها هذه الفكرة،تجعلني أحس بارتعاش يداي.
أبعث إليكِ هذه الرسالة بواسطة صديق ينوي التوجه إلى باريس،حتى تتوصلين بها بأسرع وقت ممكن.                              
    المصدر :
. Albert Camus/MariaCasarés :correspondance (1944-1959) ;Gallimard ;2017
                           

السبت، 22 ديسمبر 2018


 عبد اللطيف اللعبيفواكه الجسد
سعيد بوخليط
عن منشورات مرسم بالرباط (2005)،صدرت للشاعر عبد اللطيف اللعبي مجموعة شعرية اختار لها عنوان، "فواكه الجسد" أو " les fruits du corps" ، مادام أن اللعبي، فضل وبتقليد جديد،كتابة نصه في ذات الوقت بالعربية والفرنسية على البياض ذاته. وأشار في صيغة تقريرية جازمة، وباللغتين: "الترجمة العربية للمؤلف"/ " Traduction Arabe de l'auteur"ما معنى ذلك؟ ربما:
- فضل الشاعر الحفاظ على عذرية، وطهر، وكذا شفافية نصوصه. لذلك ترجمها بنفسه،حتى لا يتم "اغتيالها"معنويا وماديا من قبل الآخر، خاصة وأن الشاعر وحده قادر على التقاط تضمينات همس نصوصه.
- يريد اللعبي إظهار قدرته على محاورة العربية والفرنسية معا،أو بالأحرى عشقه لهما،بالتالي عدم حرمان تلك العواطف الجميلة والمتدفقة شموخا، من دفء سرير ناعم، ولين،كما الحال مع هاتين اللغتين الأنيقتين.
- ربما يبتغي الشاعر بشكل مطلق، القدرة المدوية للقصيدة المباغتة بالخصوص. مما يضعف مسألة هوية اللغة بالمعنى الواحدي، الميتافيزيقي، والمؤسساتي. قضية غير ذات دلالة.
- توظيف لغتين، يشير بكيفية ما،إلى أن مشاعر الحب والعشق لدى الشاعر، قد لايكفيها بوح لغة واحدة. بالتأكيد لا يمكنه الصمت، لأنه لا يملك سوى صهوة لغته.
- تمثل نفس الجسد الشعري للغتين، يمارس لعبة تمويه ذكية على القارئ المتيقظ خاصة، وبشكل مضمر إيقاظ حواسه. تتلاشى هنا كل التحديدات الهندسية، يتحول البدء إلى وسط والنهاية إلى خط حلزوني. لأن القصيدة،لا نكتبها جراء تمارين حجرات الأوراش الاحترافية أو فوق كراسي المدرسة،ولا حتى بعد الحصول على ديبلومات علوم اللغة. فقط تقوم القصيدة، حينما تريد لذاتها ذلك أساسا،مؤمنة حقا بضرورة الاحتفال.
- ظل اللعبي، يتحدث دائما عن التزاماته الإنسانية والمبدئية. ماذا بوسع الشاعر قبل كل شيء نشدانه؟غير حقنا جميعا في أن نكون.
- يلعب فضاء البياض، دورا تأسيسيا بخصوص البعد الدلالي للكلمات. هناك قانون فيزيائي،يقول أن الطبيعة تخشى الفراغ. والفراغ مع اللوغوس الشعري، يشكل ميتا- لغة قليلا ما يلتفت إليه القارئ. رنين ودوي الكلمات،يشغل الفراغ. الفراغ، بمثابة حيز مطلق للشاعر، يعطيه هذه القدرة الكبيرة على التخلص من شَرَكِ أفخاخ اللغة. انطلاقا من المعادلة الأنطولوجية التالية: بقدر ما نتكلم أو نكتب، فإننا نُختزل.
-هل نقرأ إذن"فواكه الجسد" من اليمين إلى اليسار،أو العكس؟ في رأيي مسارات لا تهم. الشعر يصرخ في وجه كل الجغرافيات.
- يباشر الترجمة هنا الشاعر نفسه، قد يتوخى دائما احتضان نصوصه حتى لا"يغتصبها ''آخر ما باسم اللغة. لانترجم الشعر، بل نعبّر عن إعجابنا وافتتاننا بهذه القصيدة أو تلك،من خلال اللغة التي نتمكن منها أكثر. فالمشاعر بطبيعتها صاخبة وثرثارة وإلا فإنها مجرد غيرة قاتلة.
غالبا،ما تحدث مفارقة صارخة وسيئة كذلك، ضمن أية مقاربة تأويلية لأي نص جمالي . إذ يقع بشكل واع أو لا واع إسقاط مجموعة من الأدوات النظرية والمنهجية، على جلد نص ناعم جدا قد لا يتحمل كل الثقل الملقى. يفتقد النص في لحظة ما، هذه اللغة المكثفة جماليا ولذته خاصة. بمعنى ثان، قد يسعى المؤول إلى استنطاق النص انطلاقا من أجهزته النظرية، وكأن النص مربع هندسي لمجموعة من القياسات الجاهزة.
أعتقد بأن نصوص اللعبي، من أكثر المتون التي لا تتحمل رؤية إقرارية كتلك. بل تتوخى على العكس ، نوعا من القراءات الحالمة، الحميمة،العاشقة، والدافئة. يشبه الوضع،ذلك الإحساس الذي ينتابك وأنت تسافر في ليلة مقمرة،تحت سماء صافية،على متن باخرة تحملك إلى مكان ما بجزيرة كابري Capri . تعطي لمخيلتك كامل جدواها، دون أن تحس بأي رغبة في التفكير. الحلم فقط!!
قصيدة اللعبي جميلة جدا،ومحلقة ومبدعة غاية حدود الكون. سر ذلك حسب ظني،يعود لكون الرجل يكتب بقلبه أكثر. عنصر الصدق مهم في هذا السياق. النصوص الكبيرة، تظل باستمرار عملية تشييد للحياة، نابضة كأنها كتبت للتو.
الصدق كذلك،ليس بمفهومه الأخلاقي أو المعياري، لا يهمني. لأن المشاعر فوق ذلك بكثير. لكني أحيل هنا على قضية تحويل الكتابة إلى اعترافات دائمة للجسد. لا نكتب على موعد مع الزمان،بل نرسم خطى اللحظة على الرغم من جماجمنا.
مع هذه اللوحات الشعرية للعبي، فإن بياض الصفحة حتى وإن ظل دائما عند أغلب عتاة الكتابة صحراء وعرة وشاسعة، يصعب الرهان على أي مرمى منها - لهذا ظلت نصوصهم تحاور بدءها باستمرار - يؤسس لنوع من اللوغوس الشعري.
تثير لعبة المعجم في "فواكه الجسد"، وبامتياز مساحة تأملية أخرى. إنه التعدد والتحرر والإيروس والفتوة والرغبة الدائمة والحياة المتجددة والأحلام الدائمة واللحظات التأسيسية ... الجسد هو الشبق والصفاء والمرأة والوعي الدائم بالحياة الحقة قلبا وقالبا.
الجسد هنا، لا كقيمة رمزية أو حمولة فلسفية، لكنه يتلمس بكل بساطة في وقائعيته وفوريته. الجسد كتضاريس يومية، ونزوع لتلبية مجموعة من الغرائز. الجسد في "فواكه الجسد" هو الأطراف والأصابع والأذن والأثداء والأرداف... باختصار الرغبة. كل شيء يقدمه هذا الجسد، حتى اللغة. إنه مدرسة قائمة بذاتها. والجسد لا يجد لغته إلا بالجنس، الذي يستحضره اللعبي كممكن حقيقي لتحليق الجسد. هؤلاء الذين يحللون ويحرمون بمنطقهم، وهو منطق بطبيعة الحال لا يفقه شيئا في شاعرية التلاوين الإيروسية للجسد:
"عندما يتطفل الفقهاء
المعممون أو غير المعممين
على الجنس
يقطع ذلك علي شهيتي" (ص60)
يفسدون ذلك بغبائهم وريائهم ونفاقهم. وقد يرسمون العالم حسب رؤوسهم الصدئة، فيحولونه إلى صيحات مغارة.
بطبيعة الحال، لغة الجنس هنا راقية جدا ومتحضرة. تتحول معه المرأة إلى مجال منفتح للممكن والعشق بمشاعر ذكية وحواس حالمة. هي الطفل والبراءة والصدق والحميمة والعفوية والجرأة والرغبة والجموح والشبق و الإيروس…، والموسيقـى والأجفان واللهـب والجمـرة...
لا نقتل بالجنس انكسارات واغتيالات اليومي،هكذا تبدو المرأة قضية إيديولوجية لا أكثر. لكننا بالجنس نحاور أجسادنا، ونتعلم المجازفة. دون ذلك، يصير الوجود ترانيم بلهاء.
لا قوة في العالم بإمكانها إذن، أن تحدد لهذا الجسد مايمكن فعله أو لا ! أي دين أو زعيم أو لغة أو وصية أو وثيقة أو رؤية أو موعظة...! تستطيع موضعة هذا الجسد ضمن إطار بوتقة مفهومية، وإخضاعه لجداول ومعادلات!
يؤسس الجسد مراسيم  للاحتفال، نوقع به ومعه على مجالات اللانهائي. إنه الوسيلة التي نغزو بها العالم. وتظل القصيدة أكبر عنصر للاختراق والاستوطان. نسكن ذواتنا، وتعانقنا أحلامنا ثم تتحول الموت إلى تمارين مسائية لليوغا.
وحده منطق الرغبة يؤكد عند اللعبي، هذا الانفلات الشعري الذي لايمكنه خلخلة اللغة، إلا بالتخلص والقطع مبدئيا مع كل الضوابط والأعراف والمنظومات سواء كانت لغوية أو ثقافية أو اجتماعية. القصيدة لا تاريخ لها،بالمعنى الرسمي للكلمة،لا تنحني بل تندهش وتستفز. بالتالي، حينما نتوخى خلق حوار مع المرأة، يجدر بنا في حقيقة الأمر أن نفقد الذاكرة ونتخلص من حكايات الراوي. باختصار، نتحول إلى أطفال.
الرغبة حلمنا وفسحتنا وصوتنا غير المبحوح. قد نصرخ بأعلى قوة فينا، حتى في وجوهنا. الرغبة تنمي ما تبقى لنا. يكفينا أن نتخيل، حتى تتلاشى مغارة الرهبان.
قد تخدعنا أحيانا لعبة الجسد هاته،وربما تكون مخادعة، فاشلة،غبية أو حتى حقيرة، كما قد يسطو علينا الجسد أحيانا، ويحولنا إلى آلات رهيبة وفوق العادة، بليدة.
مع نصوص على هذا النحو، نتمرأى ذواتنا ولادة جديدة دائما، وفتوة مطلقة. أجسادنا، قيمتنا المستمرة . لا نستوطن ولكننا ننساب مع ممكنات الرحيل. أجسادنا، نبيذنا المسائي، مع حكايات الينابيع والموسيقى والشعلة المتعبة. آه ! يلبسنا جسد مرتج.
لن يبقى للشاعر غير جسده، يحتفي به وبقصيدته، حتى يمارس حقه المشروع في أن يحمل راية العصيان على كل المنظومات والقواعد التي تملي علينا بعجرفة ووقاحة طبيعة الكائن والممكن. الشاعر سعيد بجسده، يقدس مشاعره ويحترمها بشكل حضاري، لأنه لا يتوخى أي شيء غير دفء الحميمة.
الجسد مصيرنا السرمدي، قد لا يتحملنا العالم. لكن، تضاريس العشق والتماهي، تشكل لنا طوبوغرافيا التوخي والابتغاء. نموت، بلا كلل أو سأم، لكننا نولد بالكاد. متى تولدون؟. القصيدة تتحمل حماقاتنا عن طيب خاطر، نعترف لها وبها وحيث هي دون عواطف مجانية.
ليست "فواكه الجسد" باعترافات ليلية أو سريرية في رأيي، بالرغم من غلبة هذا المكون على الإطار النظري لهذه المجموعة الشعرية. لكنها محاولة لتأجيج هذه الآدمية الراقدة والكامنة فينا، التي سعت كل المنظومات التوتاليتارية  أن تحولها إلى مجرد هامش للنسيان.
أمام تلك التي نعشق، فإننا نصير صبيانا صغارا، نكتشف جسدنا للمرة الأولى. ونكون عفويين إلى درجة يمكن أن يتحول معها العالم إلى خربشات على رمال شاطئية. من نعشق يعتبر يقينا، وما تبقى مجرد ضجيج بلا معنى. نتكلم جيدا وبفصاحة، دونما حاجة إلى بلاغة هؤلاء المدرسين القساة.
مع "فواكه الجسد"، ينهار عصر سوء الطوية، أنت سيد نفسك. تقول أولا تقول، لا يهم! القضية هي أن تكون ذاتك، رغم من كل شيء.
أن تبدأ بالنهاية، أو تنتهي مع البداية، فاللحظة الشعرية عند اللعبي،هي ذاتها. الشكل الهندسي الذي يتأتى لجسده، لا يمكن رسمه إلا على اللانهائي وسعادة المحو. لا يقبض القارئ على أي مؤشر لتحديد سيرورة تراكم الرؤى الشعرية، وربما تداخل نصين وتفاعلهما داخل نفس البياض يؤكد هذه الحقيقة.
الفهم الدائري للزمان. أو "تدويره"، يشير إلى ديناميكية على مستوى الذات والعالم والآخر والرؤية والعلاقات والتأسيس....توترات دائمة وراسخة، لحظة تلقي بك إلى أخرى. لأن القصيدة تمارس أنانيتها بشكل أعمى وهي تحتفل.
هامش :
1-    عبد اللطيف اللعبي: فواكه الجسد. شعر. منشورات مرسم 2005
                         


السبت، 15 ديسمبر 2018



لقاءات حوارية مع جوليا كريستيفا (الجزء الثاني)*
ترجمة: سعيد بوخليط

*جوليا كريستيفا: لقد كنتُ بلا بوصلة. رأيتُ مثل سراب تلك الأيام الأولى في ضيافة"ميرا''،احتفالات أعياد الميلاد وكذا  العطل. أول شيء مبهر اكتشفتُه برفقتها في باريس،تمثل في قداس عيد السنة الميلادية الجديدة لسنة 1965 .يرتدي النساء معاطف فرو بينما اكتسى الرجال أثواب كشمير، أنيقين ومميَّزين، فهل كانت تلك الأجواء المكتشفة والغائبة،التي سميتها فيما بعد ب"الاستخفاف الكاثوليكي"، بمثابة المحبة المسيحية؟دون رحمة ولا حماسة.يذوب الثلج على أرصفة باريس. ابتلع حذائي ماء كثيرا،ولم يكن في وسعي اقتناء آخر جديدا،ثم تائهة وسط هؤلاء الأفراد المتراكمين مثل رُزَم هدايا فاخرة،منغلقين ويصعب تحمّلهم.انطباع دام طويلا،حتى ولو أن الأصدقاء في مجلة"تيل كيل"،وزملاء الجامعة،ثم اختصاصيين نفسانيين،عملوا على استضافتي بصدق وحرص بل ومتضامنين.
*صامويل دوك :تزفيتان تودوروف،الذي أنهى وقتها كتابه :نظرية الأدب،نصوص الشكلانيين الروس"(تيل كيل، سوي1965 )،أخبركم عن "تيل كيل" ورولان بارت.هكذا قصدتم فورا محاضرات بارت وكذلك لوسيان غولدمان.ثم سرعان ما أصبح بارت صديقا قريبا جدا ولطيفا، ثم نصحكم جيرار جينيت كي تهتموا ب"مابعد- الرواية الجديدة'' والالتقاء ب فيليب سوليرز.خلال دروس رولان بارت،ستقدمون أول مداخلة لكم انصبت على ميخائيل باختين، فأرسيتم انطلاقا من ذلك معالم مفاهيم الحوارية والتداخل النصي،ثم صدر المقال في المجلة النقدية(أبريل 1967).نحاول أن نستحضر معكم هذه اللقاءات الأولى التي وسمت بعمق شخصيتكم. 
* جوليا كريستيفا : تحديدا قبل عطل الاحتفالات بأعياد الميلاد،توجهت إلى حضور درس رولان بارت،كان واقفا داخل قاعة صغيرة متواجدة في الطابق العلوي،بالجناح الأيسر من السوربون، يكتظ حوله حضور انتمى إلى كل أصقاع العالم طلبة ألمان،إنجليز،إيطاليين،إسبان،وطبعا،فرنسيين.جميع هؤلاء أثارهم تأويل حديث عن مالارميه أدلى به شخص يدعى فيليب سوليرز،الذي سمعت آنذاك عن اسمه للمرة الأولى.لكنه "شخصية مشهورة''،حسب أقوالهم.أيضا، تقدمت "مارت روبير''،الباحثة ومؤرخة الأدب،وزوجة المحلل النفساني ''ميشيل دو موزان"، بمداخلة تضمنت رؤية جديدة،مستلهمة للتحليل النفسي،حول الرواية عامة ثم كافكا خاصة.جاءت مقاربتها مخالفة للمألوف، مثيرة، لكنها تتلاقى بشكل من الأشكال مع  قراءتي لباختين.بعد ذلك، تواجدنا في شارع رينز،حينما استدعاني بارت كي  أدافع عن تأويلي لهذا الكاتب أمام جمهوره،بحضور روني جيرار،الذي التمس مني   الالتحاق بقِسمه جونز هوبكنز في جامعة بالتيمور .من جهة أخرى، بما أنَّه يلزمني الدفاع عن أطروحتي في بلغاريا، سأتوجه أيضا بتطلع كبير،إلى حلقة لوسيان غولدمان، منذ الشهور الأولى لإقامتي في باريس لقد ذاع صيته نتيجة تأسيسه لعلاقة طبعا جدلية، بين البنيوية التي شكلت حينذاك موضة، وفلسفة هيجل أساس الإيديولوجية الماركسية، التي يتحتم العودة إليها حتى ألج ثانية معهد الأدب في صوفيا،وقد ظهر لي أن درس غولدمان منحني''الجسر'' الضروري.كان الرجل موضوع تقدير كبير من طرف الطلبة الأجانب المنفتحين على الأفكار الجديدة،أي تقدميين،بحيث نسجت مع هؤلاء علاقات.هكذا،اخترت الانتماء إلى المدرسة التطبيقية للدراسات العليا(EPHE)،تحت إشراف لوسيان غولدمان،كي أشتغل على أطروحة لم ينصب موضوعها على الرواية الجديدة،بل أصول الرواية.لقد شكل فكر غولدمان،عبر اقتحامه باسكال،وإعادة قراءته لهيغل على ضوء جورج لوكاتش،الفيلسوف الهنغاري الشهير ومجدد الماركسية،المجال الأكثر قربا من تكويني الفلسفي في بلغاريا.مثلما انجذبت إلى بساطته الأخوية والأبوية،انطلاقا من طبيعة شخصيته باعتباره يهوديا رومانيا،سمة خلقت قطيعة مع الأسلوب المتحفظ للأساتذة.مع ذلك،مثلت لدي بنيوية بارت كامتداد للشكلانية الروسية،المرجعية الجوهرية كي أتبين أدبيات اللغة وكذا خصائص الأجناس الأدبية.بدت لي ضرورة ''إعادة سبك''هذين المقاربتين :التاريخ والبنيوية.يلزم بلا شك اللاوعي وكذا وقاحة الشباب حتى يتم الانكباب على هذه المهمة المستحيلة التي اقتضت، مع الوقت، التسمية الأولى: ما بعد البنيوية.بعد قضاء ساعات طويلة داخل المكتبة الوطنية في فرنسا،ثم ليالي لامتناهية مخصصة لقراءات، تحددت أفكاري وركزت حول الإشارة التالية ل أراغون، تقول : قبل فرانسوا  رابليه، كانت رواية : (le petit Jehan de Saintré) لمؤلفها"أنطوان دو لاسال"(1385-1461)،والتي جعلت من نشأة جنس ''الرواية'' أمرا جليا .لقد مثَّل ذلك أول مخطط ، مدرسي غير مكتمل، بخصوص مقاربة بنيوية وتاريخية، اهتمت بالمنطق الداخلي للسرد وكذا سياقه التاريخي والثقافي أيضا(قصيدة الغزل، الاحتفال، الوقائع العلمية والدينية).اشتغلت على الموضوع كمشروع لأطروحة للسلك الثالث،في إطار حصولي على منحة الدراسات،وقد أطَّرها لوسيان غولدمان،وناقشتها ضمن أجواء فورة غضب شهر ماي 1968 .بالرغم من إغلاق الجامعات،ثم وضعيتي كباحثة أجنبية.
*صامويل دوك : أيّ بدايات تلك ! تمنيت لو أني كنت حاضرا لحظة دفاعكم عن أطروحات منجزكم .
*جوليا كريستيفا :كانت لحظة مثيرة للشفقة!ارتباطا بأجواء الحقبة،تم الاكتفاء بتداول الأسماء الشخصية،فلوسيان،الذي رفع الكلفة دائما والتمس من الطلبة مخاطبته بغير رسميات،عمل خلال تلك المناسبة على تكسير الطقس المعتاد للمناقشة معلنا بشكل مباشر ضرورة أن تمنحني اللجنة لقب "دكتور في الآداب'' قبل كل مناقشة،لأن النص الذي تقدمت به كافيا لتقديم الدليل .هكذا، اكتفى غولدمان باستفساري عن مسألة واحدة لاغير : "ماتصوركم ل أنطوني غاودي؟"وفضل فتح  سجال أساسي : "لماذا تمنحون حضورا كبيرا للتحليل النفسي على حساب الماركسية؟هل سيكون الجنس،حسب تصوركم،أكثر أهمية من المعدة؟".أتذكر الملاحظة بحذافيرها.
*صامويل دوك :أسئلة غريبة جدا، تبدو غير متصلة بتاتا بعملكم.نقول ببساطة شديدة،أنه لم يقرأه.
* جوليا كريستيفا :بلى،قرأه !بعبارات مجازية، قابل المادية ("البطن'')مع المحددات النفسية-الجنسية وكذا البنيات المتأصلة للخطابات والأجناس.مهما يكن، فقد شعرتُ بالغضب،جراء وقع الكلمات الصادرة عن مدير أطروحتي.لحسن الحظ،عدت للتو إبانها من رحلتي الأولى إلى برشلونة فشاهدت البناءات الخيالية للفنان الكاتالوني ''أنطوني غاودي''.حسب نفس الذهنية،المحاربة للأيقونات،أجبتُ بأن الفيض الحٌلُمي ل غودي،لم يشترك في أي شيء مع الاعتدال المتعدد الأصوات لرواية : Petit Jehan de Saintré ،وأننا في هذا المقام بهدف التطرق إلى موضوع الاحتفال في الرواية ،وليس بنائها المعماري. مع اندفاعي المسعور ارتباطا بسياق لسنة 68،بحيث أجد اليوم سلوكي ذاك مضحكا،عندما استسلمت خلف فعل حقيقي قاتل للأب،وأنا أنعت الأستاذ غولدمان ب"الماركسي المبيد للأرَضَةِ"،و"شخص تجاوزه التاريخ"،ولايفهم شيئا في الثورة الفرويدية،كما توخى أن يفرض علينا كَبْتَه الخاص،وأشياء من هذا القبيل.اغرورقت عيناي لوسيان بالدموع،ولم نهتم قط بالاستماع إلى مدائح أعضاء اللجنة.ولكي أنهي حيثيات هذا الموضوع، أشير إلى رفض المقرر مصافحتي،حينما حصلت بعد المداولة على درجة الدكتوراه مصحوبة بتهنئات أعضاء اللجنة.ورغم حكمة "أنيي" زوجة غولدمان التي حاولت عبثا تهدئة تلك السيكو- دراما،فقد استمر حزينا جدا ،وأنا أشعر بالخجل.مع ذلك،لم يمنعه الخصام من ترشيحي للمنصب الذي أُخلي فيما بعد بالجامعة الحرة لبروكسيل،شرف لم أتمكن من القبول به خلال تلك الحقبة،مسؤولية تحملها "جاك لينهارت"بكفاءات تفوق كثيرا إمكانياتي الذاتية.فيما بعد،حدث أننا التقينا ثانية،مرتبكين لكننا مبتسمين ومطمئنين،مع ذلك التقاسم العميق بين باحثين ومغتربين،على الرغم من زيادة التباعد بين مساراتنا المهنية أكثر فأكثر.
* صامويل دوك : لايسعنا سوى استيعاب ردة فعلكم الحادة أمام كمية من مستويات سوء الفهم،بعد كل المجهود الذي بذلتموه من أجل دراسة رواية : (Petit Jehan de Saintré).ثم تابعتم مساركم بدراسة لنيل دكتوراه الدولة :ثورة اللغة الشعرية.طليعة نهاية القرن 19 : مالارميه ولوتريامون،سبيل قادكم إلى السيميولوجيا .
*جوليا كريستيفا :نعم أنجزتها تحت إشراف جون كلود شوفاليي،وتمت المناقشة أمام لجنة تألفت من رولان بارت،جان دوبوا ولوسيان فيبر،داخل فضاء جامعة باريس – فانسان سنة 1973 .
*صامويل دوك : إذن انتقلتم من عصر النهضة إلى القرن 19،مستندين على الأصول التاريخية، والفلسفية،ثم تلك المتعلقة بالتحليل النفسي وكذا السيميولوجي ثم استثمرتم مختلف ذلك لقراءة التيارات الطليعية.أتصور مدى إلحاحية التزامكم نظرا لمقتضيات هذا البحث الهائل.بماذا أحسستم حينئذ؟
*جوليا كريستيفا :تلك السعادة الكبيرة بأن تعيش مع نصوص هؤلاء الكتَّاب الذين وُصفوا بالغموض أو كونهم مزعجين جدا.تميز تاريخ فرنسا بالثراء خلال القرن 19 ،مع الحرب الفرنسية البروسية، كومونة باريس، الفوضوية، فصل الكنيسة عن الدولة،إعادة التقدير للبحر الشعري السكندري،ثم إبداع المقطع الشعري الحر.إذن يسير الجنون،جنبا إلى جنب،مع العقلانية الكلاسيكية.أولى بواكير السوريالية،تلك"الطليعة" المرتبطة بنهاية القرن والتي دفعتني صوب قراءة وكذا إعادة قراءة ظاهراتية هوسرل،سيميولوجيا دي سوسير وهلمسليف،ثم ميلاني كلاين وجاك لاكان. وحتما، هيغل،الاسم الذي لامناص منه!تحديدا لكي أستدرجكم نحو قلب معركتي،فقد اخترت توضيح هذه الجملة الهيغيلية :"ما يهم إذن في الدراسة العلمية،أن تأخذ على عاتقك المجهود المتوتر للمفهوم".أود قول!بل وأكثر،أني انغمست تماما في تاريخ فرنسا،نظرا لقناعتي بأن المعنى ليس فقط بنية،بل يحدث في التاريخ.درست أبحاث المؤرخ روني ريمون حول تلك الحقبة،ثم اجتمعت به حتى أستفسره عن التيارات الدينية وكذا الفوضوية الأدبية التي ارتبط بها مالارميه،ثم بعد ذلك،استشرت معه في موضوع إميل  زولا وقضية دريفوس.صادفته ثانية،بعدها في الكوليج الجامعي الفرنسي،الذي أسسه فرانسوا ميتران صحبة ماريك هالتر،في موسكو.أخيرا،مناقشة أطروحة اللغة الشعرية، سنة 1973،جسَّد بالنسبة إلي اختبارا حقيقيا تدريبيا،أمام "الجسم الجامعي" الذي كان بصدد التجدد مقتفيا أثر ماي 68 .بهذا الصدد،أفرط رولان بارت في مدحي،موقف لم يرق للجميع :"تتمثل الرواية حاليا،في هذه الأطروحة"،هكذا يكشف عن موقفه النقدي،بكيفية مهذبة،جريا على عادته. 
*صامويل دوك : الأدب والعلم،ثنائية توخيتم تقليص المسافة بين عنصريها. لقد هيأتم أطروحة انطلاقا من كونكم باحثة تنتمي إلى المركز الوطني للبحث العلمي، وتحديدا شعبة سيميائيات اللسانيات لمختبر الأنتروبولوجيا الاجتماعية بإدارة كلود ليفي ستراوس.كيف تجلت علاقتكم بالأخير؟
*جوليا كريستيفا : لقد شكَّل كتابه :"البنيات الأولية للقرابة" وأساطيره،عناوين قراءاتي المفضلة.كلود ليفي سترواس،الذي تمتع على الوجه الأكمل بالتميز والأناقة،كان صاحب شخصية مهيبة.سعى باستمرار إلى تشجيع عملي،بعد أن وضع رهن إشارتي بحفاوة مختبره،واستفدت من الدعم الفعال لمساعده إسحاق شيفا،الذي قدم لي يد العون في ملء ركام وثائق مخصصة للمركز الوطني للبحث العلمي وكذا مصالح التأشيرات.هكذا ارتبطت بصداقات حقيقية داخل المختبر، مع : نيكولا بيلمون، موريس غودوليي،فرانسواز إيريتيي.أشرف ليفي ستراوس بصرامته الجليدية على هذا الفريق الذي كان يحبه.كنت أشتغل داخل المكتب السيميائي- اللساني للمختبر حتى  وقت متأخر من الليل،إلى درجة تعميم رسالة إشعارية تشتكي من السيدة كريستيفا لأنها تترك المصابيح مضاءة .مؤاخذة أشعرتني بالذعر،على الرغم من كونها جاءت مشفوعة  بابتسامة متساهلة ولم يستتبع ذلك أي عقوبة.
*صامويل دوك : في روايتكم الساموراي(1990) يحضر أعضاء مجلة "تيل كيل" وكذا العديد من المثقفين الذين داروا في فلك صاحبها فيليب سوليرز : جان لوي بودري، مارسلين بلينيت،جان ريكاردو،جاكلين ريسيت،دينيس روش،بيير روتنبرغ،جان تيبودووكذا المستبعدين المنشقين،مثل جان إيديرن أليي وجان بيير فاي،لكن كذلك شخصيات تقاطعت مع هذه الحركة، ضمنهم جاك ديريدا، ميشيل فوكو، بيير غويوتا،جان جوزيف غو،فرانسوا وول  أو أمبرتو إيكو….كيف حدث اللقاء مع المجموعة على أرض الواقع؟وكيف تطورت العلاقات مع كل عضو من أعضائها؟بالرجوع إلى إحدى الصور الفوتوغرافية المُؤرِّخة لتلك الحقبة،تظهرون وسط هؤلاء الرجال،مبتسمة، متألقة،وذات إشعاع. 
*جوليا كريستيفا : لم تكن المجموعة ''متكتِّلة''ولم أحضر قط إلى أي من اجتماعات هيئة التحرير،كما أن اسمي لم يدرج ضمن قائمة تلك الهيئة سوى متأخرا .علاقاتي مع كل واحد وواحدة من هؤلاء – أفكر خاصة في جاكلين ريسيت التي أحببتها كثيرا،ولم أستسغ حتى اللحظة موتها المفاجئ – ظلت مختلفة جدا، نوعية، وفريدة،ولم أكن مجرد طيف وسط تجمع. بيد أن الدوران تمحور حول المركزي :فيليب سوليرز ! .
*صامويل دوك: بالتأكيد يعتبر الأساسي،وسنعود إلى الحديث بإسهاب عن هذا الموضوع. حاليا، أريد فقط تتبع خيوط مساركم الفكري،مع أنه قد يظهر لكم السعي متكلِّفا.لكن، يصعب قول كل شيء دفعة واحدة، بل مجبرين على القيام بإحداث تقطيع بين الفينة والثانية،فيما يتعلق بتجربتكم المكثفة والمتداخلة.كيف اهتديتم إلى الالتقاء بفيليب سوليرز؟
* جوليا كريستيفا : بعد اطلاع جيرار جينيت،على مضامين لقاء مع هذا الكاتب الشاب في مجلة : ''clarté"،نصحني بقراءته وإجراء حوار معه،وهذا ماقمت به فعلا.سأعود معكم لاحقا إلى هذه المسألة.في جماعة "تيل كيل'' سيعرفني سوليرز أولا ب مارسلين بلينيت وزوجته، اللذين كانا قريبين جدا منه.لكن، أساسا، التقينا رولان بارت باستمرار،وجلسات عشاء طويلة ملؤها المودة في مطعم : "le falstaff "بمدينة مونبارناس،حيث نسبر أغوار موضوعات الأدب والكتابات المتداولة، وأيضا ما يتعلق بأبحاثي، ثم عن الحياة السياسية قليلا،كان ذلك قبل ماي 68 ،واستمر الأمر بعد ذلك لفترة .بيد أنه لاشيء يظل على حاله، فقد عرفت حياة كل واحد منا انقلابا،وإن دام الانجذاب للكتابة الجامع بين ثالوثنا الغريبنهض بارت مغادرا عند حدود الساعة العاشرة ونصف ليلا قاصدا وجهة شارع سان- جيرمان،كي يمارس غزله وتحرشه، يتقاسمه شعور الارتياح و الانزعاج في نفس الوقت لأنه مضطر كي يؤدي ثمنا ل''عجرفة الفقراء"نتيجة مثليته الجنسية المحتشمة والمتضايقة،كما علِمتها لديه،المختلفة مثلا كثيرا،عن النمط الاقتحامي والنضالي لفوكو،التي تأكدَّت فيما بعد.
*صامويل دوك :كيف تحددون علاقتكم برولان بارت؟رفقة بين مثقفين، مودة متعاطفة، صداقة، أو ارتباطا أكثر دقة؟. 
*جوليا كريستيفا : حدث الاستئناس فوريا وبشكل تلقائي.لا التماس، ولا فضول.لقد التهمت أقواله واحترمت الموضوعات التي اختار التطرق إليها  أو رفض الخوض فيها.أحتفظ برسائله التي عبر  بواسطتها عن انشغال ذهنه بصحتي وينصحني بتجنب الإنهاك،وأن أعتني بنفسي وراحتي.كان بارت الوحيد الذي يشعر بأني غير مهتمة بوضعي الصحي،وهو العارف جيدا بكيفية اشتغال الموت مثلما هو في ذاته.هل أدْرَكَ انتسابنا لسلالة تلك الشخصيات''التي بلا عائلة''،وأننا  مُحَدَّدَين على نحو عميق بعلاقات مُحَرَّمة تمنعنا بعدم التجذر في أيِّ مكان آخر سوى عبر تكييف الانتماء إلى أجانب؟لقد اعترف إلى هوبير وتيري داميش،بأني أمثِّل لديه المرأة الوحيدة التي يمكنه التطلع إلى الزواج بها،لو كنت غير متزوجة.لا أعتقد بأن أقواله تعكس واحدة من التعابير الساخرة التي كان قادرا عليها. بل مجرد همس للعزلة، واعتراف عن ضعف مؤلم وراسخ.بقيت علاقاتنا الوجدانية محتشمة،ذات حس أفلاطوني قوي.
* صامويل دوك : كيف جاء لقاؤكم مع جاك ديريد؟
*جوليا كريستيفا : أحبَّ فيليب سوليرز ترجمة ديريدا وكذا تقديمه لكتاب هوسرل : أصل الهندسة (1962) ،فتوطد التعاون بينهما ابتداء من سنة(1965). أصدر سوليرز في مجلة "تيل كيل"العديد من مقالاته خلال فترة لم يكن إبانها ديريدا معروفا خارج أسوار فضاء الجامعة : "الكلام المهموس"،"صيدلية أفلاطون"،الصادرة ثانية بين طيات عناوينه الأخرى:''الكتابة والاختلاف "، "التشتت ''.لقد ألهمتني كتابات ديريدا تلقينا فلسفيا حقيقيا.هكذا تطورت الصداقة في خضم القراءة :الاستمتاع بنقاشات خلال جلسات عشاء في ريس أورنجيس حيث يقطن ديريدا وزوجته مارغريت وأبنائهما.أو في باريس،عند بول تيفونان، المؤتمِنة المذهلة عن مسودات أنطونين أرتو  والناشرة لها، وقد ذهبنا معا إلى الكويت سنة 1971،قصد حضور مؤتمر دولي،حول :"الثورة العربية،رأس حربة،الثورة العالمية''،على خطى جان جينيه  الذي كنا نتردد عليه كثيرا خلال تلك الفترة.سرعان ما سقطت الأوهام :نناقش بيان الحزب الشيوعي لماركس وإنجلز،بينما يتعفن الشيوعيون داخل السجن في دمشق وبغداد،حيث استُقبلنا أيضا،ثم انعدام وجود أي امرأة ضمن هؤلاء " الثوريين" أقطاب البتروللقد أتى ديريدا بدوره إلى "جزيرة ري "هل الاحترام الذي فرضته كتاباته،خلقت بيني وبينه حاجزا،كي أتجنب الاقتراب من شخصيته المتحفظة، الكتومة، والانطوائية.فعلا، تموضع سوليرز ومشروعه في قلب هذا اللقاء :لقد أنجز ديريدا عمله المعنون ب"التشتت"خصيصا لرواية سوليرز المسماة :أعداد.بدوري هيأت كتابي :"ابتداع الصيغة'' لنفس الهدف.الأمسيات النظرية المنظَّمة من طرف حلقة "تيل كيل" في شارع رينز،تخلق غليانا فكريا حول الأساس الأدبي !لكن القطيعة حدثت تدريجيا،بحيث اقترب سوليرز من الصين وجاك لاكان،بينما نزع ديريدا نحو الحزب الشيوعي وكذا مجلة النقد الجديد.              
المصدر :
Julia Kristeva :Je me voyage ;Mémoires :entretiens avec Samuel Dock ;Fayard 2016.pp :62 -71.