الشعرية فـي روايـة "لـيلـة التـنبؤ" لبول أوستر
د. مازن الناصر
باحث في الأدب العالمي – سورية
يعرف الروائي التشيكي ميلان كونديرا الرواية بأنها
"شعرٌ مضادٌ للغنائية" (فن الرواية: ميلان كونديرا، ترجمة: بدر الدين عرودكي،
دار الأهالي، دمشق - سورية، ط١، 1999، ص 149).
يعرف الروائي التشيكي ميلان كونديرا الرواية بأنها
"شعرٌ مضادٌ للغنائية" (فن الرواية: ميلان كونديرا، تر: بدر الدين عرودكي،
دار الأهالي، دمشق- سورية، ط1، 1999، ص 149) ويقصد بذلك أن يبتعد الروائي عن الذاتية
والأحكام المطلقة بغية تحقيق ما يسميه حكمة الرواية التي تتجسد في روح الفكاهة؛ فالرواية
بوصفها فنًا أدبيًا لم تولد من روح النظرية وإنما من روح الفكاهة. والفكاهة حسب كونديرا
ليست نوعًا من الضحك أو السخرية أو الهجاء وإنما هي نوعٌ من الهزل يكشف الروائي بوساطته
عن "العالم في غموضه الأخلاقي، وعن الإنسان في قصوره العميق في الحكم على الآخرين.
الفكاهة: النشوة التي تثيرها نسبية الأشياء الإنسانية، المتعة الغريبة المتحدرة من
اليقين بأنه لا يوجد يقين" (الوصايا المغدورة: ميلان كونديرا، ترجمة: معن عاقل،
دار الأوائل، دمشق-سورية، ص11)
وعلى هذا الأساس يمكن أن نبني قراءتنا رواية ليلة التنبؤ
لبول أوستر (ترجمة محمد هاشم عبدالسلام وإصدار المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب،
الكويت) محاولين أن نبين أبرز سمات شعريتها.
يبدأ الروائي بول أوستر الذي ولد سنة 1947 في نيوجيرسي في
الولايات المتحدة الأمريكية روايته بمحاولة شخصية (سدني أور) أن يكتب رواية منطلقًا
من فكرةٍ وردت في رواية (الصقر المالطي) للكاتب الأمريكي (داشيل هاميت) الذي يتحدث
فيها عن رجلٍ كان ماشيًا "ذات يوم في طريقه لتناول وجبة الغداء، سقطت عارضة من
ارتفاع عشرة طوابق على مسافة قريبة من رأسه كانت سوف تسحقه لكن هذه العارضة لم تصبه"
ص28
أثرت هذه الحادثة في الرجل الذي أدرك عشوائية الحياة ومصادفاتها
الغريبة؛ لذا يقرر أن ينهي حياته القديمة ويبدأ حياة جديدة، فيترك عائلته ومدينته ويسافر
إلى مدينة أخرى تاركًا خلفه كل شيء.
وبناءً على هذه القصة يبدأ الكاتب (سدني أور) بكتابة روايته
التي تتحدث عن رجل اسمه (بوين) يعمل محررًا في إحدى دور النشر، يتعرض لحدثٍ يشبه حدثَ
رواية (الصقر المالطي) إذ يسقط (مزراب) إحدى البنايات عندما كان بوين ماشيًا، فتصاب
يده، وبعد أن يعي ما حدث له يعتقد بأن حياة جديدةً كُتبت له؛ لذا يقرر أن ينسى حياته
الماضية، فيذهب مباشرةً إلى المطار. ويختار مصادفةً مدينة (كانساس سيتي) ليبدأ بها
حياته بعيدًا عن زوجته وعمله. يأخذ معه مخطوط رواية (ليلة التنبؤ) التي كتبتها روائيةٌ
مشهورةٌ في عشرينيات القرن العشرين.
يواجه بوين في مدينة (كانساس سيتي) صعوباتٍ كثيرة لكنه يصرُّ
على متابعة مغامرته إلى أن يقع في مأزقٍ كبيرٍ؛ إذ يجد نفسه محبوسًا في غرفةٍ محصّنةٍ
ضد القنابل الذريّة. ولأن الكاتب لم يجد وسيلةً أو ذريعةً يستطيع من خلالها أن يخرج
(بوين) من حبسه يقرر أن يتخلى عن مشروع روايته.
أما فيما يخص رواية (ليلة التنبؤ) التي أخذها (بوين) معه
فتتحدث عن ملازم بريطاني اسمه (فلاج) أصيب بالعمى في الحرب العالمية الأولى بيد أن
هذه الإصابة وهبته موهبة التنبؤ، وهي نعمةٌ ونقمةٌ في الوقت نفسه لأنه كان يعرف المأساة
قبل وقوعها (مثل موت أمه).
يحب (فلاج) فتاةً تبادله الحب لمدة سنتين، وقبل عرسهما بليلةٍ
يصاب بنوبةٍ من نوبات التنبؤ يعرف من خلالها أن حبيبته سوف تخونه بعد زواجهما. وهنا
تكمن المأساة، فالحبيبة لم ترتكب الخيانة في الواقع لأنها لم تلتقِ بالرجل الذي سوف
تخون زوجها معه. ومن ناحيةٍ أخرى يرى أن الزواج منها سيكون تصرفًا يفتقر إلى الحكمة،
ولاسيما أن النبوءات كانت صادقة. يعيش عذابات صعبة إلى أن يجد نفسه غير قادرٍ على تحملها
لتنتهي مأساته بالانتحار.
إن البنية السردية التي تحتضن كلَّ هذه المستويات من السرد
تتجسد في أحداثٍ يوميةٍ يخبرنا بها الكاتب (سدني أور) نعرف من خلالها إشكالية علاقته
بزوجته (جريسي) من جهة وعلاقته بصديقه الكاتب المشهور (جون تروس) من جهةٍ أخرى، فضلاً
عن علاقة الأخير بزوجته.
تتبدى أول سمة من سمات شعرية رواية (ليلة التنبؤ) من خلال
ظاهرة التناص التي أضفت على الرواية بعدًا جماليًا وأدت وظيفةً مهمةً تمثلت في تراص
الأفكار وانسجامها. وهذا ما جعل الحبكة متينة ومحكمة. وعلى الرغم من اهتمام الروائي
بعنصر التشويق اهتمامًا كبيرًا إلا أن ذلك لم يحل دون متانة الحبكة، لا بل استطاع من
خلاله أن يجذب القارئ ويشد انتباهه بغية معرفة النهاية التي ستؤول إليها القصصُ المعلّبةُ
داخل الرواية.
ومما زاد من شعرية (ليلة التنبؤ) وجماليتها حرصُ الروائي
على إبراز عنصر المفاجأة في روايته، وقد تجلى ذلك في أكثر من موضع، من ذلك على سبيل
المثال : مفاجأة القارئ بإنهاء قصة (بوين) بعد أن عجز الكاتب (سدني أور) عن إكمالها
بسبب يأسه في إيجاد حلٍّ لمأزق بطلها. ولعل في ذلك رمزية تشير إلى عجز الإنسان في هذا
العالم ومحدودية إمكاناته.
وكذلك تبدت الشعرية في تقنية الرواية داخل الرواية، كما تبدت
في الإحالات الهامشية التي دعمت المتن الروائي، وأسهمت في تفسير بعض القضايا والمواقف.
بيد أن أهم ما يميز شعرية الرواية -حسب زعمنا- يتجسد في روح
الفكاهة وفق مفهوم كونديرا للفكاهة؛ فالرواية أثارت أسئلة كثيرة، وطرحت إشكاليات عميقة
من شأنها أن تنأى بالقارئ عن إصدار أحكام مطلقة، وهذا ما يؤكد حرص الروائي على جعل
نصه مفتوحًا أمام احتمالات مختلفة، وتأويلات متباينة. ويمكن أن نشير في هذا السياق
إلى إشكالية العلاقة بين (جريسي) زوجة الكاتب ( سدني أور) والروائي المشهور(جون هوس)
فالقارئ لا يستطيع أن يكون موقنًا فيما يخص هذه العلاقة، إذ يجد نفسه أمام احتمالات
مختلفة: هل كانت بينهما علاقة غرامية وهذا يعني خيانتهما للزوج والصديق أم أن هذه العلاقة
بريئة كعلاقة الأب بابنته. وعلى الرغم من أن الروائي قد أوحى للقارئ من خلال بعض المواقف
بوجود علاقة حبٍّ بينهما إلا أن ذلك يبقى ضمن دائرة الشك.
وكذلك يمكن أن نشير إلى مأزق (بوين) الذي حال دون إكمال رواية
الكاتب (سدني أور).
ختامًا، تجلت الشعرية في مختلف عناصر البنية السردية لرواية
(ليلة التنبؤ) وهذا ما جعلها نصًا حداثيًا مفتوحًا برزت فيه حكمة الرواية من خلال حرص
الروائي على النأي بروايته عن الذاتية والأحكام المطلقة.
الدكتور مازن الناصر
الصفحة علي الفيس: https://www.facebook.com/mazen.alnasser.5
الدكتور مازن الناصر
الصفحة علي الفيس: https://www.facebook.com/mazen.alnasser.5
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق