السبت، 1 فبراير 2020


الفصل الأول: الجمال المثالي في اليونان القديمة*
أمبرتو إيكو
ترجمة: سارة محسن




1. جوقة الموزيات (آلهات الشعر

حَسَب هزيود، ألتقطت الآلهة التي حضرت في طيبة، حفل زفاف قدموس على هرمونيا، اللازِمَة الشعرية التي كانت تتغنى بها عرائس الشعر (الموزات) واستأنفتها وصارت تحفظها وتتناقلها: "ما هو جميل محبوب، وما ليس بجميل ليس بمحبوب". وتكررت -هذه الأبيات- فيما بعد في كثير من الأعمال الشعرية اليونانية (منها قصيدة ثيوغونيا لهزيود، وأعمال يوربيديس)، حيث يمكن عدها نظرة عامة وشائعة عن الجمال عند قدماء اليونان. في الواقع، من الصعب الحديث عن الجمال عند الإغريق، فلم يكن عند اليونانيين، في ذلك الوقت، فرضية خاصة عن الجمال، وكانت اليونان تفتقر إلى النظرة الجمالية، حتى قبل عصر بركليس pericles.

ليس من قبيل الصدفة، أن نجد الجمال عند اليونانيين، دائما، مرتبطًا بالصفات الأخرى. فمثلا كانت إجابة عرافة دلفي عن السؤال حول معايير تقييم الجمال هو: "الأكثر جمالًا، هو الأكثر عدلًا". فلطالما كان الجمال، حتى عصر اليونان الذهبي مرتبطًا بالقيم الأخرى، مثل العدل، والتناغم، والتماثل. كما أنهم، أيضًا، لم يعطوا ثقتهم الكاملة للشعر، وهو واضح في رأي أفلاطون، الذي يعتقد أن الفن والشعر يفرحان الناظرين ويمتعان العقل لكنهما لا يصلان بنا إلى الحقيقة. كما أنه ليس بالصدفة، أن يكون موضوع الجمال عند الإغريق مرتبط بحرب طروادة!

من الصعب تحديد تعريف خاص بالجمال عند هوميروس. لكننا لا ننسى، أن صاحب الإلياذة، وضع مبررًا للحروب الطروادية، قبل أن يدافع عنها السفسطائي جورجياس في كتاب "في مديح هيلين"، عندما قال: إن جمال هيلين الرباني، يسقط عنها ما تسببت به من معاناة. بعد سقوط طروادة، رفع زوجها الملك مينلاوس سيفه لضربها، لأنها كانت غير مخلصة، وأراد أن يقتلها، لولا أن سيفه شُلَّ عن الحركة، عندما سقط نظره على صدرها العاري الجميل.



جمال هيلين المغري
هومر (القرن الثامن والسابع ق.م).
'لا شك أن الطرواديين والآخيين المدججين لا يلامون إن واجهوا المتاعب من أجل امرأة كهذه. ما أشد شبه وجهها بوجوه الإلهات. ومع كونها كذلك فلندعها تذهب مع السفن، كي لا تبقى هنا مصدر شقاء لنا ولأولادنا/ تعالي إلى هنا يا صغيرتي العزيزة، واجلسي إلى جانبي، لكي تري زوجك السابق، وأصدقائك وشعبك. إنني لا الومك على هذه الحرب، بل الآلهة هي الملومة، فهي الوحيدة التي جلبت هذه الحرب المؤسفة ضد الآخيين'.

الفن والحقيقة
أفلاطون (القرن الخامس والرابع ق.م) الجمهورية.
إن المقلِّدَ مبعدٌ عن الحقيقة بطريق طويل، ويستطيع أن يستخرج نسخة عن كل الأشياء لأنه يقرب جزء صغير منها بسهولة، وذلك الجزء هو الصورة. مثل: الرسام الذي يرسم صانع الأحذية أو نجارًا، أو أي صانع آخر، مع أنه لا يعرف شيئًا عن فنّهم. وإذا كان رسامًا بارعًا، يمكنه أن يخدع الأطفال والأشخاص البسطاء عندما يريهم رسمه للنجار من مسافة بعيدة وسيتوهمون أنهم يرون نجارًا حقيقيًا. إنَّ الفن التقليدي هو فن دوني، ومن مخالطته بمن هو أدنى أنجب ذرية دونية.

 Classicism
يوهان يواخيم فينكلمان
تأملات حول الأعمال الإغريقية في الرسم والنحت 1755.
'الفنون شأنها شأن الإنسان، لها شبابها، وأيام الفنون الأولى تبدو مماثلة لزمن الفنانين المبكرة الذين يرون فيها الأشياء على أنها أما أن تكون عظيمة أو رائعة [..] وربما تكون الأعمال الأولى لليونانيين لا تختلف عن أسلوب شاعرهم التراجيدي الأول. ودائما ما كان موجودًا في المحاولات الأولى ذلك الاندفاع والتهور والغلط ويتبعها الدقة والإبداع. وكل هذا أخذ منا وقتًا حتى نتعلم كيف نحبها ونعجب بها. مثل هذا الكلام لا يشكل سوى خصائص للعظماء، أما المتعلمين فإن كل المشاعر مفيدة لهم. نجد في التماثيل اليونانية النبل في البساطة، وهذا عكس على كتاباتهم.  فأعمال مدرسة سقراط ساهمت في عظمة رافائيل، والذي توصل إليه بتقليد القدماء من الرسامين. وتطلب ذلك منه روح حلوة مثل روحه، في جسد جميل، لتكون في العصر الحديث، والإحساس للوصول إلى الطابع الحقيقي للقدماء. وعلى كل، فقد كان محظوظًا، لأنه عاش في عصر يخلو من النفوس المبتذلة، ليتسنى له التعامل مع العظمة الحقيقية'.



على الرغم، من وصفه للجمال، ومن الإشارات التي كتبها عن جمال النساء والرجال. فإنه من الصعب عد هذه النصوص أنها تنم عن فهم واعٍ للجمال. وهذا ينطبق أيضًا على الشعراء الغنائيين الذين لم يمتلكوا تصورًا واضحًا عن الجمال -عدا الشاعرة صافو-، وعلينا أن لا نفهم الجمال عندهم بنظرتنا الحديثة، كما حدث في مختلف العصور، والتي افترضت أن أصالة الجمال وحقيقته يرجع الى الحقب الكلاسيكية. في الواقع، هذا أسقاط لوجهة النظر الحديثة على الماضي و لنتأمل ما قاله فينكلمان في Classicism
مصطلح Kalòn والذي يترجم، في كثير من الأحيان، وبشكل غير دقيق على أنه beautiful يرجعنا الى المقولة التي تقول: " الجمال هو ما يرضينا ويسعدنا".



الجمال هو كل ما يرضينا

ثوجنيس (القرن السادس والخامس)
Elegies  I, W 17-18
إلهات الشعر والفن والغناء، بنات زيوس، اللاتي غنين في زواج قدموس "من يملك قدرًا من الجمال هو المحبوب، ومن لا يملك شيئًا منه ليس محبوبًا".

ما هو منصفٌ عزيزٌ


إيوريپيديس (القرن الخامس ق.م)
'أيُّ حكمة أكثرَّ إنصافًا، أهي هبة الآلهة التي حازها الرجال أم أن تبسط راحة يدك على رأس عدوك المهزوم المنحني؟'.



الشيء الجميل هو ما يثير إعجابنا ويجذب أنظارنا، وهو الشيء الذي يمتع الحواس بحكم شكله، وخاصة حاستي البصر والسمع، غير أن هذه الأشياء التي تلاحظها الحواس، ليست هي الأشياء الوحيدة التي تصف بالجمال، هناك دائمًا دور مهم للروح والشخصية في حالة جسم الإنسان، والتي يدركها العقل قبل العين البشرية.
وعلى هذا الأساس، يمكننا التكلم عن فهمنا المبكر للجمال، والذي هو مرتبط بفنون عديدة، من دون شيء يوحدها منها: الاتفاق على جمال الأناشيد الغنائية المتمثل في التعبير عن تناغم الكون والحياة، وجمال الشعر والذي هو ذلك السحر الذي يجعلنا مبتهجون، وجمال النحت المتمثل من خلال القياس والتناسق المناسبين للأجزاء المنحوتة، وجمال الخطاب الذي يكون في الإيقاع الصحيح.



لمحة
أفلاطون (القرن الخامس والرابع ق.م)
المأدبة.
ماذا لو كنا قادرين على رؤية الجمال الحقيقي، الجمال الإلهي، النقي والواضح وغير المشوب بشائبة، وغير المدنس بالموت، ولا بكل ألوان الحياة البشرية ومَتَاعها. هناك يحق لنا أن نناقش حقيقية الجمال الإلهي البسيط، وتذكر أن في هذه الحالة نحتاج للتواصل مع الجمال بعيون العقل، والذي يراها حقيقية وليست صورة عن الجمال (لأنها في الواقع ليست صورة بل حقيقة).
هذه الأشياء يا فيدروس، علمتها لي ديوتيما، واقتنعت بها. وبعد ما اقتنعت بذلك، حاولت إقناع الآخرين. إن الطبيعة البشرية يا صديقي لن تجد مساعدة أفضل من الحب.




2. فكرة الجمال عند الفنان

بدأت ملامح فلسفة الجمال في الظهور، أبان عودة أثينا الى عظمتها العسكرية والاقتصادية والثقافية في عصر بركليس الذهبي. حيث بلغت، في ذلك الوقت، ذروة انتصارات أثينا على الفرس، والذي ترك مساحة للتفكير في تطوير الفنون، خاصة، الرسم منها والنحت. ومن الأسباب التي أدت إلى هذا التفكير هو الحاجة لإعادة بناء المعابد التي دمرها الفرس، واستعراض قوة أثينا بفخر، بالإضافة، إلى اهتمام بركليس ومساندته للفنانيين. ويجب ألا ننسى، التطور التقني الخاصة بالفنون التصويرية في ذلك الوقت، ومقارنتها مع الفن المصري، والذي حقق به الفن اليوناني تفوقًا كبيرًا لصالح النحت والرسم، وهو ما نعزوه إلى الحس السليم عند اليونانيين.
على عكس اليونان، لم يعطِ المصريون القدماء أيَّ اهتمام بالمنظور في الهندسة المعمارية والتمثيل التصويري، والذي يعود، ربما، إلى خضوعهم لتعاليم وشرائع عديدة ومجردة.





اهتمَّ الفن اليوناني كثيرًا بالمنظور الهندسي، وعلقوا عليه كل آمالهم. فقد اخترعوا الرسم المنظوري، والذي لا يهتم بشكل أساسي، بالدقة الموضوعية للأشكال الجميلة، إنما يركز على الدائرة المثالية من وجهة نظر المشاهد، والذي يراه من منظور مسطح.

بذات الطريقة، يمكننا التكلم في النحت عن البحوث التجريبية التي كان هدفها الجمال الحي للجسم. حيث كان الجيل الذي يضم النحات فيدياس (والتي وصلتنا من أعمالهم نسخًا عن الأصلية). أما النحات مايرون والجيل التالي من براكستيليز، فقد عملوا على خلق نوعًا من التوازن بين التمثيل الواقعي للجمال، ولا سيما تلك المتعلقة بالأشكال البشرية. حيث يظهر أن جمال الاعضاء يفضل على الأشياء غير العضوية- من حيث الالتزام بشريعة معينة (kanon)، والتمثيل لقاعدة (nómos) من التراكيب الموسيقية.

وعلى عكس ما كان يعتقد، فإن النحت اليوناني لم يعمل على إعطاء الجسم مظهرًا مثاليًا، وإنما سعى إلى الحصول على الجمال المثالي بإستخدام أجزاء من الأجساد الحية. والتي تعتبر وسيلة للتعبير عن الجمال النفسي وانسجام الجسد مع الروح. أيّ، إن جمال الأشكال وأصالة الروح كانت الأساس لما يعرف بـ kalokagathia، ولتعبيرات الشاعرة صافو الجميلة ومنحوتات براكستيليز.

نجد أفضل تعبير لهذا الجمال في الأشكال الثابتة. حيث نرى أنَّ الجزء الصغير من العمل الفني هو الحركة التي تعطي للعمل التوازن والثبات. وهذه البساطة تكون أكثر تعبيرًا عن ثروة من التفاصيل. ومع ذلك، هناك واحدة من أهم المنحوتات اليونانية والتي خرقت هذه القاعدة وهي منحوتة لاوكون. في laocoon لاوكون (وهي من العصر الهيليني)، كان المشهد الذي تعطيه
المنحوتة أكثر ديناميكية ودرامية، وموصوف بشكل مثير، حيث كل شيء كان بسيطًا وعندما اكتشفت في عام 1506؛ أثارت دهشة وحيرة الفنانيين، في ذلك.




Kalokagathia
صافو(القرن السابع والسادس ق.م)

بعض أجمل الأشياء على وجه الأرض هو سرب الفرسان، وهناك من يقول جيش من جنود المشاة، والبعض الآخر يقول أسطول من السفن، ولكني أعتقدأن الجمال هو عندما تتبادل الحب مع من تحب. ومن اليسير جدًا ان أوضح ذلك، اختارتهيلين، أجمل شيء، الرجل الذي أطفئ  أنوار طروادة: نسيان ابنتها ووالديها، تركت كل شيء وذهبت حيث إرادة فروديت، حبًا له. والجميل هو ذاك الذي يقف أمامنا،  وهو أيضًا جيد في الوقت الحاضر، وسيبقى دائما كذلك.

لاوكون laocoon
يوهان يواخيم فينكلمان 1767
إنَّ السمة الواضحة والرئيسية للروائع اليونانية هي الرقي في البساطة والعظمة في الهدوء، سواء أكان ذلك في الطرح أم في التعبير. وكما أن أعماق البحر تظل دائما بلا حراكة بغض النظر عن خشونة السطح، فإن ملامح الشخصيات اليونانية، بصرف النظر عن مقدار ما يمكن أن تثير من عواطف، تكشف دائما عن أرواح رائعة وكبيرة. وهذه الروح، روح لاوكون، التي لاقت أبشع أنواع التعذيب، غير واضحة في تمثال لاوكون نفسه. إن معاناته التي تظهر في كل من عضلاته وأوتار جسده، والتي يمكن ملاحظتها من انكماش بطنه، من دون أن يظهر ذلك على وجهه أو الأجزاء الأخرى من جسده، يجعلنا نشعر بآلامه. وهذا الألم، كما أقول، لا ينقل لنا من علامات الغضب الموجودة على الوجه أو وضعيته في الوقوف. لا يصرخ لاوكون على نحو مفجوع كما في قصيدة فرجيل: لأن الطريقة التي نحت به فمه لا تسمح بذلك، وكل ما يظهر عليه كما يقول سادولتو sadoleto هو تنهد حزين لشخص مظلوم. تتوزع معاناة الجسد وعظمة الروح بالتساوي على كل أجزاء الجسم، ويبدو أن كلًا من هذه الأجزاء يحافظ على توازن الآخر. لاوكون كان يعاني معاناة سوفكليس. إن عذابات هذا الرجل العظيم تمس قلوبنا، ونود أن نكون قادرين على تحمل الألم بالطريقة التي تحملها هذا الرجل العظيم.

3. جمال الفلاسفة

الجمال عند الفلاسفة


كتب أفلاطون وسقراط بحثًا مفصلاً عن الجمال. جاء الأوّل، بحَسَب ما وصلنا من زينوفون في المخلفات التذكارية (الميمورابيليا/ ذكريات سقراط)، والتي أصبحت موضع شك، فيما بعد، نظرًا إلى موقف زينوفون المتعصب. ويبدو أنه أراد إضفاء الشرعية على ما هو فني على المستوى الصوري من خلال تحديد، ما لا يقل، عن ثلاث فئات جمالية: الجمال المثالي الذي يمثل الطبيعي والفطري من خلال تراكيب المكونات؛ الجمال الروحي الذي يعبر عن الروح من خلال العين (كما في أعمال النحات براكسيتيليز، الذي يظهر العيون كأنها حقيقية)؛ الجمال المفيد والفني.
في ما يخص الجمال، كان موقف أفلاطون أكثر تعقيدًا، وترك لنا أهم مفهومين للجمال فُصِّلا على مرَّ العصور: الجمال من الانسجام والتناسب بين الأجزاء (مأخوذة من فيثاغورس)، والجمال كامتياز الموجود في محاورة فيدروس.


الميمورابيليا
زينوفون (القرن الخامس والرابع قبل الميلاد).
سأل أريستبوسُ سقراطَ، ثانيةً، إذا ما كان يعرف شيئًا جميلًا؟
'أشياء جميلة' أجاب سقراط.
'وهل جميعها متشابهه؟'.
'لا؛ العكس بالعكس، وغالبًا ما يكون البعض منها مختلف'.
'كيف يمكن أن يكون الشيء جميلًا، إذا كان عكس الجميل؟'.
'من زيوس!، أجاب سقراط، الرجل الذي نراه عدّاءً بارعًا، يمكن أن يكون، على العكس تمامًا في رجل آخر، والذي هو مصارع بارع، في حين، يمكن أن يكون الشيء الجميل في الدروع المستعملة للدفاع، والتي هي في أية حال من الأحوال، مثل قوة الرمح والتي قد تكون أطلقت مع السرعة والقوة'.
'لا يوجد فرق بين ردك هذا، والرد السابق' قال أريستبوس، عندما سألتك إذا ما كنت تعرف أي شي جيد.
'وهل تفكر في شيء واحد جيد وآخر جميل؟ ألا تدرك أنه في ما يتعلق بنفس الأشياء فإن كل الأشياء جميلة وجيدة في نفس الوقت؟ فالفضيلة في المقام الأول ليست جيدة في الإشارة إلى نموذج ما، في حين تشير الأشياء الجميلة إلى غيرها. بالإضافة إلى ذلك، يقال إن الإنسان جميل وجيد بنفس التقدير، بما يتعلق بالأشياء نفسها، حتى أجساد الرجال تظهر جميلة وجيدة؟ وبشكل عام، تعد كل الأشياء جميلة وجيدة في ذات الوقت، فيما يتعلق بالأشياء التي قد تكون مفيدة لها'.
**
وقد صادف لسقراط أن يتحدث مع الفنانين حول حرفتهم، وأن يحاول أن يكون مفيدًا لهؤلاء الأشخاص. ذات مرة، بعد أن ذهب إلى الرسام برهاسيوس، وفي الحديث معه، سأل سقراط: 'برهاسيوس. هل الرسم تمثيلًا لما نراه؟ بمعنى آخر، أنتم، أيها الرسامون، تقومون بتمثيل الأجساد الطويلة والقصيرة، في الضوء أو في الظل، بأسطح صلبة أو لينة، خشنة أو ناعمة، في زهو الشباب وتَغضن العمر، كل ذلك بالألوان، أليس كذلك؟'
'صحيح' أجاب برهاسيوس، 'هذا ما نفعله'.
'وعندما تصوّر أنواعًا مثالية من الجمال. هل من الصعب العثور على إنسان خالي من العيوب، وكأنك تأخذ الصفات الجميلة من نماذج متعددة وذلك لجعل الأشكال الخاصة بك تبدو جميلة؟'.
'نعم، هذه هي الطريقة التي نعمل بها' أجاب برهاسيوس.
'حقًا،  أتعتقد أيضا أنه من الممكن تصوير الحالة النفسية والمزاجية الخاصة بالروح الإنسانية مثل سحرها، حلاوتها، ظرافتها او البهجة التي تبديها وجاذبيتها أم من الصعب التعبير عن ذلك بالرسم؟'.
'ولكن يا سقراط' رد برهاسيوس 'كيف نستطيع تقليد من لا يملك نسبة خطية ولا لون، ولا أيًّا من الأنواع التي سميتها للتو-وما أكثر من ذلك- لا يمكن بأي حال من الأحوال رؤيتها'!
'ومع ذلك' استمر سقراط، 'ربما الإنسان لا ينظر إلى شخص ما بإعجاب أو عداوة؟'.
'أومن بذلك' أجاب برهاسيوس.
'ولا يمكن أن نرى كل هذا فقط بالعين؟'.
'بلا شك'.
'وهل أولئك الذين لديهم في القلب حظوظ جيدة أو سيئة من أصدقائهم، لديهم نفس التعبير عند الذين لا يهتمون لشيء؟'.
'على الإطلاق، أولئك الذين يهتمون تكون نظراتهم سعيدة عندما يكون أصدقائهم على ما يرام، وتكون نظرتهم مهمومة عندما لا يكونون كذلك'.
'لذلك من الممكن رسم مثل هذه النظرات؟'.
'قد يحدث ذلك أحيانا'.
'العظمة، السخاء، البؤس، الرذالة، الاعتدال، الغطرسة والابتذال، النبل، الحرية، ليس واضحًا في وجه الإنسان وأسلوب حركتهم، سواء كانوا في وضع ساكن أو في حالة حركة'.
' هذا صحيح'.
'وهذه الأشياء يمكن رسمها'.
'قد نفعل ذلك بالطبع'.
'هل من المناسب، أن ننظر إلى وجه توحي ملامحه إلى ما هو جميل وجيد ومحبب أو إلى وجه يحمل علامات القبح والشر والكراهية؟'.
'أوه، سقراط، هناك فرق كبير بين الاثنين'.
من جديد ذهب سقراط إلى النحات cleiton، وسأله:
'أستطيع أن أرى العدائين والمصارعين والملاكمين رائعين، ولكن كيف تعطي الحياة لإبداعاتك؟ وكيف  تنظر إلى هذا الانطباع من خلال رؤية الناظر؟'.
وحين كان cleiton حائرًا في الإجابة، أضاف سقراط:
'هل منحوتاتك لا تملك الشعور بالحياة، لأنك تقلد عن كثب أشكال الكائنات الحية'؟.
'من دون شك' أجاب cleiton.
'من خلال التصوير الدقيق لمختلف أجزاء الجسم، وبمختلف الأوضاع، يعني عندما ترفع هذه أو تخفضها، ممدودة، مشدودة أو مسترخية. أنت نجحت في جعل التماثيل الخاصة بك تبدو وكأنها حية وحقيقية وجذابة؟'.
'بالتأكيد'.
'أليس التمثيل الصادق لما يحدث للجسد أثناء الحركة، يعطي متعة خاصة عند النظر إليه؟'.
'بالطبع'.
'لذلك لا ينبغي لنا أن نصور أيضا النظرة المهددة في أعين المحاربين، ولا ينبغي لنا تقليد منظر الفتوحات التي ينظر إليها بنجاح'.
'في الواقع يجب علينا ذلك'.
'وبهذه الطريقة، إن النحات قادر على تصوير الأعمال الروحية من خلال الشكل الخارجي'.

عند الحديث عن أثر الفكر الأفلاطوني الجديد، يجدر بنا العودة إلى فكرة الجمال عند أفلاطون. عند أفلاطون، الجمال له وجود مستقل، وهو يختلف عن الوسط المادي الذي جاء منه من دون قصد. لذلك يكون الجمال غير ملزم بأي شي معين، بل نجده يتألق ويضيء في كل مكان.
إن الجمال لا ينسجم مع كل ما نراه (فقد كان سقراط عندما يرى شيئًا قبيحًا، يقول إنه يتألق بجماله الداخلي). وبما أن الجسد عند أفلاطون كهف مظلم يسجن الروح، فإن رؤية الحواس تتغلب على النظرة العقلانية، والتي تحتاج إلى معرفة تامة بالفنون الجدلية، أيّ، بالفلسفة. وهكذا يكون بمقدور كل شخص عند أفلاطون فهم الجمال الحقيقي والتعرف عليه. فالفن، بالمعنى الصحيح للمصطلح، هو نسخة زائفة عن الجمال الحقيقي، ثم، يكون ضارًّا بأخلاقيات الشباب، لذلك من الأفضل منع تدريسه في المدارس، والاستعانة عنه بجمال الأشكال الهندسية، التي تعتمد على التناسب والمفهوم الرياضي للكون.



الانسجام والتناسب
أفلاطون(القرن الرابع عشر قبل الميلاد).
طيماوس.
'بما أن المعبود عزَمَ على أن يجعل هذا العالم مثل الموجودات الأجمل والأكثر كمالًا والتي يدركها بالعقل، صاغ حيوانًا مرئيًا واحدًا مشتملًا في داخل نفسه على كل الحيوانات الأخرى ذات الطبيعة الواحدة [..] والرباط الأجمل والأنسب هو ذلك الذي يُحدث الاندماج الأكثر تمامًا من نفسه ومن الأشياء التي يتألف منها؛ والاتساق فيما بينها أفضل ما يؤثر في هكذا اتحاد'.

العظمة
أفلاطون(القرن الرابع عشر قبل الميلاد).
فيدروس.
'ليس هناك تألق في نماذجنا الأرضية للعدل أو الاعتدال أو لتلك الأشياء الأخرى التي تكون ثمينة للأرواح والتي تُرى من خلال الزجاج بكلل، وقلة هم الذين يذهبون إلى الرموز ويرون الحقائق فيها، بل إنهم يرونها بصعوبة فقط. فيما مضى كان هناك بقية العصبة السعيدة التي رأت الجمال اللامع في إشراقته؛ إنهم نحن الفلاسفة التابعون لموكب زيوس، والآخرون التابعون للآلهة الأخرى، ورأينا نحن وقتها الرؤيا السارة وكنا مطلعين على سر مقدس يمكن أن يسمى السر الأكثر قداسة بحق، واحتفلنا به في حالتنا الطاهرة، قبل أن تكون لدينا أية خبرة عن الشرور التالية، احتفلنا به عندما منحنا حق الدخول إلى مشهد كل ما يظهرُ بدون توقع، طاهرين، وبسطاء، وهادئين، وسعداء. رأينا ذلك الجمال مضيئا في نور صافٍ، وكنا نحن أنفسنا طاهرين ولم نكن مُكرَّسين في ذلك الضريح الحي الذي نحمله هنا وهناك. والآن، فإننا مسجونون في الجسد، مثلما تسجن المحارة في صدفتها.


جمال الأشكال الهندسية
أفلاطون (القرن الرابع عشر قبل الميلاد).
طيماوس.
ولكن، لنترك هذا السؤال ونمضي قدما في توزيع الأشكال الأولية، والتي خلقت منها هذه الفكرة، بين العناصر الأربعة.
فلنعطي التراب الشكل المكعب، لأن التراب هو أبعد العناصر الأربعة عن الحركة والتحول وأكثر الأجسام مرونة وألينها. وقد قضت الضرورة وحتَّمت أن يحوز التراب أرسخ وأمتن القواعد. من المثلثات التي افترضناها في بادئ الأمر، فإن المثلث متساوي الأضلاع -طبيعيا- أرسخُ قاعدةٍ من المثلث غير متساوي الأضلاع. ومن الأشكال المتكوّن بعضها من الآخر، فإن السطح المربع المتساوي الجوانب المكوَّن من مثلثين متساويي الأضلاع أكثر استقرارًا ومتانة في أجزائه ومجموعه.

لذا عندما نخص التراب بهذا الصفة من الأشكال فنحن نلتزم بالأرجحية. ومع الماء، أحد الأشكال المتبقية، فإننا نخصه بالحركية الأقل، في حين النار الأكثر حركية، والهواء النوع المتوسط […]
إننا نتصور أن كل هذه العناصر صغيرة جدا لدرجة أننا لا نقدر على رؤية ذرة مفردة من هذه الأنواع الأربعة التي عللناها بسبب صغرها. لكن عند تراكم عديدها معا فإن تكتلها يمكن رؤيته. أما نسب أعدادها، وحركاتها، وخواصها الأخرى، فإن الإله تممها ونسقها في كل مكان بنسبة واجبة الأداء وبقدر ما سمحت به الضرورة أو أعطت موافقتها عليه.




..
..
المصدر:

On Beauty : A History of a Western Idea (*)
 by Umberto Eco

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق