الاثنين، 10 فبراير 2020


الفصل الثاني
أبولون وديونيسيوس
بقلم الفيلسوف الأيطالي: أمبرتو إيكو
ترجمة: سارة محسن

1. آلهة دلفي
في الميثولوجيا اليونانية، كان زيوس وهو كبير الآلهة، يملك السلطة لوضع حد عادل على جميع الكائنات البشرية والآلهة، وقد جاءت حكومة العالم التي يرأسها زيوس من اتفاق وتناغم كبير بين الآلهة، وقد دلت العبارات الأربع المنقوشة على معبد دلفي على ذلك التناغم، وكما يلي: 'الأكثر جمالًا هو الأكثر عدلًا'، 'اعرف نفسك بنفسك'، 'تجنَّب الغرور'، 'عدم الإفراط كثيرًا'. وبالعودة إلى هذه العبارات، يمكن القول، إن الحس الجمالي عند اليونان القديمة، يقوم على نظرية اليونان لأصل العالم، والتي هي بالأساس نظرة عامة، تفسر وتترجم مفهومي النظام والتناغم على أنهما تطبيق لحد " الفوضى المفتوحة"، التي ذكرها هزيود، عندما قال "إن العالم قفز إلى الوجود من الفوضى". وقد حافظ على هذه الفكرة الإله أبولون (إله الشمس، والموسيقى)، الذي صوّر الموزيات على الواجهة الغربية من مبنى معبد دلفي. أما الجانب الغربي من نفس المعبد.

(والذي يرجع تاريخه إلى القرن الرابع قبل الميلاد)،  فقد كان هناك نقش للإله ديونيسوس، يظهر فيه مع إله الفوضى، وهذا النقش يعد تجاوزًا لشعائر الآلهة المتعارف عليها عند اليونان.
هذا الوجود المشترك لاثنين من الآلهة المتعارضين والمختلفين ليس صدفة، على الرغم أنه لم يكن موضوعًا متعارفًا عليه حتى العصر الحديث، عندما تحدث نيتشه عن هذا الأمر
وبشكل عام، فإنه تحدث عن شيء موجود دائما ويحدث بشكل مستمر، من تدفق الفوضى إلى جمال التناغم. وهذا يعود بنا إلى الشروحات الهامة التي ظلت عالقة في إطار مفهوم الجمال اليوناني، والذي يظهر فيه أنه معقدٌ، بالإضافة إلى الإشكالية المقارنة مع ما توحي به من بساطة التقليد اليوناني.

إن أول تناقض وتعارض هو بين الجمال والإدراك الحسي. إذ

أبولو
فريدريش فيلهيلم نيتشه
مولد التراجيديا، 1872.
'وبهذا ما يمكن أن نقوله عن أبولو هو ما قاله شوبنهاور عن رجل أمسك متلبسًا بهدوئه المطلق، مرتديًا حجاب المايا (العالم كإرادة وتجسيد). مثلما يجلس ربان المركب في سفينته، مفعمًا بالثقة بما يملك من حرفة في اختراق عباب البحر، المترامي الأطراف بلا نهاية، ارتفاعًا وانخفاضًا على ظهر الأمواج العاتية، هكذا يجلس الرجل العادي بهدوء شديد واثقًا ومستندًا إلى مبدأ الفردانية'.
                
            



الجمال، بشكل عام، قابل للادراك، ولكن ليس تمامًا، نظرًا لأنه لا يمكن الاستدلال على كل شيء بأساليب الحس، فظهرت فجوة كبيرة بين المظهر الخارجي والجمال: هذه الفجوة التي حاول الفنانون ابقاءها مغلقة. حاول الفيلسوف هيرقليطس فتحها عندما قال "إن الجمال المتناغم للعالم يتجلى في التدفق الاعتباطي والعشوائي".

أما التناقض والتعارض الثاني فهو بين الصوت والتخيل، اثنين من أشكال التصور والإدراك الحسي عند الإغريق (ربما لأنه على عكس حاستي الشم والتذوق، يمكن الإشارة إليها من ناحية القياسات والترتيب العددي)، وعلى الرغم من أن الموسيقى واحدة من الوسائل التي من خلالها يُعبَّر عن النفس فإن الأساليب أو النماذج المرئية فقط هي التي منحت تعريفًا للجمال (Kalón)، بمعنى: "ما يسّر ويجذب". وهكذا صارت الفوضى والموسيقى تشكل نوعا بما يعرف بالجانب المظلم من الجمال الأبولي. والذي كان منسجمًا ومتناغمًا وواضحًا، وسقط في ساحة معركة ديونيسيوس.
هذا الإختلاف مفهوم إذا عددنا أن التشريع يجب أن يمثل "الفكرة" ( ثم الشعور بالتأمل والهدوء)، في حين فهمت الموسيقى على أنها شيء يُهيج المشاعر.

نماذج مرئية
فريدريش فلهليم نيتشه
مولد التراجيديا، 1872
'إن ما يمكن قوله عن أبولو حقًا، من أن الإيمان الذي يتزعزع بهذا المبدأ والهدوء اللطيف للرجل الذي وجُد متلبسًا في هذا الوضع الساكن، قد عُبِّر عنهما بأسمى الأساليب من خلاله، حتى أن بإمكاننا أن نصف أبولو بعدِّه صورة "إلهية" جميلة عن مفهوم الفردانية، في حين تظهر السعادة والحكمة، بفعل حركاته ونظراته.'

2. من الإغريق إلى نيتشه.

هناك جانب أيضًا في جوهر التناقض بين أبولون وديونيسيوس الذي يتعلق بثنائية البعيد والقريب. فقد كان الفن اليوناني والغربي عمومًا يضع مسافة عن العمل الفني، ولا يجعل المتفرج في تلامس مباشر مع العمل: وعلى النقيض من ذلك، كانت المنحوتات اليابانية التي صنعت لتلامس، طبقًا لتقليد الياباني Tibetan sand mandala، الذي ينطوي على فعل التبادل. بالنسبة للإغريق، وُضعت مسافة بين العمل والمتفرج، والاعتماد على حاستي البصر والسمع بدلا من حاسة الشم واللمس والتذوق. لكن، كانت الأشياء التي تنطوي على السمع كالموسيقى، أكثر الأشياء إثارة للجدل والشك، لأن الموسيقى تبعث وتهيّج الروح، وهذا يخالف مبدأ الجمال اليوناني المرئي.



هذا هو جوهر ما توصل إليه نيتشه أن هناك جانب متروك، بين ديونيسيوس و أبولون، وهو مهارة الحَدَث ( المعلن عنه من قبل المؤلف)، كما أن هناك بعض المخاطرة في التخمين وتشويه السمعة على أيدي أصحاب الفِيلُولُوجِيّا (علماء اللغة). أما التناغم الهادئ الذي يُفهم على أنه ترتيب وقياس، فيعبر عنه في الجمال الذي أطلق عليه نيتشه، بأنه الجمال الأبولي.

ولكن في نفس الوقت، كان هذا الجمال الأبولي، محاولة لإخفاء الجمال الديونيسي، والذي لم يُعبَّر عنه بأساليب واضحة، وإنما بطرق أعلى من المظهر والهيئة الخارجية. والذي هو مبهج وخطير، وفي تضاد مع العقل، وغالبًا ما يصّور على أنه تملك وجنون: إنه الجانب اللَيْلِيّ من علية السماء المسكون بألغاز البدء والطقوس القربانية الغامضة مثل ألغاز الإيلوسية والطقوس الديونيوسية. وقد كان من شأن هذا الجمال النقي أن يبقى مخفيَا حتى العصر الحديث (الفصل الثالث عشر)، ويظهرُ مادةً فنيةً مخزونةً وحيويةً للاستخدام في التعبيرات الجمالية المعاصرة. وبهذا يثأر لنفسه من جماليات التناغم للعالم الكلاسيكي.

الجمال الأبولي
فريدريش فيلهيلم نيتشه
مولد التراجيديا
'لا يمكن فهم العفوية لدى هومر إلا بعدها انتصارًا مؤزرًا للفهم الأبولي. وهذا أحد الأوهام التي تستخدمها الطبيعة كثيرًا لتحقيق غاياتها. إن الهدف الحقيقي محجوب بستار من السراب، وإننا نمد أيدينا للإمساك بشيء ما، لكن الطبيعة تخدعنا فتقدم بدلاً منه شيئًا آخر يخدم غاياتها. لقد كانت "الإرادة" عند اليونانيين في حالة تأمل عميق وتستعرض عالمها عبر العبقرية وعالم الفن. وكانت تريد رؤية أن يلقى ما تبدعه النجاح والتهليل بجعله يعكس شعورًا بالعظمة،  بالنظر إلى ذاته كونه مستوًى أرفعَ، دون أن يبدو هذا التأمل مفروضًا عليه فرضًا أو عقوبةً ولومًا. في هذه الدائرة الجمالية كانت تنعكس إبداعات الإرادة بما تنتجه من أفكار متمثلة في آلهة الأولمب، وفي إطار هذا الانعكاس اضطرمت المعركة بين الإرادة الهيلينة وموهبة العبقرية، تمثيلًا معادلًا للموهبة الفنية، للوصول إلى الألم وحكمة المعاناة، لكي يرتفع هومر، فنان العفوية شاهدًا على نجاح هذه الإرادة' .

الجمال الديونيسي
فريدريش فيلهيلم نيتشه.
مولد التراجيديا
'أن ما تقوله التراجيديا هو "نحن مؤمنون بخلود الحياة، أما الموسيقى فهي الفكرة المباشرة لهذه الحياة". لكن الغاية من الفن التشكيلي أمر مختلف تمام الاختلاف. في الفن التشكيلي يتغلب أبولو على آلام الإنسان عن طريق التمجيد المتنور لخلود الظاهرة. هنا الفكرة تتغلب على الألم الكامن في الحياة. فالألم، يقع ضحية التضليل ويبتعد بعيدًا عن الطبيعة. في الفن الديونيسي ورمزيته التراجيدية، موجهة إلينا، وصوتها الحقيقي الجمهور يصرخ فينا: "فلتكونوا مثلي، مثلي أنا، أمكم الأزلية، خلاقين أبدًا، و مدفوعين إلى الحياة، وتستمدون القناعة من ذلك التدفق الذي لا ينقطع ابدًا من الظواهر"'.







..

المصدر:
On Beauty : A History of a Western Idea
 by Umberto Eco



ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق