الخميس، 10 أكتوبر 2019


محاولة التخلص من قصة عن طريق قصة أخرى
بيتر هاندكه
(الحائز على جائزة نوبل في الأدب 2019)
ترجمة ناصر الحلواني
ـــــــــــــ
بيتر هاندكه

كان يوم أحد، صباح الثالث والعشرين من يوليو 1989، في "فندق ترمينوس"، بالقرب من محطة ليون ـ باريتش ، في غرفة تطل على مسارات القطارات. وبعيدا، بين أسلاك السكة الحديدية والمباني السكنية، كانت الخضرة الشفيفة المبتهجة لأشجار تطل على نهر، قريبا من احتشادها يقع نهر سون، وفي الأعالي يقع نهر رون، تحلق طيور السنونو (تنطلق مع السماء الزرقاء) بعيدا عن دائرة القمر الأبيض، الآخذ في التضاؤل، وببطء، حلقت بعيدا، مثل غيمة.
عبر الجانب الآخر، من خلاء فناء المحطة يوم الأحد، اتجه عمال القطار إلى نواح مختلفة، كلٌ يحمل حقيبته، يهبط الدرجات الخلفية، إلى جوار المنزل المنعزل، المكسو بفروع أشجار العنب البرية، مبنى جميل من بدايات القرن، له نوافذ دائرية في أعلاه، وساروا نحو مهجعهم، مبنى خرساني، معظم نوافذه مرفوعة ستائرها.
في الأعالي، حلقت طيور السنونو، كالتغضنات في السماء، وفي الأسفل، كانت ومضات ضوء تنعكس من مقابض الحقائب، وساعات يد عمال السكة الحديد، وهم يعبرون القضبان بين حين وآخر.
من جهة المنحنى، جاء صوت قطار البضائع، الذي يشبه صوت منشرة. كان بعض العمال يحملون أكياسا من البلاستيك، وجميعهم يرتدون قمصانا ذات أكمام قصيرة، بدون سترات، وكقاعدة، يمشون أزواجا، رغم أنه هناك العديد ممن يمشون وحدهم، وبدا ذهابهم ومجيئهم في مسارهم المنحني، عبر القضبان، لا نهائيا: في كل مرة، يقوم الرجل الجالس عند النافذة، المواكِب، برفع بصره عن أوراقه، كان واحد منهم يتأرجح هابطا. لعدة لحظات، بقي المسار خاليا، لا تعبره غير القضبان التي تعكس ضوء الشمس، كما لم يكن هناك أي من طيور السنونو في السماء.
للمرة الأولى، يعرف المراقب أن "فندق ترمينوس"، الذي قضى فيه ليلته، كان مقر تعذيب أقامه الضابط النازي كلاوس باربي أثناء الحرب. كانت الممرات طويلة للغاية، والأبواب مزدوجة السُّمك. فقط العصافير هي من تزقزق الآن في الخارج، غير مرئية، وفراشة بيضاء كبيرة ترفرف عبر مسار عمال السكة الحديد: للحظة، خيم سكون الأحد على ساحة القطارات الهائلة، ليس هناك أي قطار يتحرك، انحصرت الحركة في هفهفة ستائر إحدى الشقق، التي يتم إغلاقها، واستمر هذا السكون والسلام السائدان في الساحة، فيما تخفق أوراق شجرة الدُّلب، أمام منزل العنب البري، كما لو كانت تصعد من جذور عميقة، وفي الأفق، كان نهر سون غير المنظور، بعيدا عنه، نورس، كشظية بيضاء تومض، وتهب نسائم الأحد الصيفي في الحجرة الواسعة، في "فندق ترمينوس"، وأخيرا، يهبط رجل، ذو قميص قصير الأكمام، إلى مسار ساحة القطارات، حقيبته السوداء تتدلى إلى ركبتيه، واثقا من وجهة مساره، وتتأرجح ذراعه الحرة باتساع، وحطت فراشة زرقاء على أحد القضبان، تعكس ضوء الشمس، ودارت نصف دورة، كما لو أنها تأثرت بالحرارة. والآن فقط، أخذ أطفال إيزيوس، الذين قتلهم هتلر، بعد نصف قرن تقريبا من إزالتهم، في الصراخ بالجريمة الدموية. 


***

أغطية رأس في سكوبيا
بيتر هاندكه
(الحائز على جائزة نوبل في الأدب 2019)
ترجمة ناصر الحلواني
ـــــــــــــ
ملحمة صغيرة محتملة: من بين أغطية الرأس المتنوعة، التي يضعها المارون في المدن الكبيرة، على سبيل المثال: مدينة سكوبيا ـ مقدونيا ـ يوغسلافيا، في 10 ديسمبر 1987. كان هناك، حتى في العاصمة، قبعات  “Passe-Montagne”، أو:قبعات متسلقي الجبال،تغطي الأنف من أسفل، والجبهة من أعلى، ولا يظهر منها غير العينين، ومن بين هؤلاء سائقو العربة الدراجة، يضعون أغطية رأس إسلامية سوداء صغيرة على رؤوسهم، وإلى جانبهم، على حافة الطريق، كان رجل كهل يودع ابنته، أو ابنة أخيه الآتية من تيتوجراد/مونتينيرو أو فيبافا/سلوفينيا، العديد من التكوينات المثلثة المائلة على قبعة برنسه، نافذة إسلامية وزخرفة بارزة (بكت ابنته أو ابنة أخيه). كان الثلج يتساقط في أقصى جنوب يوغسلافيا، ويذوب في نفس الوقت. عندئذ، مر رجل ذو قبعة بيضاء تشبه القبعة العسكرية، مزينة برسوم شرقية، يغطيها البَرَد الساقط، ومن خلفه جاءت فتاة شقراء، بغطاء رأس كالجورب، سميك ومبتهج اللون (تعلوه ذؤابة)، وبعدها مباشرة، رجل يضع نظارات، وبيريه، تعلوه ذؤابة مستقيمةداكنة الزرقة، ثم جاء بعده بيريه عسكري لجندي طويل الساق، وزوجين من قبعات الشرطة، ذات السطح المجوف. حينذاك مر رجل، يضع غطاء رأس من الفرو، وقد رفع جانبيه، اللذين يغطيان الأذن، إلى الأعلى، بين سرب من النساء اللائي يضعن الإيشاربات السوداء على رؤوسهن. بعد ذلك مر رجل يضع طربوشا ذا مربعات، يغطي أذنيه، بلوني الأسود الفاحم والأبيض، مثل البشرة المرقشة بالأبيض والأسود لفايفيز؛ الأخ غير الشقيق لبارسيفال. كان رفيقه يحمل قبعة من الجلد والفراء، وبعدهما مر صبي يضع عصابة رأس تغطي الأذنين. تبع الصبي رجل يضع قبعة بلون خليط الملح والفلفل، أحد أقطاب السوق السوداء، يشق طريقه بلطف، عبر شارع سوق ماسيدونيا، خائضا في الثلج. عندئذ مرَّ فوج من الجنود، يعلقون نجمة تيتو على حافة قبعاتهم. بعدهم جاء رجل يرتدي قبعة صوفية بنية اللون من مصنوعات مدينة تيرول، حافة أمامية، تنثني لأسفل، وتنثني الحافة الخلفية إلى أعلى باستقامة، وشارة فضية على الجانب. ثم كانت فتاة صغيرة، تقفز، وتضع قلنسوة من جلد الغزال، ومبطنة. ثم رجل يضع قبعة راع رمادية، محاطة بشريط أحمر. تبعته امرأة سمينة، تضع وشاح الطباخين، المصنوع من الكتان الأبيض، خلفيته ذات هُدْب. ورجل يرتدي كاباً ذا طبقات من الجلد، لكل طبقة لون مختلف. ثم رجل يدفع عربة، ويضع كابا من البلاستيك، يغطي أذنيه، ويحوط رقبته وشاح فلسطيني. وبعده رجل يسير وعلى رأسه كاب مزين برسوم الزهور.
وبالتدريج، بدا لي حتى منلا يضعون أغطية رأس، كما لو كانوا مزودين بها ـ فالشعر ذاته غطاء رأس. وهناك، كان طفل، ذو كاب ليلي، يتداخل مع امرأة ترتدي قبعة سينمائية عريضة ومائلة: لا تواكب التنوع. ثم فتاة جميلة، تضع نظارات، تمشي إلى جواري، تضع قبعة من إنتاج بورسالينو، بلون بنفسجي شاحب، تهادت إلى زاوية الشارع، تتبعها امرأة ضئيلة للغاية، تعلو رأسها قبعة عالية، مصفوفة الغرز، صنعتها بنفسها، ووراءها رضيع، يضع قبعة سومبرورو على يافوخه الذي لم يتم نموه بعد، تحمله فتاة، تضع بيريه واسعا، مصنوعاً في هونج كونج. وصبي يلف شالا حول رقبته وأذنيه. وصبي أكبر منه، يضع أغطية أذن المتزحلقين على الثلج، وعليه علامة تريكوت التجارية. هذا الجمال وما شابهه. هذا الجمال وهلم جرا. 






ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق