الأربعاء، 27 نوفمبر 2019



حكاية قصيدة!

قصة، للكاتبة الهندية: شاندريكا بي
ترجمة: محمد عيد إبراهيم



تكتبُ سوشاما قصيدة. يتشكّل أول بيتين من تلقاء نفسَيهما بسهولة تامة على فرْخ ورق.
من جفنَيّ، تترنّحُ قطرةُ دمعٍ. 
وأنا أفكّر فيكَ ـ حتى الآنَ.  
بيتان عاديان يكتبهما أيّ شاعر رومانسيّ أو حتى ما بعد حداثيّ. يسترعيان الانتباه فقط لأن من كتبتهما امرأة. كما تعرف، فمجتمعنا الذي يضمّ كذلك بالمصادفة ريغورامان زوج سوشاما، يحيد دائماً عن الطريق ليكتشف تشابهات كامنة تتعلّق بالسيرة في كتابات النساء. لو قرأ ريغورامان هذين البيتين فلن يُعاين سوشاما بأية ريبة، لأنه على نحو خاصّ يرى زوجته، كزوجة القيصر، فوق الشبهات. 
تتولّد قصائد سوشاما في عالم عدائيّ مرتاب. فانظر إليها، وهي تكتب القصيدة على طاولة المطبخ وسطَ أشياء مبعثرةٍ: أفرخ ورق بيضاء، قلم رصاص مكسور، سكّين، شرائح خضار مقطّعة وغير مقطّعة، وصحون. بامية طويلة للقلي أو رزّ بعدس. موز نيئ، أفخاذ دجاج، طماطم إلخ، تتكهّن بإمكان طبخ "آفيال". انظر إلى سوشاما. تترك الخضار نصف المقطّع شرائح على الطاولة لتكتب البيتَين الأولَين من القصيدة، ثم تترك القصيدة لتعود إلى الخضار. لقد قطّعت البامية الطويلة الآن حلقاتٍ جميلةً. تدندن شفتاها بشيء غير مسموع، فتُنحّي البامية جانباً وتستدير إلى الموز النيئ. نراها تقشّره في يُسر برأس سكّينها. تتوقّف فجأةً لالتقاط القلم الرصاص، فنرى أربعة أبيات من القصيدة قد ولدت من دون جهد:
أتذكّر ـ كيفَ سِرنا منضَمّين تحتَ مِظلّةٍ، 
كيف نقعَ المطرُ الغزيرُ الشارعَ الموحِشَ، 
كيف وضعتَ يدكَ على كِتفي الأيسرِ،
كيفَ ارتجفَ جسمي كلّهُ عند لمستكَ، 
لمعت عينا سوشاما في رويّةٍ. تتراخى حركة يديها كمن سيروح في النوم. تنصرف، إلى عالم آخر حيث المطرُ، إيقاعُ المطر وقُطبان مكهربان. فلنخلّها ولنذهب للقاء ريغورامان. 
يقف ريغورامان على محطّة ينتظر الباص ليقلّه إلى المكتب. يذهب على درّاجته عادةً، لكن اليوم أبت الدرّاجة ألاّ تتحرّك. فأنزل الأولاد عند المدرسة بعربة الركشو الآلية، وينتظر الآن على المحطّة. سيأتي الباص لاحقاً، حيث يتوجّب على ريغورامان الوصول لمكتبه قبل ظهور علامة استفهام حمراء على اسمه بسجِلّ الحضور. 
مقعد ريغورامان بالمكتب لِصقَ مقعد شريرانجيني. ريغورامان يحبّ شريرانجيني. يتخيّل أجزاء جسمها على غير شكل أجزاء جسم سوشاما؛ لكنه، يا للغرابة، لم يتمنّ أن يتّخذ شريرانجيني زوجة. يفضّل من النساء الزوجة مثل سوشاما: الهادئة، فهي لا تتكلّم كثيراً، وتؤدّي الأعمال المنزلية إجمالاً من دون نأمة شكوى، وممتازة في فنون الطهي. شريرانجيني طيبة، لكن كصديقة. صديقة جيدة للكلام معها حين تحسّ بعقلك وقد جفّ. جيدة لدرجة تكفي أن تأخذها إلى بيت القهوة الهنديّ لتتناقش معها عبر كوب شاي وقطعة سمبوسة حول بورخيس أو المخرج آرافندان أو التفكيكية. إن لم تعارض، فقد يعزم أن يستكشف أكثر قليلاً، لكن حتى النقطة التي منها يستدير ليمشي عائداً. لا، لا يتمنّى أن يتّخذ شريرانجيني زوجة؛ فلنخلّ المتحرّرات يكنّ زوجات الآخرين.  
وبينما كان ريغورامان يتذكّر شريرانجيني، وقف أمامه باص. صعد الأولاد بزيّ مدارسهم، ثم غادر الباص الذي كان فارغاً تقريباً. يجلس ريغورامان مرتاحاً قرب نافذة، ويواصل التفكير في شريرانجيني. يتمنّى أن تأتي للمكتب اليوم في حرير أحمر. وبينما كان يتسلّى بهذه الأفكار البسيطة، تسقّط حواراً بين ناقدين واثقين بنفسيهما كانا وراءه:
أ: قرأتَ قصة إي الأخيرة في المجلة؟
ب: آه. أظنّ الزوجة الساخطة بالقصة هي المؤلّفة نفسها. 
أ: أظنّ هذا أيضاً. لكن كيف تتأكّد؟ 
ب: انظر، يعيش زميل لي قرب منزلها. بلّغني أن... هيه... تعاني من متاعب مع زوجها. ألم تلحظ بطلاتها ينخرطن في علاقات خارج نطاق الزواج. يبغضن الزواج. 
أ: أنتَ على حقّ. فعلاقة الفتاة في القصة... 
ب: ... آه طبعاً، هي علاقة المؤلّفة.   
أ: ريغورامان يعرف إي... المؤلّفة، وحياتها السعيدة، لكنه ينصت بفضول إلى رواية الحكايات عنها. يحسّ براحة أن سوشاما ليست كاتبة. وإلا تلصّص المجتمع الفظّ على غرفة نومه. يقول الناس: ريغورامان رجل سعيد بزواجه. يشكر نجوم سعده على إنقاذه من أن يكون زوج كاتبة. 
شريرانجيني تكتب قصائد بالإنجليزية والناس تتكلّم عنها أيضاً. لماذا تتحفّز هؤلاء النسوة للكتابة؟ لقد قرأ قصيدة شريرانجيني التي فازت بجائزة من المجلس البريطانيّ. وتبدأ هكذا:
جرّدني لترى مني الحقيقية رؤيا العيان،   
عاريةً، ترعبكَ، تصدمكَ، تضعفكَ أخلاقياً. 
ومَن غيرُ شريرانجيني يكتب مثل هذه الأبيات البديعة؟ 
جرّدني... إلام سيقود هذا التفكيك الشيّق! مرّر ريغورامان لسانه على شفتَيه.
ولدت الآن ثلاثة أبيات أخرى من قصيدة سوشاما. هي:
كيف تستحيلُ كلّ قطرة مطر إلى زهرة،
كيف تشتعلُ النار من تيجانها، 
كيف تنشرُ الدفء والحُمرة عبر البدَن،   
ترتاح القصيدة الناقصة على طاولة العشاء. تأخذ سوشاما حمّامها، بعدما انتهت من الأعمال المنزلية. تدفُق المياه على جسمها لكن عقلها لم يزل مصاباً بدوار القصيدة نصف الوليدة. تسطع الظهيرة بالحرارة حول المنزل. فتُسقط النباتات أرؤسها عاجزة عن تحمّل الحرارة. لكن الدنيا تمطر حيثُ سوشاما. تمطر في عقل سوشاما. فيتولّد فجأة بيت جديد: 
كيف اختبأت عيناك في خُصلاتي المبعثرة،  
ونرى سوشاما عاريةً تركض إلى طاولة العشاء لتضيف هذا البيت آخر القصيدة، تلحق به في عجلة قبلما يتلاشى. كتبته خربشة دون أن تنزعج نفسها بملاحظة ما إن كانت الستائر منسدلة أو كانت عينا الجار الصيّادتان العاطلتان تفتّشان عن فريسة. تكتب، فتتشكّل بِركة صغيرة من الماء حول قدميها؛ فتركض عائدة إلى الدشّ لهزّ شعرها المنقّط. وهي تهزّه، تلمح نفسها بمرآة غرفة النوم.  
تحت الدشّ تقف من جديد، تذكُر الآن ملاحظات ريغورامان الوقحة عن جسمها. علّق لزملائه مرّة حين جاؤوا لبيته على الشاي: هناك فارق وحيد بين زوجتي وملكة الجمال. منعطفات ملكة الجمال في الوضعية الصحيحة، ومنعطفات زوجتي في الوضعية الخاطئة. ويضحك، مستمتعاً بمزاحه، بينما ينزعج زملاؤه بوضوح وهم يغصبون ابتسامة. سيدة واحدة، رانجيني، تعبّر بشدّة عن كراهيتها. تأتي للمطبخ بعدها لتهدئ من ثائرة سوشاما: تساهلي، يا سوشاما. ريغورامان يفتخر بكِ حقاً. فهو يتكلّم عنكِ بالمكتب على الأقلّ مئة مرة يومياً.  
سوشاما على معرفة جيدة بأنه لو تكلّم عنها فللمقارنة مع النساء الأخريات، فلا تسأل عن التفاصيل. لم تعجبها حقاً أن تتطفّل ذكرى تلك الظهيرة على عقلها وهو ذاهل بالشعر. ابعدي، قالت للذكرى. لا تقفي في سبيل قصيدتي. ضيعي! 
يأتي ريغورامان من المِقصَف، يداه وأنفاسه برائحة الدجاج المشويّ، فيسأل شريرانجيني: ألم تتناولي طعاماً؟ هل تصومين اليوم أيضاً؟  
تخبره، نعم. فاليوم خميس. أُقيم الشعائر للأمّ القدّيسة "جوبالا فراتا" من أجل أولادي.  
يا لاتّحاد المتناقضات فيكِ، يعلّق ريغورامان. تتمسّكين بآراء متحرّرة وجريئة، لكن تتصرّفين أحياناً بسلوك تقليديّ.
وحين ترفض شريرانجيني الردّ، يضيف: لكن عليّ أن أخبركِ أن طبيعتكِ المتناقضة تضيف المزيد إلى سحركِ. 
تسأله شريرانجيني، لتغريه كي يبتعد عن الموضوع: لمَ لا تُحضر غداءكَ من البيت؟ ستُحضّره لكَ سوشاما بكلّ سرور. 
يقول: لا أحبّ الطعام البارد. أستمتع فقط بالطعام الساخن أو الدافئ. لذلك تزوّجتُ على نحو خاص فتاة غير عاملة، غير طموحة. هل تعرفين أنه لا توجد عندي ثلاّجة في منزلي. بذلت سوشاما أقصى جهدها لأبتاع واحدة، لكني كنتُ حازماً بالرفض. فهل تفهمين، يا شريرانجيني، الآن سرّ جسمي العفيّ؟ 
تسترق عينا شريرانجيني النظر إلى يديه المتينتين وصدره العريض، ثم تسحب عينيها بحسّ من الذنب، تنهض لتبتعد وهي تدمدم بعذر ما.   
ترتاح القصيدة الآن في حِجر سوشاما. فقد أضافت أبياتاً إليها: 
كيف تشعّب دربنا نحو طريقين مختلفين،
تلطّخت ذكرياتُنا بيدين لا مرئيتين،
أذكُر هذا مرةً تلو مرات.   
تقرأ سوشاما القصيدة مرةً ومرتين ثم تُجري بضعة تغييرات. بدأ ضوء الشمس خارج المنزل يفقد حرارته. سوشاما سعيدة الآن. لا أثر للتعب مع أنها نهضت مع الشمس ثم تحرّكت مع الشمس. هنالك جَذَل سماويّ على وجهها كأن الربّة أبسارا وصلت إلى الغابة الخضراء لولادة طفلها سراً. ترفع عينيها من القصيدة وتهيم حول الغرفة، لا ترى قطع الدجاج والشاي على الطاولة أو وقت الساعة.   
ريغورامان يبلّغ شريرانجيني: سأرحل مبكّراً. لن أعود كالعادة بعد توصيل الأولاد للبيت. عليّ بالذهاب للورشة كي أرى ما صارت عليه درّاجتي.  
رفعت شريرانجيني بصرها عن ملفّ ومنحته ابتسامة.
أراكِ غداً. يتوقّف عند طاولتها ليهمس بنبرة واطئة: هل سترتدين الساري الأحمر غداً؟ أرجوكِ، هذا طلب. 
يمشي بسرعة من غير أن ينتظر رداً. تتطلّع شريرانجيني خلفه بعينين حائرتين وعقل مرتبك. يبدو أن خطواته تدوس على قلبها. 
تضرب يدا سوشاما المرتجفتان الآن رقم هاتف. تضع القصيدة في حِجرها كوليد. لم تضف أيّ بيت عليها؛ فلنستنتج بأمان أنها اكتملت. بعد ضرب الرقم، تعود سوشاما لتجلس منفعلة.
نسمع الرنين الخافت لهاتف من مكان بعيد. يتوقّف. التقط السمّاعةَ أحدٌ. نسمع صوتاً ذكورياً يقول: أهلاً؟ ينشدّ وجه سوشاما كقلب على وشك أن يتحطّم. بعد وقفة طفيفة، يسأل الصوت الذكوريّ ثانيةً: أهلاً؟ أخبريني أرجوكِ من أنتِ. كيف أعرف إن لم تخبريني؟     
وتغلق سوشاما السمّاعة فجأة. يهبط معدّل نبضها بطيئاً كالمعتاد، والوجه يستريح. فتضيف الآن أبياتاً على القصيدة: 
لم تعد تحتضنّي في بالي  
لكن قطرة الدمع لا تزال بجفنَيّ.  
وكلّ قطرة مطر تهلّ من السماء
تملأ أفكاري كموج البحر. 
وصل ريغورامان والأولاد بعربة الركشو الآلية. تسمع سوشاما الصوت، فتقفز من مقعدها وتمزّق القصيدة نُتفاً صغيرة. تلقي بها من النافذة وتندفع نحو الباب لتفتحه قبل رنّ الجرس، لأنها الزوجة المثالية، والأم المثالية! 
ولأن سوشاما دمّرت القصيدة، فعلى القرّاء الراغبين في قراءتها كاملة أن يلتقطوا الأبيات المبعثرة بين ثنايا الحكاية، يلحموها معاً لتصحّ القراءة.


ترجمة: محمد عيد إبراهيم
....................
(*) اللوحة للفنان الإيطالي: جورجو دي كيريكو



ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق