الاثنين، 23 مارس 2015

الطريقة النقدية عند غاستون باشيلار : إيفا م. كشنر

ترجمــة : جبرا إبراهيم جبرا

الاسطورة والرمز ترجمة: جبرا إبراهيم جبرا

اشتهر غاستون باشلار عند جمهرة القراء في فرنسا بأشد كتبه اثارة : " تحليل النار النفسي " . ولعل أفضل مقترب الي طريقته في النقد الادبي هو أن نتأمل في هذا العنوان ، الذي يربط ما بين طريقة مشهورة في العلاج العقلي وبين ظاهرة طبيعية هي ايضا أكثر الرموز كلها غني واستعمالا . فاذا استطعنا أن نلم بما يعنيه باشيلار بتحليل النار نفسيا ، تيسر لنا ادراك طبيعة ومدي ما قدمه للنقد الأدبي والفلسفة كليهما من خلال حدهما المشترك : سيكولوجية الخيال .





لقد أدراك باشلار منذ البداية ، بصفته فيلسوف علْم ، ان التناول الموضوعي لمعطيات تجربة عامة كالعناصر التقليدية الاربعة : التراب ، والماء ، والهواء ، والنار ، ليس بالامر التلقائي قطعا ، بل انه لا ينشأ الا نتيجة لعملية طويلة من التعلم . حتي العقول العلمية جداً تحتاج باستمرار الي ما يذكرها بأن الموضوعية ليست فطرية ، بل لابد من اكتسابها بجهد . اصحاب هذه العقول يعرفون أن الفِكر ال "قبل علمية" كامنة ، دوما وأبدا ، تحت كل فكرة ، وأن " كل معرفة علمية يجب اعادة بنائها في كل لحظة " (كما يقول باشلار في كتابه "تكوين الروح العلمية" ،ط 1960) . وتطور المعرفة الموضوعية من حالتها ال "قبل علمية" (القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين) ، الي تكاملها في "الروح العلمية الجديدة"، التي يواكب ظهورها اعادة تشكيل الافكار التي كانت تعد في الماضي ثابتة لا تتغير ، وذلك بالنظرية النسبية _ هذا التطور يوازيه ، في رأي باشيلار ، ما يحدث في ذهن المفكر الفرد ، هناك في البدء مرحلة "مجسدة" فيها "يتمتع الذهن بصور الظواهر ويرتكز علي أدب فلسفي يمجد الطبيعة ، ممتدحا في آن معا وحدة العالم ، وغزارة تنويعه . تلي هذه مرحلة "مجسدة_مجردة" تتميز بالميل الي التجريد ، والرغبة في تبسيط الواقع بالتعبير عنه بأشكال هندسية تبقي ، رغم التناقض الظاهري ، وثيقة الارتباط بالتجارب المجسدة . وفي النهاية ، تأتي المرحلة " التجريدية " حقا ، وهذه تكمل انفصال المفكر عن التجربة المباشرة الي حد ان الحقيقة العلمية قد تتعارض بشدة مع الظواهر العيانية . أما بالنسبة الي المفكر الفرد ، فان الروح العلمية يبقي اكتسابها والاحتفاظ بها أصعب مما كانت في تاريخ العلم . ذلك لانه "حتي في الذهن النيّر ، ثمة مناطق مظلمة ، كهوف تبقي فيها الظلال حية . حتي في الانسان الجديد تبقي آثار الانسان القديم ."

ان أصالة فكر باشيلار تتأتي من أنه اختار طوعا أن يركز دراساته علي المراحل البدائية القبل علمية للمعرفة ، بدلا من حالة الذهن العلمية الكاملة التي هي حالة المعرفة الموضوعية . المعرفة التي تم تحليلها نفسيا . أما الذي يتحدي اهتمام باشيلار أكثر من ذلك بكثير فهو تلك المعرفة التي ، بعدم بلوغها حد الموضوعية ، هي بحاجة الي التحليل . " لان التحليل النفسي الكلاسيكي ، المعني أوليا بسيكولوجية العلاقات الانسانية ، أي بردود الفعل النفسية لدي الفرد ، التي تقررها عائلته وبيئته الاجتماعية ، لم يوجه انتباهه نحو المعرفة الموضوعية .. واجبنا هو القاء الضوء علي مقاومة العوائق المعرفية في تفصيل البحث الموضوعي نفسه .." ويبدو أن باشلار في دراسته لهذه "العوائق" المعرفية عثر علي حقيقة كونها خلاقة لا يقر لها قرار . فالوعي القبل علمي ، والافكار اللاعلمية التي تهدد دوما نقاوة الافكار العلمية ، أضف اليها ابتكار الشاعر الصور ونشاط احلام اليقظة في كل انسان - هذه كلها تنبع من قوة الخيال ، أي من حس ّ عميق الجذرو بانخراط شخصي في ظواهر الطبيعة . فلنأخذ مثل النار في كتاب "تحليل النار النفسي" . يقول باشيلار بصدد طبيعة النار " ان الموقف الموضوعي لم يتحقق قط . فالاغراء البدائي هنا طاغ ، حتي انه ما زال يشوه آراه ارصن العقول ، راجعا بهم دائما الي المنطقة الشعرية حيث يحل الحلم محل التفكير ، حيث القصائد تُخفي النظريات . هذه هي المشكلة السيكولوجية التي تثيرها اعتقاداتنا بصدد النار . والمشكلة هذه تبدو سيكولوجية بصراحة تجعلني لا أتردد في الحديث عن تحليل النار النفسي ".

غير أن استقصاء الاغراءات السيكولوجية كلها التي تكذب الاستقراءات (كما يروق لباشيلار أن يلعب علي الالفاظ) لا يقتصر علي موضوع النار ، ولو أن باشيلار يؤكد علي ان النار ظاهرة متميزة ، وأكثر الظواهر جميعاً قابلية للتفسير المباشر لدي الناس كلهم . انها التغيير . انها الحياة . وبلغة القيم ، يمكن لها أن تحمل معاني الخير ومعاني الشر ، علي حد سواء . ولكن رموزا أساسية أخري ، كالتراب ، والهواء ، والماء يمكن جعلها مواضيع لدراسات مماثلة : وهذه بالضبط هي المهمة التي قام بها باشيلار ، متتبعا كلا من هذه الرموز ، واسقاطاته الدينامية في الأدب ، من خلال كتابات اقطار عديدة وقرون عديدة ، مفتشا دائما عن المعاني اللامبحوثة الكامنة وراء كل رمز .

وبما أن العناصر الاربعة غنية جدا بالقيم الرمزية المتنوعة فانها خير مادة لما يسميه باشيلار " التحليل النفسي للمعرفة الموضوعية " . " لان المشكلة هي ايجاد فعل القيم اللاوعية في الاساس من المعرفة العلمية والتجريبية . ولذا ينبغي علينا أن يظهر الضوء المتبادل بين المعرفة الاجتماعية الموضوعية ، وبين المعرفة الشخصية الذاتيةففي التجربة العلمية ، يمكننا البرهان علي وجود رواسب تجربة الطفولة . اذن يحق لنا ان نتحدث عن " لا وعي الذهن العلمي " ، وعن خصيصة اللاتجانس في بعض البراهين . وفي دراسة ظاهرة معينة ، لنا أن نري ملتقي قناعات تكونت في مجالات مغايرة جدا من التجربة ." الا أن همّ باشيلار ينصب أكثر فأكثر علي التعبير الادبي في محاولته تحليل القناعات المقبولة دونما تمحيص ، والتي يستغرق فيها المفكرون القبل علميون ، وأصحاب أحلام اليقظة ، والشعراء ، كلهم علي السواء .

كيف يتسني لهذا الضرب من التحليل أن ينتمي الي النقد الادبي بالذات ؟ قطعا لا بالمحاولات الخليطة في تطبيق أصناف التحليل النفسي الكلاسيكي علي الوثائق الأدبية ، ولو أن البعض فعل ذلك بنجاح كبير ، كما فعلت ماري بونابارت في كتابها عن " ادغار آلان بو " ، ورغم أن السريالية حققت حدثاً تاريخياً بتطبيقها تفسير الاحلام ، علي الأدب . فالشعر ، عموما ، مازال بحاجة الي النظم ، حتي في وسط تسجيل الاحلام والكتابة التلقائية . و (ايلوار) يؤكد علي ذلك : " ان مجرد سرد حلم من الاحلام لا يمكن امراره علينا كقصيدة ، كلا الحلم والقصيدة حقيقة حية ، ولكن بينما الأول هو ذكري ، سرعان ما تبدأ بالتلاشي والتحول ، ومغامرة ، فان الثانية لا يضيع منها شيء أو يتبدل ." وبالعكس ، فان الفائدة الشفائية في الكتابة التلقائية تتضاءل في محاولة النظم . وجملة القول ، لا التحليل النفسي بمعناه التقليدي ، ولا الأدب ، استفاد من محاولات السرياليين تحويل الواحد الي الآخر . لان الذي كان لابد من تضحيته في هذه المحاولات هو اما الدقة السريرية ، أو المتطلبات الجمالية

كتابات باشيلار تُدخِل عنصرا جديدا في العلاقات التأريخية بين التحليل النفسي والأدب ، عن طريق رد الاعتبار الفلسفي لفكرة التحليل النفسي . فهو يري ان التحليل النفسي ليس مجرد تحويل التجارب الحلمية الي سلسلة من الرموز العامة التي كان معناهاً خفياً فيماً مضي وأصبح اليوم معروفاً وشائعاً ، بل هو علم وصفيّ يستهدف تعيين الصلات المتكررة بين الصور الموجودة في أعمال الكاتب الواحد ، وبين الرموز العامة بين الجميع . ان الصور (الشعرية) انتقائية جداً ، وما من شك في أن اختيارها تقررّه الخصال الشخصية ، وهو عميق الجذور في التجربة المحسوسة .

فائدة طريقة كهذه تبدو ثنائية : فهي أولاً تهييء عدةّ للبحث الأدبي ، وهي ثانياً تقدم ، في الوقت نفسه ، المزيد من المعرفة بسيكولوجية الخيال بطبقتيه الواعية واللاواعية معاً . بالطبع ، ان الناقد الذي يتصدي لعمل أدبي بالتحليل النفسي يفعل ذلك ضمن حدود النصوص والوثائق دون الاتصالات الشخصية التي توجد في الحالة السريرية بين المحلَّل والمحلَّل . وقد تحدث طبيب نفسي فرنسي ، يدعي (اي. فرنكل) ، عن الحدود التي يفرضها غياب الكلام والملاحظة المباشرة ، وعن المحذور في أن يغدو المحلَّل كيفياً وذاتياً عندما تواجهه الوثائق وحدها ، وفي استقصائه الحدود المشتركة بين التحليل النفسي والأدب ، استنتج أن من المعقول تطبيق افكار التحليل النفسي علي الأدب . فهو يشير الي التلوين العاطفي في المواضيع التي تقترن عادة بعقدة معينة أو عصاب معين . اذ بوسع حدس المحلل أن يتبيّن صلات الشبه بين التلوين العاطفي والعقدة أو العصاب الموازي له . لا ريب ان هذا يمكن تحقيقه من غير الحالة السريرية ، في دراسة النصوص الادبية التي تضيء جوانبها بعض المواد البيوغرافية الخاصة بمؤلفيها . " في العمل الادبي ، نجد أن العناصر البيوغرافية التي هي منال التحليل النفسي تظهر في الاغلب في المواقف (كأن تكون الشخصية مكبوتة ، أو عاجزة عن الخيار بين فعلين ، أو محكوماً عليها بالفشل) ، أو في الصورة السائدة في أحد كتب المؤلف ، أو في أعماله كلها ، أو في الكلمات - المفاتيح ، أو الخصائص اللغوية التي يتميز بها أسلوبه . فاذا تكررت مواقف كهذه بكثرة في كتابات المؤلف علي غرار اللايتموتيف الموسيقي ، فانها تغدو بمثابة مؤشرات الي الشدة والالحاح اللذين عالج بهما ذهن المؤلف الموضوع العاطفي الموازي لها . ولذلك ، فاننا نجمع حول فئة معينة من المواضيع المواقف ، والصور ، وعناصر الحوار ، والمعلومات البيوغرافية ، المرتبطة بها والتي تجد فيها نقطة التقائها ." وبوسعنا ، في تحليل الاعمال الأدبية ، كما في التحليل النفسي السريري ، جعل قناعاتنا تعتمد علي " التقاء تفاصيل عديدة ممحصة بدقة " . ويري (فرنكل) أن باشيلار حتي الآن هو أعظم من ساهم في حقل التحليل النفسي الأدبي . انه صياد صور في مجال التجربة الإنسانية كله ، وعلي الاخص في تعبيرها المكتوب . وهو أيضا مصنف صور ، ويتمتع بالمقدرة علي ايجاد الصلات بين الصور ومحتوياتها العاطفية الخفية ، وكذلك بين الصور الشخصية والرموز الجماعية

هل نحن محقون بالضبط في الحديث عن " طريقة " ، ولاسيما عن طريقة نقدية ، بصدد مقترب من الأدب يتطلب مثل هذا الفهم الحدسي ، والذي يكاد يكون احيانا غريزيا ، للمعاني اللاواعية التي تنطوي عليها الصور ؟ في أحد كتبه الاخيرة "شاعرية الحلم " ، يصدّر باشيلار الكتاب باقتباس من الشاعر (جول لافورغ) عن عدم جدوي الطريقة : "ايتها الطريقة، ايتها الطريقة، ما الذي تبغيه مني ؟ الا تعرفين انني من فواكه اللاوعي قد أكلت؟ " في كتاب "شاعرية الحلم " نجد أن الطريقة ، أو المنهجية ، تصبح رهاناً ، لان موضوع هذه الدراسة قد يتشوه بسهولة ان ألقي عليه الضوء بفجأة ودون تمهيد . ولكن عندما لا يكون الموضوع تجربة أحلام اليقظة نفسها ، بل تعبيرها الأدبي ، فان عبورها السريع انما هو تحددََ جديد لصاحب التأويل .

يصف باشيلار مقتربه بانه ظواهري ، وذلك يعني انه مقترب يؤكد علي الصورة باعتبارها كيانا يُدرس بحد ذاته ، كشيء أصيل ، يجب ادراكه في أصالته لكي يتيح لنا ان نجني الفائدة كلها من شدته وكثافته اللتين بهما جعله الخيال حيَّا نضرا . وهذا المقترب يناقض الطريقة المألوفة التي تحاول أن تقلّص الظواهر الفردية إلي انماط عليا شائعة . فكرة " الاصالة " عند باشيلار تستعيد قوتها البدائية : فالصورة الاصلية ، أو الصورة التي تمثل تنويعا حتي علي أعمق الانماط جذورا ، هي بداية جديدة ، ظاهرة جديدة . وكما انها خُلقت ، في دهشة ، من تلقي الشاعر للعالم واقباله عليه ، هكذا يجب أن تدرس في دهشة ، كخلق جديد وعلاقة أو حادثة جديدة ، من قبل الناقد الذي ، اذ يتوحّد مع الشاعر ، يستطيع أن يشاطره دهشته تجاه الرؤيا الجديدة التي توصلها الصورة . ظواهرية كهذه اذن لا يمكن وصفها بانها سلبية منفعلة . " ان ظواهرية الصور تطالب بالمشاركة الفعَّالة في التخيل الخلاق ." وتبدأ هذه المشاركة الفعالة عند الناقد عندما يتمكّن من تمييز الصور الحية عن الصور الميتة . وليس هذا ، في رأي باشيلار ، مجرد جماليات شكلية . فالصورة لا " تُصبح " كليشة بسبب ابتذالها في التكرار . انها محكوم عليها مسبقاً بأن تفقد نضارتهاً ، وهالة دهشتهاً ، الا اذا بقيت علي اتصال بالتجربة المحسوسة والجوهرية _ الا اذا احتفظت بطاقتها الفيزيائية التي يقول (يونغ) انها من خصائص الانماط العليا كلها .



مثلا ، كل الصور المستقاة من الذخيرة النمطية التي في تجربة الطفولة تحتفظ بقوتها الايحائية للخيال . يقول باشيلار في " شاعرية الحلم " : " كل نمط أعلي انما هو انفتاح علي الدنيا ،ودعوة الي العالم . ومن كل انفتاح كهذا ينطلق حلم مندفع .. الذكريات تفتح ابواب احلامناً من جديد . والنمط الاعلي مقيم هناك ، لا يتغير ، لا يتحرك تحت ذاكرتناً ، لا يتحرك تحت احلامناً . وعندما يتم عن طريق الحلم احياء قوة الطفولة النمطية ، تستعيد كل انماط القوة الابوية والامومية العظيمة سطوتها .. فكل ما هو منفتح علي الطفولة له قوة الاصالة . وستبقي الانماط العليا دائما مولّدة قوية للصور ."


بيد ان الطفولة كقيمة نمطية أساسية ، كموضوع للتأمل الشعري ، هي أكثر من مجموع ذكرياتنا الخاصة . فالصورة الشعرية الجديدة ، أي الصورة الشعرية التي تحمل في طواياها حقيقة نمطية ، بوسعها أن توقظ فينا عالم الطفولة . وهذه ، كما يري باشلار ، حقيقة ظواهرية أساسية : فالطفولة ، كقيمة نمطية ، يمكن ايصالها ، لانك لن تجد أحدا عديم الشعور كليا ازاءها . انها تعيد المرء حسّ الدهشة الذي يكتشف به الطفل الحقائق لاول مرة . وكل صورة ، مهما كانت غريبة ، اذا تميزت بعلامة البدائية الطفولية ، فان لها مغزي ظواهرياً صرفاً . وكما يقول (نوفاليس) " كل بداية حقيقية هي لحظة ثانية " لان الاصول الحقيقية كلها تعود بنا الي التجارب الاولي . وواجب الشاعر هو أن يستعيد ما يسميه باشيلار " أسبقية الكينونة " . وشاعر فرنسي كجان فولان ، لشدة ما يعي أن الفترة السيكولوجية تتسارع كلما ابتعدنا عن الطفولة ، يقول :

واذ في حقول
طفولته الابدية
يتجوّل الشاعر
متمنياً الا ينسي أي شيء .

وهكذا يصبح الاخلاص للاصول ، في رأي باشيلار ، محكا لصدق الصور وصحتها .

وثمة مبدأ آخر ، مرتبط مثله بالحقائق النمطية ، يرجع بفكرته الي وصف يونغ للنفس بانها خنثي ، تتألف من "انيموس" و "انيما" ، يسود فيها الواحد علي الآخر في الرجال والنساء ، علي التوالي . اما " الانيما " فهي ميدان الشعر ولغة احلام اليقظة التي لا رقيب عليها . أما " الانيموس " فيُعبر عنه بلغة الوعي التام والنشاط الموجه . يقول باشيلار : " اننا نعتقد أن أحلام اليقظة قد تكون أفضل مدرسة لسيكولوجية العمق " وعلي السيكولوجية الكاملة ، التي لا تنحدر بوظائف النفس الي اصغر وابسط عواملها ، ان تدخل في الحسبان منطقة الانيما ، أي مقدرة حالم اليقظة أو الشاعر علي الاستمثال (جعل الامور مثالية) . لابد من الاعتراف بان باشيلار قد كرس معظم جهده لدراسة صور منطقة الانيما كأمثلة علي " التسامي المطلق " . وكتابه "شاعرية الحلم " ، لانه يعالج طبيعة احلام اليقظة وعلاقة الخلق الشعري بالذكريات الخاملة ، يكاد يكون كله مقصورا علي معالجة الانيما . الا ، الانيموس أيضا يمكن التعبير عنه أدبيا . وكمثل علي ذلك ، يذكر باشيلار كتاب بيير جان جوف (Histoires sanglantes)، وهو مجموعة قصص قصيرة تجد فيها صراعات كامنة غير منتهية الي حل تظهر ما للانيموس من نشاط عنيف . علي كل ، فان باشيلار يؤكد أن العنصرين فاعلان دائما ، باقترانات متفاوتة ، في المزاج الفكري لكل كاتب ، وأن طبيعة النفس الخنثوية ، ليست مجرد انعكاس لانقسام الجنسين البيولوجي (وهذا الانقسام بحد ذاته قد نشأت عنه اساطير ورموز كثيرة كالتي نجدها في "مآدبة" أفلاطون ) ، بل انها دائبة باستمرار علي خلق واسقاط الصور الجديدة . " عندما تُستْمثَل الذكورة والانوثة ، تصبحان قيما." هذه القطبية يمكن اتخاذها محكّا ثانيا لصدق الصور وصحتها علي طريقة باشيلار . وهذه يمكن استخدامها بنجاح في تأويل قصائد شعراء فرنسيين معاصرين أمثال دي لوبوش ميلوش ، بيير جان جوف ، وبيير امانويل .

في أحدث كتب باشيلار ، "شاعرية الحلم " و " شاعرية الفضاء " ، نري ان الكلمة المفتاح هي الظواهرية (فنومنولوجيا) ، لان المؤلف أخذ يزداد يقينا باستحالة تطبيق المقولات الجمالية الجاهزة علي دراسة الشعر : " ينبغي علي فلسفة الشعر أن تدرك أن العقل الشعري لا ماضي له ، أو علي الاقل لا ماضي قريبا له ، يمكن من خلاله دراسة تهيؤه وحدوثه ." بل ان باشيلار يرفض استعمال فكرة السببيّة في تفسير العلاقة القائمة بين صورة شعرية جديدة ونمط أعلي كامن في اللاوعي . ولا يسمح للناقد الا بحق متابعة تعاقب الصور وفق ديناميتها هي . هذه الطريقة الظواهرية يمكن مقابلتها بالطريقة التي اتبعها باشيلار في سلسلة كتبه الخمسة الاولي المكرسّة لـ " خيال المادة " ، " تحليل النار النفسي " ، " الهواء والأحلام " ، " الماء والأحلام " ، التراب وأحلام اليقظة " ، " التراب وأحلام الارادة " .

في هذه السلسلة من أعمال باشيلار ، كان هناك افتراض نصّ عليه بوضوح ، بل شكل يرفض الجدل ، وجعل كلا من هذه الكتب الخمسة برهانا جزئيا عليه . هذا الافتراض هو أن الخيال الادبي ، وكذلك الخيال الذي لا يعبّر عن نفسه بأعمال أدبية ، يمكن ربطه في كل حالة علي حدة بأحد العناصر الاربعة التي تحدثت عنها الفلسفة القديمة : النار ، والتراب ، والهواء ، والماء ، التي تنشأ عنها أربعة أنواع من خليقة الكون وتحدّد أربعة أنماط من المزاج الشعري . ويري باشيلار أن الكتّاب يختارون حدسيا صورهم في العنصر الذي يؤثرونه بدائيا ، وبشيء من الوعي . وهو يعترف ان ما يفعله هو ، هو صور الماء . والذين يشاطرونه هذا التفضيل "بوسعهم أن يدركوا ان الماء يمثل ايضا " نوعا من المصير " ، لا مجرّد مصير باطل من صور عابرة ، مصير باطل من حلم لا ينتهي ، بل مصير جوهري دائب باستمرار علي تحويل مادة الكينونة . ومن ثم سيدرك القاريء بمزيد من الاسي والحزن أحد أوجح الفلسفة الهيراقليطية ... لا نستطيع أن نخطو مرتين في النهر نفسه لأن الانسان في أعماقه قد جعل يشاطر الماء مصيره الجاري ..." (الماء والأحلام) ، وفي رأي باشيلار ،أن ادغار آن بو شاعر يكشف خياله عن وحدة نادرة ، يبدو أن سرها يكمن في العلاقة العميقة بين صور الماء وخواطر الموت .

وهكذا نري في كتابات غاستون باشيلار كلها مبدأ يهتدي به ، وبموجبه فان اختيار الصور الشعرية ليس عشوائيا ، لان الصور الصادقة الأصلية جذورها دائما ممتدة في التجربة المحسوسة المجسّدة ، لا في التشبيهات أو المقارنات المجردة .

اذا أردنا أن ننتقد الطريقة التي وصفتها هنا علي نحو ناجع ، وجب علينا أن نثير السؤال حول فرضيتها الاساسية ، أي ، أن نعيد النظر في ميتافيزيقة الخيال ، لكي نقرر هل أن الخيال نشاط ذهني خلاق بالقدر الذي يقوله باشيلار ، أم أنه علي الاكثر يعيد تصوير ما هو هناك ، وعلي نحو أكثر ميكانيكية مما يقول . في المستطاع أن نستنتج نظاما فلسفياً من الاقوال المتناثرة في كتابات باشيلار الاخيرة ، ولكن هذا أمر غير وارد هنا ، ولاسيما ان باشيلار ما عاد يستهدف فلسفة منهجية . فدراساته الاخيرة كلها دراسات "طولية " ، يستقصي فيها اما عائلة واحدة من الصور ، أو شاعرية شكل معين من التمثيل أو الوصف ، كالفضاء ، واصفاً الصور ظواهرياً ، بحد ذاتها ، وبعلاقتها مع مؤلفها ، وغراره في اتباع هذه الطريقة يوحي أنه لا يطالب الآخرين بتطبيقها حرفيا . ولا ينفك يردّد دائما أنه حالم يقظة يحلم أحلام يقظة الشعراء . وهو في التحليل الاخير يتحدي الناقد الذي ينوي التصدي لعمل ما ، بألا يقلده ، بل بالمغامرة في مسالك جديدة يتمسك فيها بموقف مماثل ينصف بالوشيجة ، والتواطؤ ، والتحاسّ ، مع الشكل الخاص بخيال أي شاعر . وهذا ليس بالضرورة مقتربا ملؤه الابهام والتمني . ألا تتطلب كل منهجية تكيّف النهج وفق موضوعه ؟ والمغزي الذي نستنتجه من كتابات باشيلار هو أن ثمرات الاخيلة العظيمة يجب أن نتعامل معها بخيال عميق . ان ناقد الشعر المثالي قادر علي اعادة خلق عالم رموز الشاعر . واذ يضع باشيلار امامنا هذا المثل الاعلي ، فان أعماله قد تفعهم صدورنا أملا بصدد مستقبل النقد الادبي ، شريطة أن يرضي النقاد ، كما رضي باشيلار ، بتجريد أنفسهم من المزاعم العلمية وهم يتحملون مشقة العلم الوصفي ، وبالدخول في علاقة شخصية وهم يتحملون مشقة العلم الوصفي ، وبالدخول في علاقة شخصية عميقة مع موضوعهم ، اشبه بالعلاقة القائمة بين المحلل والمحلّل ، وقد حافظوا في الوقت نفسه علي الحيوية الديالكتيكية التي في ذلك التحالف الاشبه بالمستحيل بين الذاتية والموضوعية .

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(المرجع) الاسطورة والرمز ، مباديء نقدية وتطبيقات ، ترجمة جبرا إبراهيم جبرا ، طبعة منشورات وزارة الاعلام ،الجمهورية العراقية ،دار الحرية للطباعة بغداد ، 1973.


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق