السبت، 24 يناير 2015

غاستون باشلار - نحو نظرية في الأدب

تأليف : سعيد بوخليط 


(غاستون باشلار نحو نظرية في الأدب)
كتاب " غاستون باشلار - نحو نظرية في الأدب " ، تأليف سعيد بوخليط ، والذي صدر عن 
دار الفارابي للنشر والتوزيع عام 2011 ، ومما جاء في مقدمة الكتاب:


مقدمـــــة

[I]

تنقسم أعمال غاستون باشلار (1884-1962) إلى قسمين متميزين: قسم، يظهر تأملاته الإبستمولوجية حول تطور الفكر العلمي المعاصر، والعوائق التي يواجهها حينما تنتقل مقولات الحس المشترك إلى مقولات لهذا العلم.
ويفكر باشلار أيضا من خلال ذلك، في الدور الذي تلعبه الرياضيات في هذا التطور العقلاني، والدروس التي يمكن استخلاصها خاصة بالنسبة لبيداغوجيا العلوم الدقيقة. ونراه هنا، يسائل فلسفة علوم عصره ولاسيما الوضعية والعقلانية والواقعية...، متهما جميعها بكونها ستاتيكية جدا وبالتالي عاجزة عن أن تنصف معرفة وفكراً يتميزان بالدينامية.

الخيار بالنسبة إليه إذن، هو أن نأخذ من تاريخ العلم خاصيته العقلانية المنفتحة، التي تؤدي إلى ثورات مفهومية وذاتية تعتبر جوهرية في فهم جذري للعالم الفيزيائي.

القسم الآخر من مشروع باشلار، كرسه بشكل حصري تقريبا لتجليات الأدب والفن والتي تمليها طاقة العناصر الكونية الأربعة: النار والماء والأرض والهواء، على الخيال المبدع للذات الحالمة. سنلاحظ هنا، توظيفه السهل -كما فعل ذلك في إبستمولوجيته- لمبادئ علم النفس التحليلي اليونغي، باعتباره منهجية تمكننا من الوصول إلى العقد وتجلياتها في أعمال الفن. وكذا الظاهراتية، التي مكنته من تناول الصورة (l’image) في الآن نفسه وهي تتشكل في روح المبدع والقارئ.
إن تلقي مؤلفات ومقالات باشلار خارج فرنسا، ظل دائما انتقائيا. في الولايات المتحدة الأميركية ومع استثناءات قليلة، فإن فلاسفة العلم، يجهلون بالمرة عمله الإبستمولوجي، والأكاديميون الذين يعرفونه هم بالأحرى مختصون في سوسيولوجيا العلم. في حين، يتم تداول نقده الأدبي بشكل مألوف عند الباحثين في الفن، لكنهم على النقيض يجهلون الباشلارية العلمية.
في فرنسا، اهتم الباحثون بكتاباته حول العناصر. أما الإيطاليون فقد اتجه انتباههم كليا إلى فلسفة باشلار في العلوم.
رؤية معرفية إذن، أحادية الجانب، جزئية وغير مكتملة توجد في كل مكان من العالم.

إن قيمة اختيار الباحث سعيد بوخليط، للنصوص التي ترجمها في عمله الحالي، تدخل في إطار مشروعه، وضع جمهور اللغة العربية وكذا أكاديمييها ضمن سياق مختلف المنظورات الباشلارية مع تركيز خاص على الجزء الشعري، بناء على تأملات مفكرين ينتمون إلى ثقافات وجنسيات مختلفة: عرب، وأوربيون وأميركيون.
قام سعيد بوخليط باختيار مقالات ترصد مجموعة من المعطيات البيوغرافية حول غاستون باشلار، وبالتالي تمكِّن القارئ من تمثل الحقبة المهنية والشخصية لهذا الرجل الفذ.

[II]

ينقسم العمل الذي بين أيدينا إلى ثلاثة أقسام:
(1)
 ترجمات.
(2)
 مقاربات نقدية.
(3)
 حوار

جاءت المقالة الأولى في قسم ترجمات تحت عنوان: «غاستون باشلار والشعراء»، وهي بقلم الشاعرلوي غيوم    (Louis Guillaume). مقاربة تشكل في حقيقة الأمر، شهادة مثيرة عن حياة وشخصية باشلار، وإظهاراً لمختلف اهتماماته.
وصف غيوم باشلار بكونه "شعلة كبيرة"، أضاءت فكر زملائه وتلامذته. لقد عمل دائما على تشجيع الفنانين الشباب، وهو يضع أعمالهم نديا مع أعمال شعراء كبار.
اتجه اهتمام غيوم بالخصوص إلى "الموجهات الحلمية" التي جاء بها كتاب التحليل النفسي للنار (La psychanalyse du feu) وكذا أحلام اليقظة المرتبطة بوضعيات الإستراحة أو الإرادة، محيلا في هذا الإطار على كتابي: شاعرية المكان (La poétique de l’espace) و شعلة قنديل (La flamme d’une chandelle) .


المقالة الثانية، والتي اختار لها صاحبها جون لبيس (Jean Libis) عنوان "الفيلسوف والشاعر"، تتمم بشكل جيد إشارات غيوم. لقد حاول أن يشركنا في بعض مقاطع الرسائل التي تبادلها باشلار مع غيوم، وهي بالمناسبة وثيقة ثمينة جداً، تظهر بشكل واضح كآبة باشلار طاعن في السن، وهو يسترجع مسيرته الفلسفية الطويلة.
هكذا يعترف باشلار للشاعر، بأن قراءة القصيدة وحلم اليقظة الذي توحي به، هو ما يشكل حقا أكبر مباهج حياته الروحية.
بالتأكيد، "القوة الدراماتيكية" لأفكار باشلار حول احتمال الوجود ظهرت بالفعل من خلال المضمون النوستالجي لـ: شاعرية المكان (La poétique de l’espace) وخاصة مقاطع من شعرية النار (Les fragments d’une poétique du feu) ، ثم كتابات أخرى جاءت في المراحل الأخيرة لحياته، مظهرا كذلك رغبته في أن يبين لنا العلاقة بين الأفراد والنباتات من خلال سبر ذكريات تثيرها روائح الطبيعة "ستكون منبعا لرغبات وأشواق لا نهائية".

لا يتأتى الاهتمام فقط هنا من روح الشاعر المبدعة، ولكن كذلك من روح القارئ التي تستوحي القصيدة، حتى يوقظ في نفسه ذاكراته وقواه الروحية.

المقالة الثالثة في قسم ترجمات دائما، وهي للباحث مارسيل شيتل، (M.Schaeltel) فإنها تتمم وبشكل منطقي، الشهادتين السابقتين. من خلال مقاربته: "باشلار والشعراء: حول صورتين للوي غيوم"، توخى مارسيل شتيل إذن، الحديث عن توظيف باشلار لمجموعة من صور الشعراء وخاصة تلك التي جاءت بها قصيدة غيوم.

باشلار "قناص وجامع للصور"، لكن مع ذلك يصعب الفصل في تفضيلاته الشعرية، نظرا لانتقائيته الفكرية والتي ميزت كذلك إبستمولوجيته العلمية.

الاختيار الأدبي لهذا الفيلسوف، يذهب على سبيل المثال من ريلكه (Rilke) وبودلير (Baudelaire) وبوسكو (Bosco) وبو (Poe) ، وشار (Char) إلى بروتون (Breton) ...، توخيا لمراكمة مجموعة من الكلمات أو جمل تتسامى بعقلانية المجازات، وتعطيه منفذا على صور شاردة وملتبسة تتأتى لروح الذات الحالمة.

أخيرا، فإن إطلالة الباحث عمور الشارني (Amor Cherni) علينا بـ: "باشلار والعرب"، قربتنا من الحضور "المحدود لكن العميق" لكتابات باشلار في العالم العربي. يمكنني القول ودون مبالغة، أن هذه المقالة تشكل مرآة لتناول باشلار في العالم بأكمله.
انطلاقا من تحليل ثاقب جدا، سيظهر الشارني تعددية النظر إلى باشلار لصالح مؤسسات ومن خلال موضوعات مختلفة جدا. هناك على سبيل المثال، باشلار الثانويات ثم تدريس باشلار أو البحث في باشلار داخل الجامعات، وكذا باشلار الجمهور ارتباطا بتعريبه وإشعاعه خارج المدرسة....

يظهر الشارني تذمره بشكل معقول تجاه "تآليف لكن دون معرفة كبيرة" وانحصار الاهتمام الذي يثيره باشلار عند الجمهور، وكذا تباعد المعايير بين أولئك الذين يقرؤون بالعربية، والذين يكونون في غالب الأحيان خاضعين لسلطة المترجمين. ثمة مفكرون آخرون -التونسيون بالخصوص- ينجزون جل أبحاثهم من أجل الميتريز والدكتوراه باللغة الأصلية لنصوص باشلار أي الفرنسية.
إلى جانب هؤلاء، توجد كذلك فئة حولت باشلار إلى مجرد أداة لاستهلاك جامعي دون إدراك فعلي وحقيقي لرسالته التحررية.
القضية الكبرى التي يطرحها الشارني، هي هذا النزوع داخل العالم العربي من أجل تأويل باشلار عوض "تركه هو نفسه يتكلم".


[III]

يبدأ قسم "المقاربات النقدية"، بقراءة الباحث سعيد بوخليط، لكتاب التحليل النفسي للنار (La psychanalyse du feu) ، مظهرا لنا بأن هذا العمل يمثل رغبة باشلار ـ مسألة تم التأكيد عليها قبل ذلك في كتاب "تشكل الفكر العلمي: مساهمة في تحليل نفسي للمعرفة الموضوعية"- في تأويل وثائق ماضي العلم بمناهج يقدمها التحليل النفسي للاوعي.

لقد تكلم باشلار هنا عن العوائق التي تحدثها المعرفة الأولى أمام المعرفة العلمية، وكذا قوة حضورها في لاوعي الكائن الإنساني. هكذا تشكل النار مثلا، حالة نموذجية وجذرية عن الشيء الذي يصمد أمام كل تموضع (Objectivation) نظراً لعلاقتها الوثيقة مع مجموعة من العقد الشخصية والثقافية بل والكونية.

إن "عقلا نقديا"، يمثل إذن ضرورة ليس فقط بالنسبة لحالات كهاته يكون فيها اللاوعي أكثر قوة، وينعكس بشكل مباشر على المعرفة (كما هو الحال مثلا مع الخيمياء) ولكن كذلك بالنسبة لكل الأشياء التي يؤسسها العلم المعاصر.
Gaston Bachelard: un Rationaliste romantique

العمل الثاني في هذا القسم، يتعلق بإعادة قراءة كتاب: غاستون باشلار: عقلاني رومانسي (Gaston Bachelard: un Rationaliste romantique) والذي اعتبره (J.J. Wunenburger) في تقديمه لهذا العمل، بأنه يمثل بالتأكيد مدخلا لحياة وكذا عمل غاستون باشلار.

الفصل الأول كتبه، باسكال نوفل (P. Nouvel) تحت عنوان: "غاستون باشلار، فيلسوف فائض"، إشارة إلى اشتغال باشلار في بداية حياته بمكاتب البريد.

نلاحظ هنا، نفور باشلار من سلطة المجازات البرغسونية، مع افتتان مجموعة من معاصريه بمفاهيم مثل "معطيات الوعي" والطاقة الحيوية".

وأشار باسكال نوفل، إلى طبيعة تفاعل باشلار مع وجودية جان بول سارتر، وكذا موقفه المزدوج نسبيا حيال فينومينولوجيا موريس ميرلو-بونتي. ثم انتقل بنا، إلى مواقف بعض المفكرين المعاصرين لباشلار، والذين أثروا فيه كما هو الحال مع جان هيبوليت (J. Hypolite) . أو على العكس، أثر فيهم باشلار بشكل قوي كما هو الحال مثلا مع جورج كانغليم (G. Canguilhem) ، وميشيل فوكو (M. Foucault) أو لوي ألتوسير (Louis Althusser) .
أحال باسكال نوفل كذلك على أعمال باشلار، خاصة تلك المتعلقة منها بالنقد الأدبي لإظهار أن مشروعه توخى الوقوف على هذه "السيادة الشعرية المستقلة، حيث الكلمات صور كذلك".

في الفصل الثاني من كتاب (غاستون باشلار: عقلاني رومانسي) ، توخى جون ليبيس (J. Libis) بمقالته "جانوس والمالنخوليا" تحطيم الأسطورة التي تؤكد على انفصال وتباعد بين الإبستمولوجيا العلمية لباشلار وكذا نقده الأدبي. حيث استند الباحث، وضد النزوع التأويلي المألوف، على "توتر داخلي" ظل يحكم باستمرار المشروع الكلي للفيلسوف.

كما تحدث ليبيس عن الانتقائية والتفضيلات الأدبية والفلسفية لبشلار، واستحضاره بالأخص لأسماء مثل: شوبنهاور (Schopenhauer) وكانط (Kant) وهوسرل (Husserl) ونيتشه (Nietzche) ويونغ (Jung) .... وقد أثروا ربما في الخاصية "المضطربة" و"الدراماتيكية" لإبستمولوجيته.

لكن ما يثيره الانتباه في هذا الفصل بشكل خاص، هو الإدراك المستخلص من أعمال باشلار حول الخيال المبدع وتحليله النفسي للإبداع الأدبي، ولما اصطلح عليه ليبيس بـ "سعادة نادرة في الكتابة"، بالخصوص تلك التي ارتبطت بكتاباته الشعرية التي تتوافق مع "حرية الخيال".

[IV]

القسم الثالث والأخير من مقاربات الباحث سعيد بوخليط لفكر باشلار، جاء على شكل حوار أجراه معي بخصوص مستويات حضور العمل الإبستمولوجي لباشلار في أميركا الشمالية، انطلاقا من المجهود الذي أبذله حتى يشع هذا الفكر أكثر في أوربا وخاصة في النمسا وإيطاليا وكذا أميركا الجنوبية (البرازيل).

البحث في انفصال باشلار عن التقليد الوضعي، وتشابه بعض مواقفه الفكرية مع تلك التي جاء بها فلاسفته كـ: كارل بوبر (Karl Popper) ، وتوماس كوهن (Thomas Kohn) وميشيل بولاني، وكذا تبنيها من قبل البنيويين الاجتماعيين، يمثل كل ذلك جزءاً مهماً من المشروع الذي أقوده.

باختصار، يمثل العمل الحالي لـ "سعيد بوخليط" محاولة تستحق التقدير لإعطاء جمهور اللغة العربية نبذة عن حياة ومشروع غاستون باشلار وتقريبنا من تأملات، يمكنها أن تثير مفكري اليوم.

* Prof. Teresa Castelao-Lawless. Grand Valley State University USA. Avril 2004.



               



ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق