الثلاثاء، 28 أبريل 2015

النقد والخيال عند غاستون باشلار : جان ايف تادييه

ترجمة : د. منذر عياشي


جان ايف تادييه
يركز نقد الوعي علي الذات التي تكتب ، غير أن الثورة التي أحدثها غاستون باشلار(1884-1962) قد أدخلت خيال المادة بوصفه موضوعاً رئيسا للدراسة . فلقد جدد غاستون باشلار في تسعة من كتبه النقد الفرنسي (لم تحظ كتبه بالنجاح في البلاد الأنكلو ساكسونية)، وقلب مناهجه ، هذه الكتب هي : "النار في التحليل النفسي"(1938) ، "لوتريامون" (1939) ، "الماء والأحلام" (1943) ، "الهواء والأحلام" (1943) ، "الأرض وأحلام يقظة الراحة" " الأرض وأحلام يقظة الإرادة" (1948) ، "شعرية المكان" (1957) ، "شعرية أحلام اليقظة" (1960) ، "لهيب شمعة" (1961) ، ولقد كانت المناهج المستقاة من باشلار حتي عام (1970)، وهي السنة التي انتصرت اللسانيات فيها ، هي المناهج الوحيدة تقريباً التي تلهم ما يمكن أن نسميه "النقد الجديد" ، غير أن باشلار نفسه كان قليل الإهتمام بتأسيس مدرسة ، ذلك لأنه كان أولاً إبيستمولوجياً وفيلسوفاً من فلاسفة العلوم ، ثم جاء متأخراً إلي التعليق علي الشعر : لقد كان حالماً متوحداً ، علي الرغم من أنه أستاذ كبير وكاتب عظيم.

لم يكن لباشلار منهج واحد ، ولكن له عدة مناهج (انظر ميشيل مانستوي : "غاستون باشلار والعناصر" 1967. وكذلك فانسان تيريان : " ثورة غاستون باشلار في النقد الأدبي" 1970).

ولقد تمت إقامة هذه المناهج وتصحيحها في هذه الوحدة : وإنه لمن الضروري إذن ، حين تتبع مباديء الفيلسوف وتطبيقاتها أن لا تشوه وأن لا يتم خلطها . وثمة عقبة أخري تأتي من الاستعمال السمعي لمصطلحات مثل "التحليل النفسي" ، "الظاهراتية" ، "الشعرية" ، استعمالاً جديد المعني. إذ كل شيء يبدأ عام (1938) مع "النار في التحليل النفسي" (النار بوصفها كتاب المؤلف الأول والأخير) ، وهي عنصر ينفلت من العلم ، ولكنه لا ينفلت من أحلام اليقظة . وإن هذا الكتاب ليسم إذن جيداً العبور من المعرفة العلمية إلي المعرفة الشعرية : "إن المقصود في الواقع هو العثور علي فعل القيم غير الواعية في قاعدة المعرفة التجريبية والعلمية نفسها" ، ومن هنا ، يجب تحديد كلمة "غير واعي" : "إنها تعني طبقة نفسية أقل عمقاُ ، وأكثر عقلاً (إذن تعني ما قبل الوعي) . وكذلك الحال بالنسبة إلي الأحلام ، فأحلام اليقظة تحل محلها ، " وإنها لتختلف اختلافاً كبيرا عنها ، وهي بهذا تتمحور دائماً حول موضوع ما " ولذا ، فهي تعين "مركبات" لأن العمل الشعري يتلقي فيها "وحدته" . ولكن هذه المركبات تحمل أسماء جديدة (بروميتية، أمبيروكل، نوفاليس، هوفمان) ، وهي أسماء قريبة من يونغ (الذي يقترح باشلار أن يتممه) أكثر من قربها من فرويد : فالجنس يؤدي فيها دوراً محدوداً . وإنه لمن أجل هذا كان المنهج الأول هو منهج "التحليل النفسي للمعرفة الموضوعية" وللاتجاهات النفسية التي تثيرها الصور البدئية . وإن الكتاب ليعبر كلما تقدم من واحد إلي آخر ، ويستعير أمثلته بمعدل أقل من الكتب العلمية  ومعدل أكبر من النصوص الأدبية : " فكحول هوفان هي الكحول التي تلتهب ، وإنها لموسومة بعلامة نوعية ، وذكورية نارية ، بينما كحول ألان بوي ، فهي الكحول التي تغرق ، وتعطي النسيان والموت . وإنها لموسومة بعلامة نوعية ، وأنوثية مائية ". وإذن ، يكتشف باشلار أن الذهن الشعري "يخضع كلية إلي فتنة صورة مفصلة" (ص 128) . غير أنه لا يتخلي عن العقل العلمي : " فالحكواتيون ، والأطباء ، والفيزيائيون ، والروائيون، وكل الحالمين ، ينطلقون من الصور نفسها ويذهبون إلي الأفكار نفسها" . ولكنه يريد أن يبتعد عن " التحليل النفسي الكلاسيكي " ، ذلك لأن الكبت بالنسبة إليه نشاط ليس طبيعياً فقط ، ولكنه "مبهج" أيضاً ، فالتحليل النفسي للمعرفة الموضوعية يسمح بمعرفة الخطأ في الحبور :" وحينئذ تلد المتعة الروحية الصافية ". وإننا لنصل هنا إلي "المعرفة الموضوعية للذاتي"، وإلي اكتشاف "الجدل المتسامي" الذي يلد من "الكبت المنظم" وهكذا فإن الكتاب الأول " ليعد العدة من أجل نقد أدبي موضوعي" يشكل نسقاً و"نحواً" يقدم كل شاعر تركيباً من الصور نستطيع أن نكتشفه "بعد حين" وإن هذا الأمر ليكون في رسم " مخطط بياني " ، والعثور مجدداً علي منطق ، ولكنه لن يكون في سطحية الرسم ، ذلك لأنه ثمة جدل لحلم اليقظة ، وإنه ليكون في المكان نفسه الذي " ينقسم فيه الاندفاع الأصلي " : " ويستطيع الكائن المحب أن يكون صافياً حينئذ ، كما يستطيع أن يكون محتدماً ، ومفرداً ، وكونياً ، ومأساوياً ، ووفياً ، وأنياً ، ودائماً" . وهذا يعني أنه "النفسية المبدعة".

وقد كرس باشلار في السنة التالية دراسة عن لوتريامون الذي اكتشفه السورياليون . وبهذا يكون قد صنع دخوله الحقيقي إلي النقد الأدبي وسجل الافتتاح هدفه المضاعف : تجلي ذلك في تحديد " القوة المخفية للعلاقات الزمانية ". وفي استخراج " التركيب في الحياة الحيوانية " و"الطاقة العدونية " إن " أغاني مالدورو " تمثل عدواناً خالصاً . فالكتاب يريد أن يكون " تحليلا نفسياً للحياة ". ولذا ، فقد كان المنهج يقضي بجمع إشارات الاعتداء التي هي : الحيوانات ، والمنمسخات الحركية (والتي تتعارض مع تلك التي صنعها كافكا مصابة بإغماء تخشبي) . ومن هنا ، كانت إرادة القوة عند لوتريامون . ويقترح باشلار سبر "التعقيدات الثقافية " (فوق الطبقة البدائية التي سبرها التحليل النفسي الفرويدي)،ومن ذلك مثلاً حياة ديكاس المدرسية والتي تتركزنفسياً " ضد الطفل والربوبية " . وعندما يلامس باشلار قضية السيرة الذاتية فإنه يرفض الاتهام بالجنون ، وذلك لكي " يحي الثقة الكلامية للعمل ، والتماسك الرنان " ولكي يدل علي التحرير الذي أدته الكتابة " فما أن يستطيع ذهن أن ينوع ملفوظه حتي يصبح له سيراً […..]،
ولقد استطاع لوتريامون أن يهيمن علي استيهاماته " ؟ ألا وإن عمل لوتريامون لغريب ، ولكن ليس حياته ، فقضايا علم النفس يجب أن تطرح من خلال العمل ،الذي هو سلبي إزاء الحياة ، ويعيش قطيعة معها . وإن منهج باشلار ليقوم إذن علي العثور علي القوة النفسية في اللغة . فإذا كانت الكلمة مركزة علي " اللحظة العدوانية " فإن الجملة يجب أن تصبح ترسيمة لدوافع متلونة " ، وبهذا يكون الفعل في الحاضر بدلاً من أن يتأثر بتاريخ اللغة ويعيد قول ، كما هي حال ليكونت دي ليسل ، صدي ضعيف في الأغلب ، أو يعيد أصوات بطولات ماض موهوم دائما. فلقد كشفت لغة العمل " تركيب لوتريامون " . وإن هذا الأخير الذي حرر الشعر من الوصف ، ليعيدنا إلي الحرية ، ولذا ، فإن باشلار قرأ " مالدورور" كما يقرأ قصيدة عدوانية ، وذلك حين وصل موضوعات ، ورموزاً ، وكلمات مفتاحية . غير أنه لا يكتفي بهذا المعني ، لأنه اي قراءة بالنسبة إليه يجب أن تغير القارىء : إنه لمن الواجب تجاوز لوتريامون ، وتحويل " قوته التوسعية " إلي " مشروع يفتح الخيال فعلاً .

كرس باشلار أيضاً أربعة كتب عن خيال المادة . فلقد وجد العناصر الأربعة التي كان الفكر القديم يضعها " في أساس كل شيء " تماماً كما لو أن غيبة وعي تاريخي توجد في الماضي ، وأما المجلدان الأكثر كمالاً في هذه السلسلة ، منهما اللذان يبحثان في الأرض . وإن الإجراء ليقرأ هنا قراءة أفضل . أولاً ، ثمة قراءة عامودية : " فنحن لسنا سوي قارىء ، قروء ، وإننا لنمضي ساعات ، وأياماً نقرأ كتبا  قراءة بطيئة وسطراً سطراً . ونقاوم قدر المستطاع جذب الحكايات (أي نقاوم الجزء الوعي بوضوح من الكتب)، وذلك لكي نكون متأكدين من إقامتنا في الصور الجديدة ، وفي الصور التي تجدد النماذج المثالية غير الواعية" . فالصورة الأدبية تجدد الصورة الأساسية ، وإنها لتتنوع تنوع الموضوع الذي يعطيه النموذج المثالي . ولكن هذا التماس الذي يقيمه الناقد يكشف من غير رحمة عن الرواسم ، وعن الصور المزورة ، وعن القيم الصحيحة : " إن شعر المحراث النمطي ليغطي كثيراً من القيم . وإن هذا ليدعو إلي ضرورة وجود تحليل نفسي لكي يتخلص الأدب من هؤلاء الحراثين المزورين " . ويجب أن نفهم ، من جهة أخري ، أن الصورة بالنسبة إلي باشلار ، ليست صورة بلاغية ، ولا جزئية نصية ، إنها موضوع لما هو كلي ، وإنها لتدعو الانطباعات الأكثر تنوعاً إلي الاتفاق ، تلك الانطباعات التي تأتي من معاني عديدة ، وإنها أيضاً ليست تركيباً " بين مقاطع لواقع ملاحظ ، ولا بين ذكريات لواقع معاش " كما هي الحال في الثقافة والنقد الواقعيين ، فالفنان الباشلاري ليس هو ذلك الإنسان الذي لاحظ جيداً ، ولكنه ذلك الذي حلم جيداً ، فالصورة ضمن النص إنما هي أثر من أثار الوظيفة غير الواقعية . وإنها لتسبق الملاحظة لأنها سمو نموذج مثالي وليست "إنتاجاً للواقع" ، وفي اللحظة التي كان باشلار يكتب فيها " الأرض وأحلام يقظة الإرادة " ، كان يقترب من يونج ، ولكن قوله كان مختلفاً ، إنهم كثر أولئك المؤلفين (بتيجان ، كايوا ، روبنل ، ديزواي) الذين غير وجهتهم ، ونقلهم من أماكنهم ، وجعل التعرف عليهم غير ميسور ، خاصة وأنه كان يستشهد بهم بأمانة ، وسذاجة ، وذلك لكي يجعلهم يؤدون واجباً جديداً .

وثمة خطأ أخر يجب ألا يرتكب ، وهو الإعتقاد بأن باشلار كان مهووسا بالمضامين وغير مهتم باللغة ، فكما أبان لوتريامون ( انطلاقاً من أربعمئة كلمة حيوانية) ، فإن الصورة الأدبية " تقول ما لا يمكن تخيله مرتين " . إنها تبدع لغة ضمن حركة فعالة تعبر عن الطاقة النفسية ، ولقد كان العصر يفرض هذا البحث عن الصورة ، وإذا كان يجب دراستها في الأدب ـ لأن العناصر الباشلارية لا توجد في الحياة ، ولكن في الكتب ، فلأنها تعود إلي أصل اللغة والخيال ، وتترجم الفضاء الشعوري المكثف داخل الأشياء " . فالمادة القاسية ، والمادة اللينة ، والمادة المتخلفة ، كلها أيضاً مضامين للصور ولكنها مضامين للحركة كذلك ، إنها موضوع السقوط ، أو النضال ضد الجاذبية ، وضد التوترات الجدلية ، إنها مادة مضطربة تحت سطح هاديء ، فعندما يمر باشلار علي صور الملجأ (البيت ، البطن ، الكهف) ، فإنه لا يكتفي " بالعودة إلي الأم " إنه يقلب الإجراء ، فبدل أن يصعد إلي المنابع النفسية العميقة و غير الواعية ، فإنه يفضل أن يصعد " تطوره من خلال صور متعددة " .

يجب أن نشير إذن إلي الاختلاف مع التحليل النفسي ، فالرمز في التحليل النفسي عبارة عن " متصور جنسي " ، بينما " الصورة فشيء اخر . فللصورة وظيفة أكثر فعالية . ولها معني في الحياة غير الواعية وإنها لتشير من غير ريب إلي غرائز عميقة ، ولكنها أيضاً تعيش من حاجة إيجابية للتحليل . وإنها لتستطيع جدلياً أن تكون أداة للإخفاء وللظهور ، ولكن يجب أن يكون الإظهار كثيراً لكي نخفي قليلا . ولذا علينا أن ندرس الخيال من جانب هذا الإظهار الهائل " . وإننا ، هنا ، لنلتقي القاريء الذي يؤثر النص فيه " ففي اللحظة التي تطلق فيها حرية التعبير في الكاتب قوي معقدة ، فإنها تميل إلي تثبيت صور داخلية عند القاريء مثبتة في الكلمات " ، إذ بها يسقط الكاتب نفسه والقاريء معه في الأشياء . ولكن اللاوعي ، وطفولة الكاتب ، وعقدة أوديب لم تعد تهم باشلار ، فقد كان قريباً من مارلو أكثر من قربه من فرويد أو حتي من يونغ .

وعندما ظهر بعد ذلك بتسع سنوات كتاب "شعرية المكان" ، ظننا أن باشلار يقترح منهجاً ثانياً ، لقد حلت ظاهرية الصور محل تحليل العناصر ، ولكن القطيعة كانت أقل كبراً مما بدت ، فلقد انتهت ، بالإضافة إلي "شعرية أحلام اليقظة" (1960 ، إلي استعادة جديدة " الأرض وأحلام يقظة الإرادة" ، إذ ربما كان المقصود هو وضع الحق في علاقة مع الوقائع ، ووضع المباديء في علاقة مع الممارسة ، وقد كان باشلار يعني بظاهرية الخيال "دراسة ظاهرة الخيال الشعري ، وذلك عندما تنبثق الصورة في الوعي بوصفها انتاجاً مباشراً للقلب ، وللروح ، وللكائن ، وللإنسان كما هو مستجوذ في راهنه " . فليس ثمة ماض للصورة ، ولكن ثمة مستقبل لهاً ، إذن ، ليس ثمة سببية مع " نموذج مثالي يهيمن علي عمق الوعي " ، وليس ثمة تفسير لوجود " الزهرة بسبب السماد " . وهو إذ يعاود تناول متصور السمو الذي يعالجه منذ كتابه " النار في التحليل النفسي " ، فإن الناقد يري فيه البرهان بأن الشعر " ينوف علي علم نفس الروح الحزينة أرضاً " . فالظاهرية لا تصف بشكل تجريبي الظواهر الشعرية ، وإن هذا الأمر ليفترض وجود قاريء سلبي ، فهي تعيش "القصدية الشعرية " . ويجد هذا المستقبل للقصد نفسه مقروءاً في "الرنان" . فهو يشكل الاختلاف الرئيس مع المؤلفات الموضوعة عن خيال المادة . ففعل الخيال في "أرواح أخري" لا يمكن أن يفسره وصف موضوعي ، فالظاهرية  وحدها ـ أي النظر في انطلاق الروح ضمن وعي فردي ـ تستطيع أن تساعدنا في إعادة تشكيل ذاتية الصور ، وقياس السعة ، والقوة ، ومعني التحول الذاتي للصورة ". فالصورة توحد بين "ذاتية مجردة ولكنها زائلة " وبين واقع غير مكتمل تماماً في بعض المرات ، وذلك بشكل تكون فيه قبل الفكر " أصلاً للغة ".

لا تحلل إن الظاهرية الباشلارية شيئاً ، ولكنها تحلل الرنين ، كما أنها لا تحلل التكرار ، ولكنها تحلل ظاهرة فريدة ، لا يعدها اي شيء ، إلا إنها مع ذلك ، تدع جانباً " تأليف القصيدة بوصفها تجمعاً من الصور المتعددة " ، وذلك لكي لا تهدم صفاء الملاحظة البدائية ببرنامج واسع جداً . ويقترب القاريء ، بهذا الشرط ، من فرح الكتابة ، كما لو كان كان " شبح الكاتب " وحريته . وليس لنا إذن أن نبرر الصورة أولا بمجموع القصيدة (أو العمل) ، ولا بالواقع المحسوس ، ولكن بالبقاء في " فضاء لغوي " شكلته ، وحددته الصورة ، أو الجملة ، أو البيت الشعري الذي يتضمنه " . أما ما يخص اشتراك الصور ، فتلك "مهمة ثانوية" . وإن هذا ليعني إذن أن النقد الباشلاري يحدد الوحدة الصغري للشعر (أي للأدب ، وذلك لأن النصوص النثرية غير مستبعدة " بوصفها موضوعاً واحداً لدراسته . وهذا ما كان السورياليون يضعونه في المقام الأول " الصورة المخفية " كما يقول بريتون . ولقد كان الإمساك بهذه الوحدة يتم في انبثاقها في العلاقة الواحدة التي تقيمها مع الذات المبدعة لها : بأنها "أصل مطلق" يجب علي أن يشترك فيه ، وذلك بكتابته حلم يقظة الفنان ، وهكذا يعلق باشلار علي فونتين ( "السماء كائنة فوق السطح " ) ، " في السجن ! من ذا الذي لا يكون في سجن الساعات المأساوية ؟ . فأنا في غرفتي الباريزية ، بعيداً عن بلدي الأم ، أقود حلم اليقظة ، لفيرليني ، وسماء الماضي تنتشر فوق مدينة الحجر ، وتغني في ذاكرتي للمقاطع الموسيقية التي كتبتها رينالدوهاهن علي قصائد فيرلين ، وكثافة من الانفعالات ، وأحلام اليقظة ، والذكريات تنمو من أجلي فوق هذه القصيدة ، وأقول فوق ـ وليس تحت ، ولا في حياة لم أعيشها ـ وليس في حياة سيئة عاشها الشاعر البائس . ولكن العمل في نفسه ومن أجل نفسه ، ألم يهيمن .  علي الحياة ، ألم يكن العمل مفخرة بالنسبة إلي ذلك الذي عاش حياة سيئة ؟ إن النقد الباشلاري يعيد إذن تشكيل اكتشاف العالم ، العالم الذي تريد روح الفنان أن تعيش فيه ، انطلاقاً من الصورة .


 ـــــــــــــــــــــــ

(المرجع) النقد الأدبي في القرن العشرين ، تأليف جان ايف تادييه ، ترجمة منذر عياشي ، منشورات مركز الأنماء الحضاري ، الطبعة الأولي 1994 ، ص 49 : 56 .


جان ايف تادييه (Jean-Yves Tadié) ، واحد من ألمع النقاد في فرنسا ، ولد عام 1936 ، درس في المدرسة العليا ، وهو حامل لدكتوراه الدولة في الأدب ، ويعمل حالياً في جامعة السوربون الجديدة ، ومن كتبه :  مدخل إلي الحياة الأدبية في القرن التاسع عشر (1970) ، بروست والرواية (1978) ، القصة الشعرية (1978) ، الرواية والمغامرات (1982) ، النقد الأدبي في القرن العشرين (1987) ، الرواية في القرن العشرين . 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق