ترجمة: سهيل القش
حين عرض علي مشروع “الطاولة المستديرة”، أثار ذلك اهتمامي في نفس الوقت الذي أحرجني. إنني أقترح مخرجاً لذلك: بعض الموضوعات المتعلقة بتقنيات التفسير لدى كل من ماركس، نيتشه وفرويد.
في الواقع أن هناك حلماً يتراءى من وراء هذه الموضوعات، حلم بأن يصبح بإمكاننا يوماً أن نكوّن نوعاً من الملف العام، أو الموسوعة التي تضم جميع تقنيات التفسير التي أتيح لنا أن نعرفها منذ النحويين الإغريق حتى يومنا هذا. إن هذا الملف الكبير الذي يضم كافة تقنيات التفسير، لم تصغ منه بعد الآن، على ما أعتقد، إلا فصول قليلة.
يبدو لي أن ما يمكننا قوله، كمدخل عام لفكرة تاريخ تقنيات التفسير، هو التالي: إن اللغة، على الأقل اللغة في الثقافات الهندو – أوروبية، قد ولدت دائماً نوعين من الشكوك:
– أولا الشك في أن اللغة لا تقول فعلاً ما تقول. فمن المحتمل ألا يكون المعنى الذي نفهمه، والذي يبرز مباشرة، سوى معنى ناقصاً يحمي، يختزن أو يؤدي، بالرغم من كل شيء، إلى معنى آخر، وبذلك يكون هذا المعنى الآخر هو في نفس الوقت المعنى الأقوى، المعنى “التحتي”. وهذا ما كان يطلق عليه الإغريق اسم الـallegoria والـhiponoia.
– من جهة أخرى تولد اللغة هذا الشك الأخر: إذ أنها تتجاوز بطريقة ما شكلها الشفهي الخالص، ذلك أن ثمة أشياء أخرى في العالم تتكلم، مع أن هذه الأشياء لا تكون لغة. وفي المحصلة، من المحتمل أن كلاً من الطبيعة، والبحر، وحفيف الأشجار، والحيوانات، والوجوه، والأقنعة، والمديات المصلبة، كل هذه الأشياء قد تتكلم، من المحتمل أن ثمة لغة متمفصلة بطريقة لا شفهية. وهذا ما يسمى لدى الإغريق، إذا أردتم الـ Semainon .
إن هذين الشكين اللذين سبق لهما أن برزا لدى الإغريق، لم يزولا، وهما ما يزالان معاصرين، إذ أننا أخذنا في الاعتقاد مجدداً، بالتحديد منذ القرن التاسع عشر، أن الحركات الصامتة، والأمراض، وكل الجلبة حولنا، كل ذلك يمكن أيضاً، وأننا نصغي إلى هذه اللغة الممكنة أكثر من أي وقت مضى، محاولين أن نفاجئ تحت الكلمات خطاباً قد يكون أكثر جوهرية.
إنني أعتقد أن كل ثقافة، أي كل شكل ثقافي داخل الحضارة الغربية، كان لها نظام تفسيرها، تقنياتها، مناهجها، وطرقها الخاصة بها لكي تشتبه باللغة التي تريد أن تقول غير ما تقول، ولكي تتلمس احتمال وجود لغة ما خارج اللغة. يبدو إذن أن ثمة مشروعاً يجب تدشينه لكي نكون النظام أو اللوحة، كما كان يقال في القرن السابع عشر، التي تضم كافة أنظمة التفسير هذه.
فلكي نفهم ما هو نظام التفسير الذي أسسه القرن التاسع عشر، وبالتالي إلى أي نظام تفسير ما زلنا ننتمي نحن اليوم، يبدو لي أنه يجب أن نعتمد مرجعاً متأخراً، نوعاً من التقنية الذي قد يكون وجد مثلاً في القرن السادس عشر، فما كان يستدعي التفسير في ذلك العصر، أي موقعه العام ووحدته الدنيا التي كان على التفسير أن يعالجها، إنما كان التشابه. فحيث كانت الأشياء تتشابه، حث كان ثمة تشابه، كان ثمة شيء يريد أن يقال، ويمكن أن يتجلى، إننا نعرف أهمية الدور الذي لعبه التشابه، وكافة المفاهيم التي تدور حوله كالأقمار التابعة، داخل كل من علم الكون، وعلم النبات، وعلم الحيوان، وداخل فلسفة القرن السادس عشر. في الحقيقة، إن كل هذه الشبكة من المتشابهات تبدو لنا، نحن الذين ننظر بأعين القرن العشرين، ملتبسة ومشوشة. في الواقع إن ملف التشابه هذا الذي عرفه القرن السادس عشر، كان كامل الانتظام. فقد كانت هناك، على الأقل، خمسة مفاهيم محددة تماماً:
– مفهوم التوافق المرادف للاحكام والتوفيق (كالتوفيق مثلاً بين الروح والجسد، وبين المجموعة الحيوانية والمجموعة النباتية).
– مفهوم التعاطف المرادف لتطابق الحوادث داخل مواد مميزة.
– مفهوم التنافس المرادف للموازاة الأكثر جدية فيما يخص صفات معينة داخل المواد أو داخل هذه المادة أو تلك.(هكذا يشرح بورتا أن الوجه البشري، مع الأجزاء السبعة التي يحددها، هو تنافس السماء مع كواكبها السبعة).
– مفهوم التوقيع الذي يشكل بين مميزات الفرد المرئية، صورة لميزة غير مرئية ومستترة.
– ثم بالتأكيد مفهوم التماثل المرادف لتطابق العلاقات بين مادتين مميزتين أو أكثر.
إن نظرية الدلالة وتقنيات التفسير كانت ترتكز إذن، في ذلك العصر، على تعريف كلي الوضوح لكل أنماط التشابه الممكنة، وكانت تنشئ نوعين من المعرفة متميزين كلياً: الـ cognition ، الذي يعني، العبور الجانبي، نوعاً ما، من تشابه إلى آخر، والـ divinatio ، الذي كان يعني المعرفة المعمقة، التي تنتقل من تشابه سطحي إلى تشابه أكثر عمقاً. إن كل هذا التشابهات تعبر عن إجماع العالم الذي يكونها، وهي تتعارض مع الصورة الخداعة، والتشابه السيئ الذي يقوم على انشقاق الشيطان عن الله.
إذا كانت تقنيات التفسير هذه المتبعة في القرن السادس عشر قد بقيت معلقة، بسبب تطور الفكر الغربي في القرنين السابع عشر والثامن عشر، وإذا كان نقد التشابه الذي قدمه كل من بيكون وديكارت قد لعب دوراً كبيراً لوضع هذه التقنيات بين مزدوجين، فإن القرن التاسع عشر، وبالتحديد ماركس، نيتشه وفرويد قد فتحوا أمامنا مجدداً إمكانية جديدة للتفسير، فقد أعادوا تأسيس إمكانية تأويل نصوص قديمة مقدسة .
إن الكتاب الأول من “رأس المال”، ونصوصاً كـ”ولادة المأساة” و”أصول الأخلاق”، و”تفسير الأحلام”، تضعنا مجدداً أمام تقنيات تفسيرية. إن تأثير الصدمة، ونوع الجرح الذي تسببه هذه المؤلفات للفكر الغربي، ربما كان مصدره كون هذه المؤلفات قد شكلت مجدداً أمام أعيننا شيئاً كان يسميه ماركس نفسه “كتابات هيروغليفية”. وهذا ما وضعنا في مأزق حرج، ذلك أن تقنيات التفسير هذه تتعلق بنا بالذات، ولأننا، نحن المفسرون، قد باشرنا بتفسير أنفسنا بواسطة هذه التقنيات. علينا بالمقابل أن نستعين بتقنيات التفسير هذه، لكي نستجوب مفسرين كفرويد، نيتشه وماركس، وهذا ما يجعلنا ننزلق باستمرار في لعبة المرايا الأبدية.
يقول فرويد في مكان ما أن ثمة جروحاً نرجسية ثلاثة في الثقافة الغربية: الجرح الذي سببه كوبرنيك، وذلك الذي سببه داروين حين اكتشف أن الإنسان متسلسل من القرد، والجرح الذي سببه فرويد نفسه، حين اكتشف بدوره أن الوعي يقوم على اللاوعي. إنني أتساءل حين زجنا فرويد ونيتشه وماركس داخل عمل التفسير الذي ينعكس دائماً على نفسه، ألم يكونوا حولنا، ومن أجلنا، هذه المرايا التي تعكس صوراً، تشكل جروحها التي لا تنضب نرجسيتنا الحالية؟ في أي حال، وبهذا الصدد أريد أن أقدم بعض الاقتراحات، إن ماركس ونيتشه وفرويد لم يضاعفوا الدلالات داخل العالم الغربي. إنهم لم يعطوا معنى جديداً لأشياء لم يكن لها معنى، إنهم في الواقع قد غيروا طبيعة الدلالة، وعدلوا الطريقة التي كان يمكن للدلالة بشكل عام أن تفسر بواسطتها.
إن السؤال الأول الذي أريد أن أطرحه هو التالي: ألم يعدل كل من ماركس، فرويد ونيتشه، وبعمق، حيّز التوزيع حيث يمكن للدلالات أن تكون دلالات؟
في العصر الذي اعتمدته كنقطة مرجعية، أي في القرن السادس عشر، كانت الدلالات تنتظم بشكل متجانس ضمن حيز كان هو نفسه متجانساً، وذلك في كل الاتجاهات. كانت دلالات الأرض تردنا إلى السماء، ولكنها كانت تردنا في نفس الوقت إلى العالم الجوفي، كانت تردنا من الإنسان إلى الحيوان، ومن الحيوان إلى النبات، وبالعكس، وانطلاقاً من القرن التاسع عشر، أي مع فرويد وماركس ونيتشه، أخذت الدلالات تتدرج ضمن حيز أكثر اختلافاً، حسب بعد يمكن تسميته بعد العمق، شرط ألا يكون ذلك مرادفاً للداخلية، بل بالعكس، للخارجية.
إنني أفكر بالأخص في ذلك النقاش الطويل الذي ما انفك نيتشه يقيمه مع العمق. نجد لدى نيتشه نقداً للعمق الأمثل، لعمق الوعي الذي يدحضه على أنه من ابتكار الفلاسفة، إذ يبدو هذا العمق وكأنه تفتيش صاف وداخلي عن الحقيقة. إن نيتشه يبرهن كيف يحتم هذا العمق الاستسلام، والرياء، والتقنع، بحيث أن على المفسر، حين يتناول دلالات هذا العمق ليدينها، أن ينزل على طول هذا الخط العمودي وأن يبين أن عمق الداخلية هذا ليس في الحقيقة شيئاً مختلفاً عما يقول. على المفسر بالتالي أن ينزل، وأن يكون، كما يقول:”منقب الأعماق الجيد”.
ولكن ليس بإمكاننا في الواقع حين نفسر، أن نسلك هذا الخط المنحدر، إلا لكي نرمم الخارجية البراقة التي كانت مغلفة ومطمورة. ذلك أنه إذا كان على المفسر أن يذهب بنفسه كمنقب حتى القعر، فإن حركة التفسير إنما هي، على العكس من ذلك، حركة شرفة تزداد علواً، وتدرج دائماً فوقها العمق الذي يزداد انقشاعاً، لقد استعيد العمق الآن كسر سطحي كلياً، بحيث أن طيران النسر، وصعود الجبل، وكل هذه العمودية المهمة في زرادشت، إن هي، بالمعنى الدقيق، سوى انقلاب العمق، واكتشاف حقيقة أن العمق لم يكن سوى مجرد لعبة، وثنية من ثنايا السطح. وكلما أصبح العالم أكثر عمقاً أمام النظر، كلما أدركنا أن كل مرن عمق الإنسان لم يكن سوى مجرد لعبة أطفال.
إنني أتساءل: هذه المكانية، ولعب نيتشه مع العمق، ألا يمكن مقارنتها بلعب ماركس مع التفاهة، حتى ولو كان لعبه هذا مختلفاً ظاهرياً. إن مفهوم التفاهة لدى ماركس مهم جداً، فهو يشرح في بداية “رأس المال” كيف يجب عليه، خلافاً لبرسيه، أن يغوص في الضباب لكي يبرهن في الواقع عدم وجود وحوش خرافية أو ألغاز عميقة، نظراً لأن كل العمق الموجود في الرؤية المكونة لدى البرجوازية عن النقد، والرأسمال، والقيمة … الخ .. ليس في الحقيقة سوى تفاهة.
علينا بالطبع أن نذكر بحيز التفسير الذي كونه فرويد، ليس فقط عبر مسحه المشهور للوعي واللاوعي، ولكن كذلك داخل القواعد التي صاغها للمثابرة التحليلية، واستجلاء المحلل كل ما يقال خلال “السلسلة” المحكية. يجب التذكير بالمكانية المادية التي أولاها فرويد كل اهتمام، والتي تكشف المريض أمام نظرة المحلل النفسي المشرفة.
إن الموضوع الثاني الذي أريد أن أطرحه عليكم، وهو مرتبط قليلاً بهذا الأخير، هو التنويه، انطلاقاً من هؤلاء الرجال الثلاثة الذين نتحدث عنهم الآن، بمسألة أن التفسير قد أصبح أخيراً عملاً لا نهاية له.
في الحقيقة إن التفسير كان كذلك في القرن السادس عشر، ولكن الدلالات كانت ترتد على بعضها البعض، لمجرد أنه لم يكن بإمكان التشابه إلا أن يكون محدوداً. وقد أخذت الدلالات انطلاقاً من القرن التاسع عشر تترابط في شبكة لا تنضب، ولا نهاية لها هي الأخرى، وذلك ليس بسبب أن هذه الدلالات تستند إلى تشابه لا يحكمه إطار، ولكن نظراً لوجود هوة وانفتاح لا يمكن اختزالهما.
ففي حين نجد التفسير دائماً ممزقاً ويبقى معلقاً على حافة ذاته، نجد هذا الشيء، غير الناجز في التفسير، كما أعتقد، بنفس الطريقة تقريباً لدى كل من ماركس، ونيتشه وفرويد، بشكل رفض البداية. رفض “أسطورة روبنسون”، كما كان يقول ماركس، التمييز المهم لدى نيتشه بين البداية والأصل، والطابع غير المكتمل أبداً للأسلوب، التراجعي والتحليلي لدى فرويد. إننا نجد هذه التجربة تبرز بشكل خاص لدى نيتشه وفرويد، وبدرجة أقل لدى ماركس، وأنا أعتقد أن هذه التجربة مهمة جداً للتأويل الحديث للنصوص القديمة، لدرجة أنه كلما ذهبنا بعيداً في التفسير كلما اقتربنا في نفس الوقت من منطقة خطيرة جداً، وهي منطقة لن يجد فيها التفسير نقطة تقهقره فحسب، بل سيزول فيها التفسير كتفسير، وربما أدى ذلك إلى زوال المفسر نفسه. إن وجود هذه النقطة المطلقة الدائم بالقرب من التفسير تشكل في نفس الوقت وجود نقطة انقطاع.
إننا نعرف كيف تم تدريجياً لدى فرويد اكتشاف هذا الطابع المنفتح والفاغر بنيوياً للتفسير. لقد تم هذا الاكتشاف في البداية بطريقة جد تلميحية ومستترة في “تفسير الأحلام” حين يحلل فرويد أحلامه الشخصية، ويستعين بأسباب تعود للاحتشام، أو لعدم البوح بسر شخصي لكي يتوقف عن ذلك.
إننا نجد، في تحليل دورا، بروز فكرة تقول بأن على التفسير أن يتوقف، إذ لا يمكنه أن يمضي إلى النهاية بسبب شيء سيطلق عليه بعد عدة سنوات اسم “الانتقال” ( Transfert ). ثم تتأكد، من خلال دراسة الانتقال، طبيعة التحليل التي لا تنضب، في الطابع اللامتناهي والكلي الإشكال لعلاقة المحلِل بالمحلَل، وهي علاقة مكونة بالطبع لعلم النفس التحليلي، وتفتح الحيز الذي ما فتئ علم النفس يمتد فيه دون أن يكون بإمكانه إطلاقا أن يكتمل.
من الواضح أن التفسير أيضاً لدى نيتشه هو دائماً غير مكتمل. ما هي الفلسفة بالنسبة إليه، سوى نوع من الفقه اللغوي المعل0ق أبداً، فقه لغوي لا يمكن له إطلاقاً أن يتركز؟ لماذا؟ ذلك، كما يقول في “ما وراء الخير والشر”، لأن “الموت بواسطة المعرفة المطلقة قد يشكل جزءاً من أساس الوجود”، مع أنه برهن في “Ecco Homo” كم كان قريباً من هذه المعرفة المطلقة التي تشكل جزءاً من أساس الوجود. وكذلك خلال خريف 1888 في تورين ( Turin ).
إذا أتيح لنا، من خلال مراسلات فرويد، أن نستجلي همومه الدائمة منذ اللحظة التي اكتشف فيها عالم النفس التحليلي، فبإمكاننا أن نتساءل إذا كانت تجربة فرويد تشبه في العمق تجربة نيتشه. إن ما هو مطروح في انقطاع التفسير، في اتجاه التفسير هذا نحو نقطة واحدة تجعله مستحيلاً، قد يكون شيئاً مشابهاً لتجربة الجنون.
وهي تجربة صارع نيتشه ضدها في نفس الوقت الذي فتن بها، وهي نفس التجربة التي صارع ضدها فرويد طيلة حياته، ولكن بقلق. كما لو أن تجربة الجنون هذه هي بمثابة معاقبة حركة التفسير التي تقترب من مركزها إلى ما لا نهاية ثم تنهار مكلسة.
إنني أعتقد أن عدم الاكتمال الجوهري هذا للتفسير مرتبط بمبدأين آخرين، أساسيين هما أيضاً، ويكونان مع المبدأين السابقين، اللذين تكلمت عنهما لتوي، فرضيات التأويل الحديث للنصوص القديمة. المبدأ الأول: إذا كان لا يمكن أبداً للتفسير أن يكتمل، فذلك لأنه، وبكل بساطة، لا يوجد شيء بحاجة لتفسير. لا يوجد شيء أولي بحاجة لتفسير، وذلك أن كل شيء إنما هو في العمق تفسير، فكل دلالة ليست في حد ذاتها الشيء الذي يقدم نفسه للتفسير، بل هي تفسير لدلالات أخرى.
لا وجود، إذا أردتم، لـ interpretandum لم يصبح بعد interpretans، بحيث أن العلاقة التي تترسخ داخل التفسير إنما هي علاقة عنف بقدر ما هي علاقة توضيح. في الواقع إن التفسير لا يوضح مادة تتطلب تفسيراً كما لو كانت هذه المادة تقدم نفسها سلباً للتفسير، لا يمكن للتفسير إلا أن يستولي، وبعنف، على تفسير، قد سبق له أن أصبح هنا، وأن تطيح به، تقلبه رأساً على عقب، وتهشمه بالمطرقة.
إننا نرى ذلك لدى ماركس الذي لا يفسر تاريخ علاقات الإنتاج، بل هو يفسر علاقة سبق لها أن قدمت نفسها كتفسير، لأنها تقدم نفسها كطبيعة. وكذلك فإن فرويد لا يفسر دلالات، بل هو يفسر تفسيرات. إذ ماذا يكتشف فرويد تحت الأعراض؟ إنه لا يكتشف “عواقب صدمات” كما يقال، بل هو يبرز “تخيلات” مع شحنتها من القلق، أي أنه يبرز نواة، تكون هي نفسها، وبوجودها الخاص، تفسيراً. ففقدان الشهية مثلاً لا يردنا إلى الفطام، كما يردنا الدال إلى المدلول، ولكن فقدان الشهية، كدلالة، وكعارض بحاجة لتفسير، يردنا إلى “تخيلات” ثدي الأم السيئ، وهذا الثدي نفسه هو تفسير، سبق له أن أصبح بذاته جسماً متكلماً. لذلك ليس فرويد مضطراً لأن يفسر ما يقدم له مرضاه كأعراض بشكل مختلف عن لغتهم نفسها، إن تفسيره هو تفسير لتفسير، وبالعبارات التي يقدم بها هذا التفسير الأخير. إننا نعرف أن فرويد قد ابتكر “الأنا الأعلى”، حين قالت له إحدى مريضاته:”إنني أشعر بكلب علي”.
إن نيتشه يستولي بنفس الطريقة على التفسيرات التي سبق لها أن استولت على بعضها البعض. لا يوجد بالنسبة لنيتشه مدلول أصلي. والكلمات نفسها ليست سوى تفسيرات قبل أن تكون دلالات، وهي في النهاية لا معنى لها إلا لأنها ليست سوى تفيرات جوهرية. يشهد على ذلك اشتقاق كلمة agathos الشهير. وهذا ما يقوله أيضاً نيتشه، حين يقول أن الكلمات كانت دائماً تبتكرها الطبقات العليا، إنها لا تشير إلى مدلول، بل هي تفرض تفسيرات. وبالتالي، نحن مفروض علينا الآن واجب التفسير، ليس بسبب وجود دلالات أولى ومحجية، بل لوجود تفسيرات، ولأنه ما يزال يوجد، تحت كل ما يتكلم، نسيج التفسيرات العنيفة الكبير. ولهذا السبب توجد دلالات، دلالات تملي علينا تفسير تفسيرها، وتملي علينا أن نقلبها كدلالات رأساً على عقب. بهذا المعنى يمكن القول أن الـ allegoria والـ Hyponoia ، لا يقتصران في عمق اللغة وقبلها، على ما انزلق لاحقاً تحت الكلمات لكي يبدل أماكنها ويحركها، ولكنهما هما اللذان يولدان الكلمات، ويجعلانها تبرق بلمعان، لا يتركز أبداً. لهذا السبب أيضاً نجد أن المفسر لدى نيتشه، هو “الصادق”، إنه “الحقيقي” ليس لأنه يستولي على حقيقة مستلقية لكي ينطق بها، بل لأنه يعلن التفسير الذي تسعى كل حقيقة إلى طمسه. قد تكون أولوية التفسير هذه على الدلالات هي الشيء الأهم في التأويل الحديث للنصوص القديمة.
إن الفكرة القائلة بأن التفسير يسبق الدلالة تحتم ألا تكون الدلالة كائناً بسيطاً ولطيفاً، كما كان الأمر ما يزال في القرن السادس عشر، بحيث أن فيض الدلالات وتشابه الأشياء كانت تثبت طيبة الله فقط، ولا تبعد، إلا بستار شفاف، دلالة المدلول. يبدو لي، وبالعكس، أنه انطلاقاً من القرن التاسع عشر، أي انطلاقاً من فرويد، ماركس ونيتشه، ستصبح الدلالة سيئة النية، أريد القول أنه توجد داخل الدلالة طريقة ملتبسة وغامضة قليلاً في أن تسئ الإرادة والنية. وذلك بقدر ما تصبح الدلالة تفسيراً لا يقدم نفسه كذلك. إن الدلالات هي تفسيرات تحاول أن تبرر نفسها، وليس العكس.
هكذا يعمل النقد كما هو محدد في “نقد الاقتصاد السياسي”، وخاصة في الكتاب الأول من “رأس المال”. وهكذا تعمل الأعراض المرضية عند فرويد. ونجد لدى نيتشه أن الكلمات مثل العدالة، والتصنيفات الثنائية للخير والشر، وبالتالي الدلالات، إنما هي أقنعة. إن الدلالات باكتسابها هذه الوظيفة الجديدة القائمة على طمس التفسير، إنما تفقد وجودها البسيط كدال، وهو وجود كانت ما تزال تملكه في عصر النهضة، كما لو أن سماكتها قد اخترقت، بحيث أن كافة المفاهيم السلبية التي بقيت حتى الآن غريبة على نظرية الدلالة. قد أصبح بإمكانها أن تتسلل عبر هذا الاختراق. لم تكن نظرية الدلالة إلا اللحظة الشفافة والسلبية قليلاً للستار. أما الآن فقد أصبح من الممكن أن تقوم داخل الدلالة لعبة من المفاهيم. السلبية، والتناقضات، والتعارضات، وباختصار مجمل لعبة القوى المتفاعلة التي برع Deleuze في تحليلها في كتابه حول نيتشه.
“وضع الجدلية على رجليها”، إذا كان يجب أن يكون لهذه العبارة معنى، أفلا نكون بذلك قد وضعنا كل لعبة السلبية هذه داخل سماكة الدلالة، وداخل هذا الحيز المفتوح الفاغر والذي لا نهاية له، وداخل هذا الحيز الذي لا مضمون فعلي له ولا توفيق، كل هذه اللعبة التي أفرغتها الجدلية من محتواها حين أعطتها معنى إيجابياً؟
وأخيراً، ميزة التأويل الأخيرة: يجد التفسير نفسه مضطراً لأن يفسر ذاته إلى ما لا نهاية، ولأن يستعيد نفسه دائماً. من هنا برزت نتيجتان مهمتان. الأولى، أن التفسير سيكون من الآن فصاعداً تفسيراً بالـ”من”؟، فلا نفسر ما يوجد في المدلول، بل نفسر في العمق: من طرح التفسير؟ ليس مبدأ التفسير بشيء مختلف عن المفسر، وربما كان هذا هو المعنى الذي أعطاه نيتشه لكلمة “علم النفس”. فالنتيجة الثانية، أن على التفسير أن يسائل نفسه دائماً، فلا يتوانى عن العودة إلى ذاته. فمقابل زمن الدلالات، وهو زمن الانقضاء، ومقابل زمن الجدلية، وهو في المحصلة زمن خطي، فإننا نجد أن زمن التفسير هو زمن دائري. إن هذا ما يؤدي بمجمله، أن الخطر الوحيد الذي يهدد التفسير فعلاً، ولكنه خطر عظيم، إنما يكمن بشكل مفارق في الدلالات التي تعرض التفسير لهذا الخطر. إن موت التفسير إنما هو في الاعتقاد بوجود دلالات، وبأن هذه الدلالات موجودة أولاً، أصلاً، وفعلاً، كإشارات متجانسة، سديدة ومنظمة.
على العكس من ذلك، فإن حياة التفسير إنما هي في الاعتقاد بأنه لا وجود إلا لتفسيرات، يبدو لي أنه يجب أن ندرك هذا الشيء الذي يسهو عن بال كثير من معاصرينا، أن التأويل وعلم الأعراض هما عدوان لدودان، فالتأويل الذي ينكفئ إلى علم أعراض هو الذي يعتقد بالوجود المطلق للدلالات: إنه يتخلى عن العنف، وعدم الاكتمال، ولا نهاية التفسيرات، لكي يدع إرهاب المؤشر يسود، ولكي يشتبه باللغة. إننا نتعرف هنا على الماركسية بعد ماركس. على العكس من ذلك، فإن التأويل الذي يتجلبب بنفسه، إنما هو يدخل في مجال اللغات التي ما تنفك تحتم بعضها البعض، أي في تلك المنطقة المشتركة بين الجنون واللغة الخالصة، وهنا نتعرف على نيتشه.
.........
(المرجع): الفلسفة في العصر المأساوي الأغريقي، فردريك نيتشه، تعريب الدكتور سهيل القش، المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع، الطبعة الثانية 1983.