ثلاث قصائد
للشاعر الإنجليزيّ: تيد هيوز
ترجمة: محمد عيد إبراهيم
الغراب
لا
يقينَ لدَى أحدٍ كيفَ ولِدَ الغُرابُ.
قِيلَت
فيهِ شتّى الحِكاياتِ.
§
يقفُ
امرؤٌ وبعيداً تحتَ شمسٍ.
هنا
نَماءُ العالمِ الثابتِ.
مَقطعٌ
من جدارِ العالمِ الشرقيّ.
نباتاتُ
الأرضِ ـ كالأعضاءِ التناسليةِ
والسُرّةُ
غيرُ المزهرةِ
تعيشُ
في صُدوعِها.
أيضاً،
ثمةَ مخلوقاتٌ بالأرضِ ـ كالفمِ.
كلّها
بالأرضِ راسخةٌ، أو تأكلُ الأرضَ، عملياً.
تُثقِلُ
كاهلَ الجدارِ.
ثمةَ
فُرجةٌ في الجدارِ ـ
فُرجةٌ
سوداءُ:
كبؤبؤِ
عينٍ.
منها
يقعُ الغرابُ.
من
شَمسٍ إلى شَمسٍ، طائراً، يتَحَرّى بيتَهُ.
§
مُدقّقاً
بمِرآةِ الشَرّ، رأى الغرابُ
ـ في
غَشيَةٍ ـ حضاراتٍ حُصُوناً وحدائقَ
معاركَ،
فمَسَحَ الزجاجَ، هنالكَ بُرِّزَت
غَشيَةٌ
من ناطِحاتِ سَحابٍ، شَبكاتِ مدنٍ،
وتَغَبَشّ
الزجاجُ، فمَسَحَهُ، بُرِّزَت هناكَ
مستَنقَعاتُ
سَراخِسَ ممتدّةٌ أوراقُها في الغبَشِ،
وعَنكَبٌ
مُرقّطٌ، مَسَحَ الزجاجَ، وأنعمَ البصرَ
لَمحةً،
من وَجههِ الجَهْمِ الأليفِ
لكن
دونَ جدوَى، فأنفاسُهُ مُجهَدَةٌ
حارّةٌ،
والمكانُ بردٌ شديدٌ
بُرّزَت
هنا راقصاتُ باليهَ غيرُ جَلِيةٍ،
خِلجانٌ
محترقةٌ، وحدائقُ مُعلّقةٌ، أمرٌ عجيبٌ.
§
نظرَ
الغرابُ إلى العالمِ، طبقاتٌ مكدّسةٌ.
نظرَ
إلى السمواتِ، شَتّتها عنهُ
فيما
وراء التُخومِ.
نظرَ
أمامَ قدمَيهِ، إلى غديرٍ قصيرٍ،
وهو
يئزّ كمحرّكٍ إضافيّ
مثبّتٍ
بمحرّكٍ لا نهائيّ.
تخيّلَ
كلّ ما بالهندَسةِ
من
تراكيبَ، ترميماتٍ، وصيانةٍ ـ
فأحسّ
بعجزهِ.
قَطفَ
شواردَ الكلأِ وفيها تفرّسَ
مُرتقباً
أولَ التعاليمِ.
تأمّلَ،
من الغديرِ، صخرةً.
لَقِيَ
آكلَ حشراتٍ ميتاً وببطءٍ فكّكَهُ
سَرَحَ
بأشلائهِ، فأحسّ بعجزهِ.
سارَ،
ماضياً
داعياً
أمداءَهُ المنجّمَةَ شِبهَ الشفّافةِ
تلطِمُ
أُذنَيهِ في غيِرِ ما بُرهانٍ.
لكن
النبوءةَ داخلَهُ، كمَن يلويَ القَسَماتِ،
أَعلَيَّ
أن أقيسَها إجمالاً فأملِكَها إجمالاً
فأُصبِحَ
ضِمنَها
وكأني
ضِمنَ ضِحكَتي
لا إني
أتفرّسُ فيها عبرَ جدرانٍ
من
عزلةِ عيني الباردةِ
من
خليةٍ مدفونةٍ بسَوادٍ دمويٍّ ـ
النبوءةُ
داخلَهُ، مثلَ نابضٍ صُلبٍ
فراحَ
يشقّ، بأناةٍ، الأليافَ الحَيويّةَ.
***
شذرة من دفتر قديم
فوق: الشفتان معروفتان، مُرخِيتان في رقّةٍ.
تحت: لِحيةٌ بينَ فَخِذَين.
فوق: حاجبُها، علبةُ جواهرَ بهيةٌ.
تحت: البطنُ بوِثاقِها الدمويّ.
فوق: عبوسٌ مؤلمٌ كثيرُ.
تحت: قنبلةُ المستقبلِ الموقوتةُ.
فوق: أسنانُها كاملةٌ، بملمحِ نابٍ على الركنِ.
تحت: شاهدتا عالمَين.
فوق: كِلمةٌ وآهةٌ.
تحت: لطخاتُ دمٍ ومواليدُ.
فوق: الوجهُ، على شكلِ قلبٍ كاملٍ.
تحت: وجهُ قلبٍ ممزّقٌ.
***
أغنية حبّ
أحبَّها
وأحبّتهُ
تمتصُّ قبلاتهُ ماضيها ومستقبلَها أو حاولَت
فليسَت عندهُ شَهيّةٌ أخرَى
عَضّتهُ قَضَمَتهُ مَصّتهُ
أرادتهُ داخلَها كاملاً
آمناً وصحيحاً مرّةً وللأبدِ
تهيجُ في الستائرِ صرخاتُهما الصغيرةُ.
لم تُرِد عيناها الفرارَ من شيءٍ
تتسمّرُ نظراتُها في يدَيهِ في رُسغَيهِ في مِرفقَيهِ
فيحضنُها إليهِ بإحكامٍ حتى لا تسحبَها
منهُ الحياةُ ساعتَها
أرادَ أن يتوقّفَ المستقبلُ
أرادَ أن يطرَح ذراعيهِ حولَها
من شفا اللحظةِ نحوَ العدمِ
أو الديمومةِ أو أياً كانت
حِضنُها ضَغطةٌ هائلةٌ
تضغَطهُ بعِظامِها
بسماتهُ حُجراتٌ عليا من قصرٍ خرافيٍّ
حيث لا يأتي عالمٌ حقيقيٌّ
بسماتُها عضّاتُ عناكبَ
فيرقدُ ساكناً حتى تحسّ بالجوعِ
تحتلُّ كلماتهُ أذرعاً
ضحكاتُها محاولاتُ قاتلٍ محترفٍ
نظراتهُ رصاصٌ خناجرُ انتقامٍ
لمحاتُها في الركنِ أشباحٌ بأسرارٍ مرعبةٍ
همساتهُ سِياطٌ وأحذيةٌ ثقالُ
قبلاتُها محامون يكتبونَ باطّرادٍ
ملاطفاتهُ آخرُ فِخاخِ منبوذةٍ
مكائدُ حبّها طَحنُ أقفالٍ
ويزحفُ بالأرضياتِ صراخُهما العميقُ
كحيوانٍ يجرُّ صيداً ثميناً
وعودهُ كمِزاحِ جرّاحٍ
وعودُها تنزعُ قِشرةَ جُمجمتهِ
لتصنعَ منها حِليةَ "بروش"
وعِيدهُ يسحَبُ أعصابَها
ليُريها كيفَ تعقدُ عُقدةَ الحبِّ
وعيدُها يُصبّرُ عينيهِ بمحلولِ "الفورمالين"
في ظَهرِ دُرجها السِريّ
يلتصقُ صراخُهما بالحائطِ
فينفصلُ رأساهما عندَ النومِ كنصفَيْ
شَمّامةٍ مقطوعةٍ، لكن يصعُب على الحبِّ أن يتوقّفَ
دفعهُ،
بمنامِهما المشتبكِ يتبادلان الأذرعَ والسيقانَ
بأحلامِهما يأخذُ كلٌّ رأسَ الآخرِ رهينةً،
وفي الصباحِ يلبسُ كلٌّ وجهَ الآخرِ.
...........................
(*) تيد هيوز Ted Hughes:
من أهم الشعراء بعد جيل إليوت، شاعر وحشيّ يهتم بالطبيعة، وفلسفة الموت، أُصيب
بالسرطان أواخر عمره، فكتب سيرته مع زوجته المنتحرة الشاعرة الأمريكية سيلفيا
بلاث، في ديوانه الأخير (رسائل عيد
المبلاد). من دواوينه: الصقر
في المطر، الغراب، ودوو، طيور الكهف، أزهار وحشرات. (م)
(*) اللوحة، للروائيّ الفنان الأمريكيّ:
هنري ميللر
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق