محمد الديهاجي
Sep 27, 2017
شكلت التفجيرات المفهوماتية التي مست مجالات الأدب واللغة
والفلسفة، في بداية القرن العشرين، وما خلفته هذه المرحلة (الحرب العالمية الأولى)
من صدمات نفسية وجروح تاريخية، عجلت بظهور تيارات جديدة في الأدب والفلسفة والفن، كالسريالية
والتحليل النفسي، تيارات تفجرت معها قيم معرفية وفنية جديدة كالحلم، والجنون والهذيان
واللاوعي… قلت لقد شكلت هذه المتغيرات منطلق المشروع الفلسفي عند غاستون باشلار(1961
ـ 1984)
ومشروع باشلار مرتبط أساسا بمقولة الخيال، وتحديدا « الخيال
الحُلمي» لقد شكل مفهوم الخيال عند باشلار «مقدمة أساسية في ضبط الميكانيزمات التي
يشتغل بها وعليها مشروعه الفكري. هذا الخيال الذي ينتج الصور الشعرية والنظرية العلمية،
يشكل أطروحة أساسية في فكر باشلار، حيث بدراساته لعلاقة الصور الأدبية بالخيال، جدد
النقد الباشلاري رؤيتنا للأعمال الجمالية والإبداعية»(سعيد بوخليط – باشلاريات).
ولئن كان التصور التقليدي للخيال (منذ أرسطو إلى عصر الأنوار)
لا يحيد عن اعتبار الخيال فكرة منذورة للغلط والوهم والزلل، فإن باشلار سيقطع مع هذا
الموروث، وسيقوم بثورة حقيقية في نظرية الخيال كان من نتائجها ما يلي:
ـ وضع تعريف وتصور جديد للخيال، بالقطع مع الموروث السابق.
ـ إعطاء تقسيمات للخيال، تغاير وتتجاوز التقسيم التقليدي.
ـ التأكيد على استقلالية الخيال حيال الواقع.
ـ تحويل الخيال إلى علم وتشييده كفيزياء أو كيمياء لحلم اليقظة.
ـ الانصهار في الإشكال السيكولوجي للخيال.
ـ النظر إلى الخيال في محدداته المبدعة.
ـ القيام بتحليل موضوعي للخيال، وهو ما أدى بباشلار إلى صياغة
نظرية في «الأمزجة المتخيلة».
ـ النظر إلى صور الخيال بوعي جديد يمكّننا من وضع اليد على
الأبعاد الدينامية للنفسية الجديدة.» (سعيد بوخليط)
لم يعد الخيال، عند باشلار، هو ذلك التشكيل البسيط للصور
وإنما غدا ملكة لتغيير الصور، أي ملكة للخلق والتحديث والابتكار (الإبداع). ووحدها،
فقط، العناصر الأربعة المكونة لكوسمولوجية الكون ( الماء/الأرض/الهواء/النار) القادرة
على تحريك هذه الملكة. لقد اعتبر باشلار هذه العناصر بمثابة الهرمونات الحيوية لفعل
الخيال، يقول: «وفي الحق نظن أن بإمكاننا أن نثبت، ضمن إطار الخيال، قانون العناصر
الأربعة التي تصنف مختلف ضروب الخيال المادية بحسب ارتباطها بالنار، والهواء، والماء
أو التراب».
إن الخيال الإنساني يظل جامدا ما لم يُسقط مكوناته على العناصر
الأربعة المؤسسة للكون. وعلى هذا الأساس سيقسم باشلار الخيال إلى نوعين أساسيين هما:
«الخيال الصوري» و»الخيال المادي»، يقول باشلار ها هنا: «يمكننا إذ نعبر عن أفكارنا
فلسفيا في الحال، أن نميز نمطين من الخيال: خيال يولد العلة الصورية، وخيال يولد العلة
المادية، وباختصار شديد، الخيال الصوري والخيال المادي» (الماء والأحلام)، فأما الخيال
الصوري «فيتعلق أساسا بالصور المرتبطة بالظواهر الهوائية» (سعيد بوخليط)، في حين يرتبط
الخيال المادي «بالتأملات والأحلام وكذا أحلام اليقظة المتجهة نحو الماء والأرض» (بوخليط).
إن الخيال المادي للماء «إنما هو نموذج خاص من الخيال» (الماء
والأحلام)، خيال أفقي فياض، فيه ألفة شديدة الاختلاف عن تلك التي توحي بها أعماق النار،
النار (اللهب) ذات الألسنة العمودية (شعلة قنديل ـ باشلار)، التي هي في حاجة دائمة
لإضاءة، أقصد في حاجة إلى شعلة. والشعلة هي من بين الأغراض التي تستدعي الحالومية،
وهي في نظر باشلار من أكبر صانعات الخيال. فالشعلة لا تأخذ قيمتها إلا من خلال المجازات
والخيال. ويبقى الصانع الخيالي هو المحرك الفعلي لعالم التعبير. إنه حامل الشعلة وهو
بذلك شاعر بامتياز، ووحدها المخيلة القادرة على إدراك الجانب المطلق في الحالومية.
إن حالومية هذا الكون تفرض أولا على المتأمل أن يربط هذه التجربة بالنار، فكل منظر
من مناظر الحياة « هو تجربة حُلمية قبل أن يكون مشهدا واعيا. ولا نشاهد مع إحساس جمالي
إلا المناظر التي رأيناها أولا في الحلم. يفهم من هذا أن بوسعنا أن نربط بعنصر مادي
كالنار أنموذجا من حلم اليقظة الذي يقود معتقدات حياة بأكملها، ومشاعرها ومثالها وفلسفتها
« (الماء والأحلام – باشلار)
وسنختتم بنص في غاية العمق والشاعرية لرائد الفلسفة الجمالية
المعاصرة، أقصد غاستون باشلار، حول مفهوم الخيال الأدبي، يقول فيه: «أما مفارقة استطلاعاتنا
حول الخيال الأدبي: فهي إيجاد الواقع بالكلام، هي الرسم بالكلمات، وهي ذات حظ ما بأن
نهيمن عليها هنا، ذاك أن الخيلات المحكية تترجم الإثارة الفارقة التي يتلقاها خيالنا
من أبسط الشعل. لا بد لنا أيضا من توضيح مفارقة أخرى، ففي رغبتنا وإرادتنا لكي نعيش
الخيال الأدبي من خلال إناطتها بكل راهنيتها، ومع طموح أكبر للبرهان على أن الشعر قوة
فعالة في الحياة اليوم، ألا توجد، بالنسبة إلينا، مفارقة نافلة قوامها وضع أحلام كثيرة
في برج القنديل» (شعلة قنديل).
٭ شاعر وكاتب مغربي
(*) المصدر: القدس العربي
(*) المصدر: القدس العربي
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق