جوليا كريستيفا : لاينحصر الاعتقاد عند نطاق الديانات *
ترجمة: سعيد بوخليط
تقديم : جوليا كريستيفا المثقفة الموسوعية الفرنسية ذات الأصل
البلغاري،اشتهرت
على امتداد كل العالم من خلال أعمالها التي يتقاطع داخلها : الفلسفة واللسانيات والتحليل
النفسي. لكنها أصدرت
خاصة عملا معنونا ب :قوى الرعب،دراسة في الدناءة (سوي 1980) ثم
ثلاثيتها عن العبقرية النسائية (فايار،1999،2000،2002). حديثا،
صدرت ثانية،عن بايار،دراستها : هذه الحاجة الغريبة للاعتقاد.
فأن تعتقد بالنسبة لكريستيفا،يمثل
ضرورة كونية من المُلحِّ أخذها على محمل الجد.أمام وضعية الجمود العقائدي،تدافع
الفيلسوفة عن الحاجة إلى إصغاء نقدي لخطاب الأديان.
س- تكمن الفكرة الرئيسة لبحثكم
المعنون ب : هذه الحاجة الغريبة نحو الاعتقاد. في وجود حاجة عامة نحو الاعتقاد تتبلور منذ الأزمنة الأولى للبناء
الهوياتي لدى الطفل.فما هي مراحل البناء النفسي التي تفرز
بحسبكم هذا الدافع للاعتقاد؟
ج-نتيجة اهتمامي كمحللة نفسانية،لكن أيضا
ارتباطا بمساري كامرأة، تمكنت من ملاحظة ارتكاز نمو الطفل على تجاوز للتبعية إلى
الأم.إذن فقطع حبل السُّرَّة، يميز الرضيع عن أمه من الناحية الفيزيائية،غير أنه
لايدرك على نحو فوري الحدود بين ذاته ثم الجسد الأمومي.أثناء التئامه مع أمه،يختبر
"شعورا محيطيا"حسب عبارة فرويد،صيغة امتلاء حواسي وكذا يقين مبتهج
بالانتماء سيشكل تجربة أولية للاعتقاد.يحدث اقتحام طرف ثالث، للوحدة بين الأم-
الطفل، انفصالهما.من خلال التماهي مع الأب العاشق،الذي
يعتبر الرضيع كائنا في حد ذاته،يدرك الطفل بأنه ليس هو أمه ثم ستتجلى لديه،باعتبارها
آخر. إذن العلاقة مع هذا الآخر،أرستها
أصوات . تلك الكلمات الأولى، وكذا تجلي
الكلام الذي جعلت منه المسيحية معجزة.يرتبط خلق فونيمات بتركيز
نفسي : يضمن الطفل بفضل اللغة،أن أمه
ستقدم له ما يأكله حينما يشعر بالجوع،وتوفر له الطمأنينة لحظة خوفه.يمثل
ذاك التركيز،فعلا إيمانيا حقيقيا.ومثلما يقتضي،استثمار المال بهدف
تحقيق أرباح،الإيمان بالنظام البنكي،يتطلب كذلك من الطفل استثمار العلاقة مع الأم عبر
الكلام،اعتقاده في وجود أمه باعتبارها آخر،حيث هي ذاتها متعلقة بإيمان الأب العاشق
في وجود الطفل ككائن قائم بذاته .يتوخى الكائن المتكلم على امتداد
حياته،البحث كي يتصل ثانية بالمكونات الأولية لهويته ويبعث تجارب الاعتقاد
المرتبطة ب''الشعور المحيطي" وكذا مماثلة الأب العاشق.إن" الكائن المتكلم"الذي
قاربه جاك لاكان يختبر هنا حاجة غريبة للاعتقاد.هكذا، انبثقت الديانات مع كل
المجتمعات وإبان مختلف الفترات. يُتصور غالبا الاعتقاد في أوروبا
الحديثة العلمانية، باعتباره تقليدا قديما لاعقلانيا لم يعد له حاليا أية دلالة.مقاربة
كهذه تستحضر العناصر المتعارضة في الديانات مع الحريات . من الضروري التذكير بكونية الحاجة إلى الاعتقاد.
س- كيف يمثل إشكالية دحض هذا
التطلع نحو الاعتقاد ؟
ج-لقد لاحظتُ باستنادي على فرويد،أن
ضرورة الاعتقاد تزداد حدتها فترة المراهقة :يحتاج المراهق إلى الاعتقاد بهدف
مثالي قصد تحقيقه التجاوز،ثم يهجر والديه ويعثر على موقعه.هذا الاندفاع البنَّاء عنيف لأنه يُصاحب
بماسماه فرويد : دافع الموت.اندفاع مدمر يسمح بالتحرر من
الماضي قصد التقدم.حينما لايتم إشباع حاجة الاعتقاد
لدى المراهق،ينقلب دافع الموت على نفسه – بالانتحار أو تشريط الجلد – أو ضد
المجتمع من خلال النزوع الهمجي أو العصيان المستمر. هذا مانسميه ب "مرض المثالية".والحال،أنه في مجتمعاتنا المعاصرة
التي ترفض الاعتقاد،تظل حاجة اعتقاد المراهق غالبا غير متحققة.مع
انعدام شعائر تلقينية تُبَنْيِن المراهقين كما الشأن في مجتمعات أخرى،إضافة إلى
تدمير الأسرة وإعادة تشكيلها،صار الشباب أكثر فأكثر هشاشة أمام اندفاعاتهم.يركب
الأصوليون المتدينون موجة هذه الهشاشة،فيسرعون إلى مدِّ الشباب بما يعوزه : مُثُل عليا،تحقيق للذات، ثم جماعة.
س- يمكن إذن أن تظهر الأجوبة التي
تحملها الديانات مُريبة؟
ج-بالتأكيد !تقوم
بشكل خاص عقبتان . الأولى،
يقدم الديني أحيانا الاعتقاد وفق مثال أعلى لفضيلة مطلقة تحتجز داخل أخلاق مجردة. وقد استسلم غالبا العالم المسيحي
على امتداد تاريخه، إلى هذا التسامي المفرط ،في إطار دفعه الأفراد كي يصيروا فضلاء
إلى درجة أن يصبحوا ضعفاء.أما الثانية، فتشير إلى تصلب هذه
المثالية في العنف : ينبغي
استبعاد كل ماليس نقيا على الوجه الأكمل.نفكر هنا في الكميكاز والجهاديين
وكذا محقق محاكم التفتيش . ذاك المتباهي بكونه يروج للموت باسم التطهير.
س- كيف تظنون بأن مجتمعاتنا
الحديثة بوسعها الانكباب بجدية على هذه الحاجة إلى الاعتقاد دون الانسياق ثانية
وراء انحراف سياقاته ؟
ج-أتمسك بعلمانية حازمة،قادرة على
إقامة سد أمام الأصوليين .الحضارة الأوروبية هي الوحيدة – ألحُّ
على هذه النقطة- التي عثرت على شجاعة التصدي لتجاوزات الأديان بترسيخها للعلمانية.لكن
يلزم بقدر تلك الصرامة ،القيام بعمل تأويلي للاعتقاد،حسب مختلف جل أشكاله،لأنه إذا
كانت حاجة الاعتقاد كونية، فالتطلع أيضا إلى المعرفة من ذات المقام.لقد
تناولت التيولوجيا ثانية هذا الثنائي في صيغة تقابل بين الإيمان والعقل.أدافع
عن مسألة تدريس الواقعة الدينية في المدرسة،لكن ليس باعتبارها تقديما لوصايا
متنوعة دينية تُطرح بكيفية معارضة للعقل،بل كتساؤل حول الجذور النفسية والأنتروبولوجية
للاعتقاد : مامصدر هذه الشعيرة أو تلك العقيدة؟ما الذي يربطني بهما؟ ماهي
العواطف،والعلاقات،والأقوال،التي تثيرها؟يمر عمل كهذا عبر قراءة النصوص الكنسية،ثم
دراسة تاريخ الديانات والعلمانية وكذا قراءة الأدب.هكذا نعثر ثانية في نصوص بروست،باطاي
أو دوستويفسكي،على دوافع الاعتقادات الدينية. لكن يلزمنا لتفعيل تعليم كهذا،أن نمتلك أخيرا الثقة في مقدرات
المعارف الحديثة كي نقاوم ''عدوى'' دينية مفترضة.وينبغي لنا مواجهة القارة الدينية
دون الخوف من أن تبتلعنا.
س- رغم كونكم شخصية ملحدة،لكن يبدو
أنكم تضمرون تقديرا كبيرا ل''عبقرية المسيحية'' لماذا؟
ج-بالنسبة إلي،تتجلى عبقرية
المسيحية في ارتباطها بما سماه اللاهوتي ''جون دونس سكوت" بالإنية والتفرد
الذاتي الممكن مشاطرته. يكمن
السير على خطى المسيح، ثم الرب الخالق للإنسان،في إطار الاهتمام بكل فرد ضمن خصوصيته
والبحث عن تعميم لهذه الرسالة على كل البشرية،وتقاسمها.يمثل هذا التأسيس قاعدة لحقوق
الإنسان،التي انتهكت حاليا،مع ذوبان الهويات بين طيات مجتمع الاستهلاك،بحيث ستترك الخصوصية مكانها إلى تفشي
غياب تقدير الذات. فالنزعة
الإنسانية التي ألتمسها،باعتباري نتاجا لليهودية والمسيحية،يمكنها مساعدتنا على
تقوية الخصوصية القابلة للتقاسم.ينبغي لذلك،المثابرة قصد الإصغاء
للأديان مع بقائنا منفصلين عنها.
*هامش :
Le Monde des
Religions :mai-juin2018 ;page :22 -23.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق