سبع قصائد
للشاعر
الأمريكي: بول أوستر
ترجمة: محمد
عيد إبراهيم
بعدما كتب بول أوستر، الروائيّ الأمريكيّ، أربعة
دواوين شعرية لافتة، وجد نفسه في الرواية، وما هي إلا سنوات حتى صار ممن يُعدّ على
الأصابع ضمن الروائيين الأمريكيين. اشتُهر بعد نشر روايته: ثلاثية نيويورك (مدينة
من زجاج، أشباح، غرفة محكمة). يكتب أوستر بنمط من الواقعية الوحشية: وضوح في
التفاصيل، أناقة أسلوبية، عناصر رمزية أسلوبية مع سوريالية ذات اهتمامات معرفية
وميتافيزيقية، حساسية ما بعد حداثية، مصادفات سينمائية واختراعات روائية.
ويعمل أوستر في قصائده تحت هيمنة عناصر واعية، حيث يدفع اللغة إلى حافة
الانهيار مما يجعله يضع المنطوق بثوب الحقيقيّ المتغير، كاشفاً عن صوتٍ شعريّ
يُخلص دائماً لنبضات رؤاه وأماني أحلامه الواعدة. لكن عالم بول أوستر الشعريّ،
والروائيّ من بعده، يتميّز بالبحث في تفاصيل: المصادفة، الوصف المتكرّر لحياة
متقشّفة، الإحساس بكارثة وشيكة، السارد المحوريّ لشخوصه، فقدان قدرة الفهم، فقدان
قدرة اللغة، وصف الحياة اليومية، الفشل، غياب الأب، التناصّ، التاريخ الأمريكيّ.
سِريّ
تذكّرْ معي اليومَ ـ الكلمةَ
ونقيضَ كلمةِ
الشهادةِ: الفَجرُ ملموسٌ، ينبعثُ
من يدي المضمومةِ: قبضةُ
شمسٍ مخرّمةٍ: في مدى الظلامِ
كتبتُ
على طاولةِ النومِ.
حانَ وقتُ الرحيلِ
الآنَ. كلّكم أتيتم
لتأخذوا مني، تأخذوا
مني الآنَ. لا
تنسَوا
لتنسَوا. احشُوا
جيوبكم بالترابِ،
واختموا بابَ كهفي.
كانَ هناكَ
حلُمتُ بحياتي
في حلمٍ
كلّهُ نيرانٌ.
مَحجَر
لم يعد غيرُ أن نغنّيها. كأن
الغناءَ وحدكَ
سيقودُنا للعودةِ إلى هذا المكانِ.
كنا
هنا، ولم نكن هنا قَطّ.
كنا
على الطريقِ حيثُ بدأنا،
ثم
ضِعنا.
ليسَ
ثمةَ حدودٌ
في
النورِ. والأرضُ
لا
تترك لنا كلمةً
لنغنّي.
لأن الأرضَ تتفتّتُ
تحتَ
أقدامنا.
هي
موسيقى بحدّ ذاتها، وأن نسيرَ بينَ الصخورِ
معناهُ
أن لا نسمعُ
غيرَ
أنفسنا.
وإني
أغنّي، هكذا، عن لا شيءَ،
كأني
وصلتُ المكانَ
الذي
لا أعودُ إليهِ ـــــــ
وإن
عدتُ، سأحسبُ حياتي
بهذهِ
الصخورِ: انسَ
أني
كنتُ هنا. فالعالمُ
السائرُ
داخلي
هو
عالمٌ يصعُب بلوغهُ.
طويّة
لَحمٌ مشتبكٌ
بينَ الواحدِ والآخرِ المتكاملِ.
وكلّ شيءٍ هنا، كأنهُ آخرُ شيءٍ
يقالُ: صوتُ كِلمةٍ
زُوِّجَت للموتِ، والحياةُ
تلكَ ما بي من قوةٍ
تختفي.
الشُبّاكُ مغلَقٌ. والترابُ
لذاتٍ سابقةٍ، يفرّغُ الحيّزَ
ما لَم أشغَلهُ. هذا النورُ
يتنامَى بركنِ الغرفةِ،
حيثُ انتقلَت
بأجمعِها.
الليلُ يتكرّرُ. صوتٌ يُكلّمني
عن صغائرِ الأشياءِ.
وليسَ حتى الأشياءَ ـ بل أسماءَها.
وعما لا اسمَ لهُ ـــــــ
الصخورُ. ثُغاءُ الماعزِ
وهو يصعَدُ القُرى
عندَ الظهيرةِ. جُعرانٌ
هالكٌ في فُلكِ
رَوَثهِ. وسِربٌ بنفسجيٌّ
خلفَه من فراشاتٍ.
بمستحيلِ الكلماتِ،
بالكلمةِ الصامتةِ
التي تختنقُ،
ألقَى نفسي.
خفقة
الذي يتسحّبُ
سيدنو منا
عند الجانبِ الآخرِ من النهارِ.
خريفٌ: ورقةُ شجرٍ واحدةٌ،
يأكلُها النورُ: والنظرةُ
الخضراءُ، خضراءُ من فوقِنا.
حينَ لا تتوقّفُ الأرضُ،
سنصبحُ أيضاً النورَ،
حتى لو انطفأَ
النورُ
بهيئةِ ورقةِ شجرٍ.
عينٌ تُحدّقُ
في جوعِ النهارِ.
حيثُ لم نكن
سنكونُ. شجرةٌ،
تُنبتُ جِذرَها فينا
ثم تشرقُ نحو النورِ
من أفواهِنا.
يقفُ النهارُ أمامنا.
ويتبعُنا النهارُ
إلى النهارِ.
الرعويّ
في المناطقِ النائيةِ من الطحالبِ ننتظرُ،
قليلاً كالكلمةِ
التي أيضاً تنتظرُ،
كلّ ما كانَ غير ما هو
كائنٌ، الطحالبُ
لا تزالُ تنتظركَ، والكلمةُ
مِصباحٌ
تحملهُ إلى أعماقِ
الأخضرِ، حتى الجذورُ
قد تحملُ النورَ، وهو الآنَ
صوتكَ
راحلٌ عبرَ الجذورِ، حيثُ
تقعُ الفأسُ
أنتَ، أيضاً، ستعرفُ أنكَ تعيشُ.
الأرضُ كلها، مسؤولةٌ
عن الخُضرةِ، الهواءُ
بثقلِ الفحمِ، والشتاءُ
يُشعلُ نارَ الأرضِ، والهواءُ كلهُ يسعى
متّصلاً إلى لحظتنا الخضراء.
نعرفُ أننا نتحدّث عنها. ونعرفُ أن الأرضَ
لن تتنازلَ إلينا
عن كلمةٍ
صغيرةٍ حدّ أن تحضننا. لأن الكلمةَ
هي الهواءُ فحسبُ، وفي الخضرةِ جمرةٌ
لتماثلنا السفليّ، فلا يستجلبُ خوفاً
بل حياةً. هكذا
يمنحنا اسماً
كلّ من ليسَ له اسمٌ. ومَن يرَ نفسَه
في ما لم يُنطق بعد،
سيعرف ما يجب
أن يُخيفَ الأرضَ
بمقياسِ نفسِه.
سيرة العين
أشياءٌ خَفِيةٌ، مَحفورةٌ في البردِ،
وتنمو نحو هذا النورِ
الذي يتلاشَى
في كلّ شيءٍ
ينيرهُ. لا شيءَ ينقَضي. الساعةُ
ترجعُ لبدايةِ
الساعةِ حيثُ نتنفّسُ: كأنهُ
لم يكُن شيءٌ هناكَ. كأني لا أرى
شيئاً
على ما كانَ.
في تُخومِ الصيفِ
ودفئهِ: سماءٌ زرقاءُ، رابيةٌ أرجوانيةٌ.
والمسافةُ تبقَى.
ساعةٌ، بُنيَت من هواءٍ، وفيضُ
هواءٍ في الهواءِ.
كهذهِ الصخورِ
التي تتفتّتُ عائدةً إلى الأرضِ.
كأنهُ وَقْعُ صوتي
في فمك.
.........................................
ترجمة: محمد عيد إبراهيم
[1]ينتسب إلى فلسفة هيراقليطس، قال إن النار هي منشأ الكون، والكون في صيرورة
دائماً "أنت لا تنزل النهر نفسه مرتين. (م)
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق