مقـالٌ من موقـع : Big Think
ترجمـة : زينـب شاهين
أَلِلحقيقةِ المُطلقـةِ وجـود
؟
و هـل منالُهـا مقصِدُ العِلـم ، أم أنَّ المعرفـةَ التَّقريبيَّـة الإحصائيَّـة و مبدأ « اللاحتميَّـة –Indeterminism » باتَـا لُبابَ الإبستمولوجيا العلميَّة المُعاصِرة بعـدَ أن كانـت المُطلقيَّـة الإقليديَّـة أُسَّ العلـم ؟
مُبتدَأُ المقال ، إنَّ ” الحقيقةَ
“ أُفهـومٌ يعتَوِرُهُ التَّعقيـد ، إذ ليسَ من اليسيرِ وضعُ تعريفٍ ناجـزٍ لـها ،
و لا القبضُ المُحكَـمُ على ماهويَّتِـها ، كذلك الأمـر.
لا يفتأُ اللَّبسُ ينثالُ على ” الحقيقـة “ حتَّـى على صعيـدِ التَّعامُلاتِ الإنسانيَّـةِ ؛ فهـل الحقيقـةُ صِراطُـكَ القويـم ؟ و أنَّـى لكَ أن تُوقِـنَ من أنَّ فُلانـاً من النَّاس أخـو ثقـةٍ و أنَّ منطوقَـهُ عيـنُ الحقيقـة ؟
و على مقلبٍ أنثروبولوجيٍّ هذهِ
المرَّة ، فإنَّ كُـلَّ جمـاعةٍ بشريَّـة تعتقـدُ في صوابيَّـةِ و أحقِّيَّـةِ سُلوكٍ
ما بِمـا يتساوقُ و قيمَـها الأخلاقيَّـة و مواريثَـها الثَّقافيَّـة ؛ و بالإمكانِ
الإتيانُ على غيـرِ مِثالٍ في هـذا المقام :
هل عقـوبةُ الإعـدام و الحقُّ
في الإجهاض شرعةٌ مُحلَّلةٌ لـدى كُـلِّ الدِّياناتِ ، السَّماويَّـةِ منها و الأرضيَّـة
؟
هل لِلحيواناتِ و البيئـةِ حقوقٌ
وضعيَّـة واجِـبٌ الانصياعُ لهـا تحتَ طائلـةِ الجُنحـة ، كمـا أنَّ الالتزامَ بها
مُتجذِّرٌ في الثَّقافـةِ الجمعيَّـة لكُـلِّ المُجتمعـاتِ دونَ استثناء ؟
هـل تُحرِّمُ جميـعُ الدُّولِ
على مواطنيـها حِيازةَ الأسلحةِ الفرديَّـة، أمِ الأمـرُ حِـلٌ بِشُروطٍ لدى بعـضِ
الحُكومات ، و بِدونِ شُروطٍ البتَّـة لدى أُخَـر ؟
و لِمسرَدِ الأمثلةِ هذا مُتتالياتٌ و توابِـع.
و ما يزيـدُ الطِّينَ بِلَّـة،
سريانُ الأخبارِ المُلفَّقةِ و المُضلِّلة في عصرِنـا الآنيّ مسرى النَّارِ في الهشيم
، الأمـرُ الذي يُفاقمُ من تعسُّرِ تجسيرِ المسافاتِ بيننا و بينَ ضالَّتِنا المُتواريـة.
و هـكذا ، نطوفُ في حلقـةٍ مُفرغـةٍ تنوءُ بِالعبث ، حيثُ إنَّ التَّثبيطَ العـمْد الذي تتعرَّضُ له بوصِلتُنا العقليَّـة المُوكلَة باصطفاءِ ما هـو أقربُ للصَّوابِ و المنطِق و طرحِ ما هـو دونَ ذلك يرمـي بِـنا في مضيقِ الارتيابِ و التَّقلقلِ العاطفيّ ، و في خواتيمِ المطاف ، يئِـنُّ اللَّاشعورُ الجمعيّ تحتَ وطأةِ ” الرِّقِّ الفكريّ “ ، أي الانصياعُ العُبوديّ لِلبروباغندا التي يسعى إلى تجذيرِهـا في الغِيرانِ السَّحيقة لِلَّاوعي الجماهيريّ المُهيمنونَ على الماكينةِ الإعلاميَّـةِ العالميَّـة.
هذا على صعيـدَي التَّعاطي و التَّفاعل
الفردانيّ و الجمعيّ المُشكِل مع الحقيقة ، و أمَّـا العِـلم ، فينطوي مبلـغُه على
الرُّنـوِّ صـوبها دون أدنـى اعتبارٍ لِأيّ نظامٍ قُدسيّ و التزاماتِه الخُلُقيَّـة
و القيميَّـة المسنونة عنـه ؛ إذ يربأُ رِجالاتُ العِلـم بِأنفُسِهـم عن الدَّهمـاءِ
و مِلَلِهـم و نِحَلِهـم المُتناحِرة ، حسبُهـم من نهج الحِيـاد مِشكاة تُنيـرُ مسارِبَهُـم
البحثيَّـة.
و مبعثُ مسلكهـم هذا هو أنَّ الجوهـرَ
الرِّياضيّ لِلوجـود ، أو لِنقُـل ، الطَّبيعـة الطَّابِعـة ، لا تُلقِ بالاً لأيِّ
شكلٍ من أشكالِ الخُضوعِ الرَّغائبيّ ، اللَّاهوتيّ منه و النَّاسوتيّ ؛ فالعِتقُ من
رِبقـةِ الإيديولوجيَّـاتِ إذن ، بِوصفِهـا تزييفـاً معرفيَّـاً ، لِزامٌ يُحتِّمُـهُ
تسارعُ الرَّكب العلميّ.
و هكـذا ، فإنَّ اتِّفـاقَ العقلِ البشريّ مع الطَّبيعـة و مُطابقتَـه لهـا ، بمعزلٍ عن أيَّـةِ وساطاتٍ عقائديَّـة مُقوِّضة لِحُريَّـةِ الفِكـر ، يسوقُ العُلماءَ إلى نيـلِ مُنيتِهـم المُشتهاة : الحقيقـة.
من المُفارقاتِ العبثيَّـةِ بِمكان
أنَّك تجِـدُ أعتى الكهنوتيّين و أكثرَهُـم تزمُّتـاً حِيالَ العِلـم بوصفِـهِ ” مُحرِّضاً
على الإلحاد “ يتنعَّمـونَ بمُنجزاتِـهِ و يستأمِنُـونَ العُلمـاءَ على حيواتِهـم دونَ
دِرايـةٍ منهـم ؛ فهـل تعمـلُ مُحرِّكاتُ و مكابِحُ مركباتِهـم بقوَّةِ قوانينِ الهيدروليكا
و الميكانيكا الحراريَّـة أم بِحرارةِ الإيمان ؟
و هـل يتفكَّرون ، و لو لبرهـة
، و هُـم قابعون في سيَّاراتهـم ، كيفَ سخَّرَ العُلمـاءُ قوانين الفيزيـاء الفضائيَّـة
ابتغاءَ إجراءِ اختباراتٍ لا تُعـدُّ و لا تُحصى و ذاتِ مُستوياتٍ من الدِّقَّـة مُذهلـة
و واعِدة أمكنَ للإنسانِ الحديثِ التماسُ جناهَـا في أيسرِ نشاطاتِهِ اليوميَّـة ؟
نتحدَّثُ عن نظامِ تحديدِ المواقع (GPS) الذي أتاحَ للإنسان التَّعرُّفَ
على مكـانِ سيَّارتِـهِ عن بُعـد ، بالإضافـةِ إلى تحصيلِ كافَّـةِ الحيثيَّاتِ الخاصَّة
بها في حالِ تعرَّضَتْ للسَّرقة ، أو توجيهِ السَّائقِ المُتواجدِ في السَّيارة إن
تاهَ عن وُجهتِـه.
أم أنَّهـم مُستغرقون ، حتَّى توِّنا هذا ، في المُماراة و الجِدالات اللَّجوجـة بشأنِ كُرويَّـة الأرض ؟ في الوقـتِ الذي ينشغلُ عُلمـاءُ و مُهندسو الإدارةِ الوطنيَّـة لِلملاحةِ الجويَّـة و الفضاء (NASA) في تصميم مروحيَّـةِ « إنجينويتي » المرِّيخيَّـة ( Ingenuity Mars Helicopter ) ، و هي مروحيَّـةٌ روبوتيَّـةٌ بدونِ طيَّار ؛ مهمَّتُهـا اختبارُ تكنولوجيا مُخصَّصة للبحثِ عن أماكنَ ذاتِ أهميَّـةٍ علميَّـة على سطحِ كوكـب المرِّيخ ، بُغيـةَ المُساهمةِ في تحديدِ أفضلِ طُـرقِ السَّير لمركباتِ المرِّيخ المُستقبليَّـة.
أي نعـم ، ما ذُكِـرَ أعلاهُ مُنجزاتٌ ضيِّقةٌ مديَّاتُهـا إن قِيسَتْ بشساعـةِ الكـون و جلالِ نواميسِ الطَّبيعـة التي لمَّا تُستنبط بعـد ، و لكنَّ مُستندها الحقيقة ، ليسَتِ المُطلقة حتماً ، و إنَّـما التَّقريبيَّة التي يحـومُ في فضائها العُلمـاء في مسعىً لا نهائي بُغيـةَ فهـمٍ أعمـقَ لِنواظم الوجـود و توظيفِ هذا الرصيدِ المعرفيّ المُتراكـم لخدمـةِ البشريَّـة ؛ الحقيقةُ المُبرهنـة و الملموسة و النَّفعيَّـة و التي يميطُ المجمعُ العلميّ اللِّثـامَ عنهـا بعـدَ استيفاءِ شرطِ الإجمـاعِ المُنبجسِ من وضعِ النظريَّاتِ و الاستدلالاتِ و النَّتائجِ موضِعَ الاختبارِ العلميّ الصَّارم ، و إلقاء ما بَطُلَ و تنافرَ و تداعـى منها و الإبقاء على ما ثَبُتَ و اتَّسقَ و صمَد.
و لكِـن ، ما الحقيقّة ؟
تتزيَّـى الحقيقـة بمطليَّاتٍ
شبحيَّـة و تستحيلُ أكثرَ تخفِّيـاً ، كُلَّمـا تغوَّرْنـا في حفرِنـا الأركيولوجيّ
بُغيـةَ استحواذِهـا ؛ تلكَ مُحصّلةٌ انتهـى إليهـا واحِدٌ من ألمعِ لبائبِ فلاسفةِ
ما قبلَ سُقراط في العامِ (400) قبلَ الميلاد ؛ إنَّـهُ « ديموقريطس – Democritus » ، الفيلسوفُ الضَّاحِكُ
و عالِـمُ الطَّبيعيّاتِ الذي قالَ يـوماً :
” إنَّ الحقيقـةَ مُتواريـةٌ في أعمـاقِ الظَّواهـرِ أو الأشياء. “
قمينً بالذِّكرِ أنَّ « ديموقريطس » قـد سبقَ عُلمـاءَ الذَّرَّة بألفَـيْ عـام لجهـةِ دأبِـهِ الحثيثِ على إثباتِ أنَّ الذَّرَّة ، بوصفِها وحدةً مُتجانسةً مُتناهيةَ الصِّغر ، غيرَ محسوسة و غيرَ متناهية العدد ، هي كُنْـهُ الموجودات ، كُـلّ الموجودات ، لِيُطوِّر أوَّل نظريَّـةٍ ذرِّيَّـة و يضعَ المذهـبَ الذَّرِّي بصورتـه الكاملة ، آخِـذاً بِهَـدي مُعلِّمـهِ الأوَّل « ليوكيبوس – Leucippus » .
إذا ما تقصَّيْنـا التَّعريفَ
المُعجميّ للحقيقة ، نجِـدُ أنَّهـا ” خاصِّيَّـةُ ما هو حـقّ و صادِق “ ، و كمَـنْ
فسَّرَ الماءَ بعـدَ الجُهـدِ بِالمـاء ؛ فأنَّـى لنـا أن نعِـيَ ما هـو حقّ ؟
ينطـوي تعريـفٌ آخـر على جُزئيَّـةٍ
جـدُّ مُهمَّـة :
” القضيَّـةُ الحقيقيَّـة هي كُـلُّ قضيَّـةٍ مُسلَّمٌ بأحقِّيَّتِهـا
و صِدقِهـا “
التَّسليمُ هو مربطُ الفرسِ ههُنـا ؛ ليسَ التَّسليمُ بِصِبغتِـهِ الثِّيولوجـيّة القائـمة على الإيمـانِ الغيبيّ المُقفـرِ من القرائـنِ و الأدلَّـة ؛ فالتَّسليمُ العلمـيّ بعيـدٌ عمَّـا سبق بُعـدَ الثَّـرى عن الثُّـريَّا ، إذ لا يُسَلِّمُ المجمعُ العِلمـيّ بِصدقِ أيَّـةِ مقولةٍ عِلميَّـة ما لـم تتَّكىء على جِـدارٍ صدٍّ من البراهينِ المنطقيَّـة و الاستدلالاتِ المُثبتَـة ؛ ناهيـكَ عن أنَّ المزِيَّـةَ التي ينفرِدُ بِهـا هذا التَّسليم أنَّـهُ لا إطلاقَ فيـه و لا حسْمَ و لا جُمـود ، فمـن مباعثِ سناءِ العِلـمُ ترييضُـه المُستمرّ و قابليَّتُـه الدَّائمـة للدَّحضِ و الإزاحـة و التَّصويبِ و التَّجديـد.
و على سبيلِ ديناميَّـةِ العِلـم
، نذكـرُ ، قانـونَ الفلكيّ و الرِّياضيَّاتيّ الطِّليانيّ الجليل « غاليليو غاليلي
– Galileo Galilei
» لِلسُّقوطِ الحُـرّ ، و الذي دحضَ من خِلالِـهِ ميكانيك « أرسطو – Aristotle » و أبطلَ بِذلكَ نظريَّتَـهُ
التي سطَّرَ فيها اعتمادَ سُقوطِ الجسمِ في سُرعتِـهِ على كُتلتِـه ؛ و لئِنْ كانـت
خيـر البراهيـن التَّجربـة ، أحضرَ « غاليليو » عِـدَّةَ كُراتٍ لها نفسُ الحجم ، إنَّمـا
تتمايزُ أثقالُهـا ؛ إذ هي مصنوعةٌ من موادَّ مُختلفة ، و من ثُـمَّ تركَـها تسقطُ
من ذُروةِ بُـرج بيـزا بإيطاليـا على مرأى الأشهاد.
افترشَتْ أماراتُ الذُّهـولِ مُحيَّـا الحُضور إبَّـانَ مُشاهدتِهم هذهِ الكُـرات تترافقُ أثناءَ تداعيهـا من عُلـوّ على اختلافِ أوزانها ؛ فصخرةٌ عملاقةٌ و ريشةٌ خفيفةٌ ، بإهمالِ مُقاومة الهواء ، ستسقُـطانِ بتزامُنِ عُنصرَي الوقتِ و التَّسارُع ؛ و بالتَّالي ، إنَّ مزيداً من الضَّخامةِ لا يعني البتَّـة تسارُعـاً أكبر ، فالجاذبيَّـةُ إذن هي العامِـلُ المُؤثِّـرُ الأوحـد على الأجسام.
و علـى سيرةِ الجاذبيَّـة ، فما
الجاذبيَّـة ؟
لا شكَّ أنَّ الجُنوحَ صوبَ التَّساؤلاتِ
الأُنطولوجيَّـة التي تتأمَّـلُ في الماهويَّـاتَ أشَقُّ من تلكَ المعنيَّـة بتبيانِ
الكيفيَّـات.
هي التَّعجيـلُ الأرضي ، بتعبيـرِ « غاليليو » ، و قوَّةُ الجـذبِ النَّاشِئـة بينَ أيّ جسمَيْن و التي تتناسبُ عكسيَّاً مع مُربَّـعِ المسافةِ الفاصِلة بين مركزَيْهما ، وِفقـاً لِـ « نيوتُـن - Newton » الذي تقدَّمـهُ واضِعُ النَّظريَّـةِ النِّسبيَّـة بعـدَ زُهاء ثلاثـةِ قُرونٍ ، مُبطِلاً نظريَّته حِيالَ الجاذبيَّـة ، و ليسَ في ذلِكَ منقصةٌ من إرثـهِ العلميّ المُحايثِ لزمانِـه ببداهـةِ الحال ، و إنَّمـا اقتضَتِ الصَّيرورةُ العلميَّـة أن تصيرَ الجاذبيَّـةُ ” حاصِلَ اضطِّرابٍ أو تشوُّهٍ في الزَّمكان ، أو ما اصطُلِحَ على تسميتِـهِ بِـ « البُعـد الرَّابـع » “ ، تمامـاً كما ستقتضي – تلك الصَّيرورة – دحضَ أو تصويبَ ما انتهـى إليـهِ « آينشتاين – Einstein » إن نبـغَ عالِـمٌ في نظريَّـةٍ مُحدثـة و مُبرهنـة على نحـوٍ مُتَّسِق في قادماتِ الزَّمن.
هـل يقِـفُ جميعُ العُلماء على ضفـَّـةٍ واحدة إزاءَ خطـلِ مقولات الإطلاق و اليقين و الحتميَّـة ؟
قطعـاُ لا ؛ تذهـبُ طائفةٌ من العُلمـاء إلى اعتبارِ مقولاتِ النِّسبيَّـة العلميَّـة و الثَّقافيَّـة محضَ لجـاجٍ سفسطيّ ليس إلَّا ، فيُناكِـفُ عالِـمُ البيولوجيـا التَّطوُّريَّـة البريطانيّ « ريتشارد دوكِنز – Richard Dawkins » ، في مُؤلَّفـه الموسومِ بِـ ” قسِّيس الشَّّيطان – A Devil’s Chaplain “ ، الفيلسوفَ الأبستمولوجيّ البريطانيّ – النِّمسائيّ « كارل بوبر – Karl Popper » النَّاظـرِ إلى الحقائقِ العلميَّـة على أنَّـها فروضٌ حدثَ أن تعذَّر تفنيدها حتَّى الآن ، و أنَّ حقائقَ اليوم ستبدو عتيقةً سخيفةً غـداً ؛ فمركزيَّـةُ الشَّمس – مثلاً - ، يرى « دوكنز » ، حقيقـةٌ مُطلقـة لا يُمكِنُ أن تُنكرَها ثقافةٌ محليَّـة ، و ليسَتْ مجرَّد افتراضٍ بانتظارِ التَّفنيـد.
فلنُنَـحِّ جانباً الإتيانَ التَّفصيليّ
على مُجتمعٍ حاليّ قائمٍ بذاتِهِ يضمُّ لفيفاً ممَّن يعتقدونُ بتسطُّحِ الأرض ، و هم
من الجدِّيَّـةِ بِمكان أنَّهُـم ذوو غاياتٍ تبشيريَّـة و استقطابيَّـة ، إذ يُكرِّسونَ
الشَّبكة العنكبوتيَّة و منصَّات التَّواصلِ الاجتماعيّ بأسلوبٍ منظَّمٍ و مدروس للبرهنةِ
على نظريَّتهم و فضحِ ” افتراءاتِ مؤامرةِ الأرض الكرويَّـة المُدبَّـرة من قبل (NASA) و الوكالاتِ الحكوميّة الأُخرى.
“
ما هو خليقٌ بِالذِّكـر في هذا
الصِّدد ، أنَّ أبَ الثَّورةِ المعرفيَّـة التي أحدثَتْ أعتى انزياحٍ في مسارِ العِلـم
الحديث و مكانةِ الإنسان قياساً بِهَـولِ كَـونِـه و أدَّت إلى قطيعةٍ أبستمولوجيَّـة
صارِمـة مع الإرثِ الفلكيّ البطليموسيّ الذي دامَ عموداً فقريَّـاً للميكانيكا السَّماويَّة
طيلةَ (1400) عام ، أنَّ « كوبرنيكوس – Copernicus » نفسه ، بانقلابـه العلميّ
التَّاريخيّ هـذا ، دحضَ النَّظريَّـاتِ المُطلقة و اليقينيَّـة و ابتدعَ جِهازاً مفاهيميَّـاً
و نسقاً فِكريَّاً ديناميَّيْن عِمادهُما نِسبيَّـةُ المعرفـة بوصفِها انعكاساً لنسبيَّـة
عقل الإنسان و ضآلةِ الأخير الوجوديّة من مُنطلقِ أنَّ ما الأرض سِوى مجرَّدُ كوكبٍ
واحد من بين عـدَّةِ كواكِبَ أخرى ، في مجرَّةٍ واحدة ضمن مجرَّاتٍ عديـدة.
و في خِتام القـول ، من محامـدِ
المعرفة العلميَّـة افتقارُهـا لِلكمـال ، كمـا أنَّ دِقَّتهـا و نجاعةَ تطبيقِـها
تطَّرِدُ مع مـدى تطِّورِ أدواتِ و مقاييسِ البحثِ العلمـيّ ، التي كُلَّمـا وثبَـت
إلى مديَّاتٍ أسمـى ، تسنَّى للعُلمـاء وضع أيمانِهـم على مكامِـن المثالبِ و الثِّغَـر
في النظريَّات الآنيَّـة ، فتاريخُ العِلـم – يقولُ الفيلسوفُ الفرنسيّ الظَّاهراتيّ
« غاستون باشلار – Gaston
Bachelard » - إن هو إلّا تاريخُ تصحيحِ أخطاءِ العلـم. “
و ما السُّفن الفضائيَّـة و الطائراتُ
ذاتيّـةُ القيادة و الأدوية و اللُّقاحات المُطوَّرة و تقنيَّـاتُ الجُزيئات مُتناهيـة
الصِّغـر (Nanotechnology)
و المقصّ الجينيّ (CRISPR-Cas9)
و شبكاتُ الجيلِ الخامس و تكنولوجيا الحاسَّة السَّادسة ، على سبيلِ المثالِ لا الحصر
، إلَّا قرائنُ دامِغـة على ما ذهبَ إليه الفيزيائيّ و المُخترعُ الأمريكيّ « بيرسي
سبِنسر – Percy
Spencer » من أنَّـه لا مُطلقيَّـةَ في الحقيقة ، ” فالحـقُّ إنَّمـا يُقاسُ
بمعيارِ الإنتاجيَّـة و النَّفعيَّـة العمليَّـة “ ، الأمـرُ الذي يُحرِّرُ العِلـم
من غلالـةِ الجبريَّـةِ العتيقـة و يُزكِّـي قيـمَ التُّقـى الفكريّ و التَّواضعِ الوجوديّ
لدى العُلمـاء ؛ فلا ينزلقونَ في مَوحـلِ الأُصوليَّـةِ العلميَّـة في تواطؤٍ صارخٍ
مع أضدَّادهـم ، و لا يُعلِّلون أنفسهم بأقانيـمِ اليقينيَّاتِ المُطلقة و الأجوبـة
القطعيَّـة ، فتخبـو جذوةُ شغفهـم و يركـنُ فضولُهـم إلى التَّواني.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق