السبت، 2 يوليو 2022

غاستون باشلار : السقوط المتخيَّل (4/4)

     ترجمة: سعيد بوخليط      

              


الوحدة الهامة –وحدة جوهرنا- بين ما يضغط علينا وما يلقي بنا أرضا.

إذن، هواء قريب جدا، ينبغي له أن يجسِّد حريتنا يمثل هنا سجننا، سجنا ضيقا، فالمحيط الهوائي خانق. ثم يعيدنا الذعر إلى الأرض : ''اشتغل خيالي جيدا، بحيث اعتقدتُ فعلا، بأنه حول البيت ومضمار مجالي، وكذا الضواحي القريبة، يسود محيط جوِّي خاص بها، مختلف عن هواء السماء، تبعثه أشجار مضمحلة، أسوار رمادية ومستنقع صامت- بخار غريب  ونتن، يتبدى لنا بالكاد ثقيلا، كسولا بلونه الرصاصي".

دائما نلوِّح بنفس الاعتراض :هل تنتج النظرة هنا الصور؟هل يلزم، ضمن نسيج الأوصاف،إعطاء الحياة و القوة الأوَّليين لهذا البخار''بالكاد مرئيا، وبلونه الأدكن''،الذي يغمر منزل أشير ؟ ألا يتناقض المنظر نتيجة صفتين فاصلتين وقد جمع بين الشفاف والداكن؟ بالعكس، يغدو كل شيء منسجما حينما نضفي ديناميكية على الصور، وانخرطنا خلف هذه القوة النفسية المتمثِّلة في خيالنا.

في هذا النص، تعتبر الأوصاف التي حظيت بقوة المتخيَّل، الباعثة للصور، أوصافا مختصة بالأوزان، تتجلى عموديا : إنه الثِّقل، الكسل، ثم وطأة الملغِزِ التي تشحن روح حالم شقي.هكذا ، تفقد النظرة حيويتها، تنسى خريطة وضوح الأشكال،فتتكيَّف مع التأمل الشارد البخاريِّ، بكثافة.تتلاءم مع تطابق جوهري جدا، يتنفس خلاله الكائن حقا''مناخا حزينا''.

عندما يخبرنا إدغار بو(ص91: ''هواء سوداوي، لاذع، نافذ، مزمن، يسبح فوق كل شيء ويخترقها جميعا ''، فيلزم أن نحيا معه وفق حالة استئناس جوهرية، والإحساس بانسياب هواء السوداوية نحو جوفنا مثل جوهر ،مادام إدغار بو يوظف بكثير من الامتلاء صورا مستهلكة عثرت ثانية على حياتها كاملة، وحياتها الأصيلة.

هناك طباع يضفي عملها  تفاهة على صور نادرة جدا  : يمتلكون باستمرار مفاهيم قابلة كي تحصل على صور. بينما طباع أخرى، تلك المتعلقة بشعراء حقيقيين، تعيد الحياة إلى الصور الأكثر ابتذالا : اسمعوا ! رنين ضجيج الحياة يتردد صداه داخل جوف المفهوم نفسه.

ينتفض شعراء التفاهة، كي يردوا علينا بقولهم : نحن أيضا نتكلم بدورنا خطابا  ينطوي على معنى قوي، و ممتلئ، و حيٍّ. نعرض صورا غنية، تدوِّي وفق جناسات رنَّانة. غير أن مختلف مظاهر ذلك الثراء، تبقى غير متجانسة، وكل تلك الرنَّات مجرد نَقْر.مادام الزخرف يفتقد إلى الكائن، وكذا المثابرة الشعرية، بل و مادة الجمال ، ثم حقيقة الحركة.

وحده الخيال المادي والخيال الديناميكي، بإمكانهما خلق قصائد حقيقية.

كبير جدا وفاء شعرية إدغار بو إلى ''حركته الجوهرية''، يجعلها تتجلى بين طيات قصص مقتضبة جدا. لذلك، ينتابنا نفس الانطباع بخصوص ثِقل كوني حينما نعيد قراءة الصفحات الثلاث من كتابه ''ظلام''(ص 267) أو الصفحات العشرين من عمله الآخر ''ليجيا'' :''يسحقنا وزن قاتل، ينتشر على امتداد أطرافنا، وأثاث القاعة،ثم الأكواب التي نشرب بها؛ بل يبدو اضطهاد وإنهاك جل الأشياء نتيجة هذا العبء. كل شيء، باستثناء شُعل الفوانيس الحديدية السبعة التي تضيء عربدتنا.تتمدد بخيوط ضوء رقيقة، وتستمر كذلك تلهب شاحبة وثابتة''.

نرفض الشِّدَّة بخصوص تلك الشعل الحميمة، العمودية، الهادئة، من لايشعر بذلك؟ لاترسل أيّ شيء صوب السماء.لكنها تمثل هنا محورا مرجعيا بسيطا كي يمنح البعد العمودي خطه المثالي.يسقط كل شيء حولها، كل شيء آيل للسقوط، التأمل الشارد الذي تضيئه شعلها الشاحبة بمثابة ثِقل كائن يموت، يفكر ويتخيل ضمن نطاق ديناميكية الموت.  

هل تنبغي الإشارة بأن الشعلة المستلقية، تحلم بها بعض الخيالات كما لو يتجاذبها من الجانبين الهواء والأرض؟ إنها ديناميكيا ممدَّدة، يتأملها الخيال تبعا لتمدد فعال، بالتالي تعكس صورة مركَّبَة بين التحليق وكذا الانتزاع. نتبيَّن ملامح رسم خفيف لهذه الصورة الديناميكية بفضل مقطع لسيرانو دي بيرجراك (أعمال،1741،ص400 : "ما إن تنقضي نبتة، أو حيوان أو شخص، حتى تصعد روحهم جميعا دون أن تخبو(ص 124) (ملتحقة بكتلة الأنوار) ،ثم ترى هناك في الطليعة شعلة قنديل محلِّقة، رغم الشحم الماسك بقدميها''.

بالنسبة لنفسية متخيِّلة مرهفة الحس حقا،تحدد أبسط علامة وأقل إشارة مصيرا. جعل''رأس النجمة الخماسية متجها نحو الأسفل''،مثلما فعل فيكتور إيميل ميشلي (الحب والسحر، ص 46  )،يعني ذلك تكريس روحها إلى العالم الأسفل. كتب تحديدا مايلي :"داخل معابد سيفا  Siva(ماثلها الكاتب بالشيطان) اعترضت شُعل الفوانيس صفائح معدنية أفقية، بهدف الحيلولة دون صعود الشعلة صوب الجهة التي يجدر بها أن تكون، أي السماوات".

تصير خفيفا أو تبقى ثقيلا، معضلة، أمكن بعض الخيالات أن يختزلوا إليها جل مآسي المصير البشري. أكثر الصور بساطة وفقرا- ما إن تمتد وفق محور العمودية- حتى تشارك خلال الآن ذاته في الهواء والأرض.إنها رموز أساسية، طبيعية، معترف بها دائما من لدن خيالي المادة والقوة.

مادمنا ندرك الآن بأن السقوط المتخيَّل حقيقة نفسية تسود بياناتها  الخاصة، تحكم مجموع صورها، فإننا على استعداد كي نفهم تيمة ليست بالمطلق نادرة عند الشعراء : موضوعة السقوط في الأعلى. ستقدم نفسها أحيانا مثل رغبة جادة بالذهاب نحو السماء وفق حركة تأخذ وتيرة سريعة. سنسمع دويَّها مثل صرخة روح شغوفة.طبقا  لمنهجيتنا، نستدعي نماذجنا من شاعر، تحديدا ماكتبه أوسكار ميلوش في عمله''ترنيمة ملِكة الجمال'' :"أريد النوم فوق عرش الزمان ! السقوط من الأدنى إلى الأعلى نحو الهاوية الإلهية".

لكن توجد حالات حيث رغبة الإسراع وجهة الأعلى تبلور صورا تتجلى معها السماء حقا مثل هوَّة مقلوبة.نتذكر مرة أخرى بأن سيرافيتا (بلزاك) أظهرت للروح الخجولة هاويات السماء الزرقاء. هاويات أكثر جاذبية بالنسبة لروح حقا هوائية، كما الشأن مع حُفَر الأرض بالنسبة لروح أرضية. ضد هوَّة الأرض، تريد الروح الأرضية تحقيق الانتصار.السقوط وسط السماء لايعرف التباسا، بل السعادة حينها من اتخذت إيقاعا سريعا.

أرواح قليلة تدرك معنى الدَّوخة التي تنقلب نحو الأفضل، هكذا يبدأ نوع من الارتقاء غير المشروط، وعي بخفة جديدة. يحدد تحول جل القوى الديناميكية تحولا على مستوى مختلف الصور.سنرى فيما بعد، صفحات يوضح لنا نيتشه عبر فقراتها بأن العمق يكمن في الأعلى.صور من هذا القبيل، لاتنتجها النظرة وحدها؛ مادامت تمثل حصيلة إسقاطات للخيال الديناميكي.

بالنسبة إلى روح يتضاعف لديها الخير، يعزز الأخير يقينيات الثقة، سيأخذ العلو ثراء يستسيغ وفقه جل مجازات العمق.الروح المتسامية جيدة في العمق.فجأة، يمنح الظرف منظورا إلى الصفة، ويلحق بالخاصية تاريخا للوصف.كم تغدو الكلمات غنية حينما نقرأها بشغف ! 

تتداخل كثيرا صور الارتقاء والسقوط بين مقاطع قصائد أوسكار ميلوش؛ مختزلة كل مانوية الشاعر. لنقرأ حوارا بين الرجل والكورال الموسيقي في كتاب ''اعتراف ليمويل"(ص 77) . 

الكورال الموسيقي: هل تذكر حقا؟ جسرا ثابتا  فوق فضاء تم خلقه

قمم ذهبية للتأمل.

 ثم العودة، كي تبحث في ذكرياتك عن السقوط، الخط المستقيم الأول.  

الرجل : محمولا بسحابة للصوت،لا أعرف أين؛ معلَّقَا هناك في الأعلى،عند اللاشيء المتوخى، منيعا عن تحليق جامد، مرير، وأخرس

وسط فضاءات موحشة، سوداء، خاوية.

ثم أسقط.

أنسى، بيد أنه فجأة، أتذكر ثانية.

الكورال الموسيقي :(همسات عديدة)

من الحياة إلى الحياة، أيّ سبيل !  

كيف نعيش أجواء هذه القصائد دون المشاركة في الخط المستقيم الأول، الذي يخبرنا إبان الوقت نفسه عن الشر والخير،السقوط وكذا القمم الذهبية للتأمل ؟يمنح الشعراء الكبار أمثال أوسكار ميلوش تبريرا لرؤية ألبير بيغان الواردة في كتابه : الروح الرومانسية والحلم، ص 121  :'' تنتمي الروح على هذه الأرض إلى عالمين،عالم الثِّقل ثم عالم النور". يستطرد قائلا :"لكن سيكون خطأ الاعتقاد، بأن أحدهما يحيل إلى العدم، والثاني يجسد الحقيقة''.

تماثل علاقة الضوء والثِّقل نوعا من الواقعية الثنائية للمتخيَّل الذي يحكم الحياة النفسية بأكملها.يذكِّرنا ريكاردا روش بأن :"شيلينغ يرى في الضوء والثِّقل الثنائية الأولية للطبيعة"(ص 85 ).

لكن يمكننا استثنائيا أن نجد عند الحالمين الكبار بالمنحى العمودي للصور، تجلِّي الكائن في الآن نفسه ضمن مصير الارتفاع وكذا العمق.أستدعي مثالا بخصوص هذه الصورة من نوفاليس Novalis ،أحد عباقرة الحلم (1: "إذا بدا الكون تقريبا اندفاعا للطبيعة الإنسانية، فسيشكل عالم الآلهة تساميا لها''.ويضيف هذه الفكرة العميقة :''يشكل الاثنان فعلا واحدا''.يتحقق التسامي و التبلُّر من خلال فعل وحيد. لاتسامي دون ترسب، ثم لاتبلُّر بغير بخار خفيف يغادر المادة، وفكر ينساب فوق الأرض(2).

لكن هذا الحدس القريب جدا من الصور الخيميائية يقوض فكر المحلل النفسي الكبير للخيمياء كما الحال بالنسبة لنوفاليس.مع الصور الخيميائية، يصاب غالبا الخيال الديناميكي بالشلل من طرف الخيال المادي.تجعلنا النتائج – الأملاح و الماهيات- تبعا لأحلامها المادية، ننسى الأحلام الديناميكية الطويلة للتقطير.نفكر في الأشياء أكثر من الوظائف،وبما أنه بين طيات سردياتنا للحلم، نلوِّث الأحلام بالفكر، بالتالي يلزم الأحلام وفاء كبيرا كي تتذكر بالأحرى وظائف حُلُمية بدل أشياء حُلُمية.

قدمنا إذن في الوثيقة السابقة، مثلما يقتضي الأمر، أولوية لعبارة ''وحدة الفعل". نعم وحدة الفعل، فمن خلال الفعل نفسه وقد اختُبِر في إطار وحدته تتأتى لخيال ديناميكي إمكانية أن يعيش ثنائية المصير الإنساني للعمق والارتفاع، جدلية الباذخ والجليل(من سينخدع بخصوص التوجهات العَمودية المختلفة للباذخ والجليل؟من الجاهل بالخيال الديناميكي الذي سيطرح الباذخ في أجواء الهواء ثم يحيل الجليل على  المنجم؟).

يجمع الخيال الديناميكي بين الأقطاب، يجعلنا نفهم بأن شيئا ما داخلنا يرتقي حينما يتعمق فعل معين، ثم على العكس يتعمق شيء ما حينما يرتفع شيء ثان. إننا صلة وصل بين الطبيعة والآلهة، أو حتى نكون أكثر وفاء للخيال المحض،فإننا الأكثر قوة فيما يخص صلات الوصل بين الأرض والهواء :إننا مادتين في فعل واحد. تعبير من هذا القبيل،وقد بدا لنا اختزاله تجربة نوفاليس الحُلُمية، غير قابل للوضوح سوى إذا منحنا السيادة للخيال مقابل كل وظيفة روحية. إذن، نسعى إلى التأسيس في إطار فلسفة للخيال، يمثل الأخير بالنسبة إليها الكائن ذاته، المبدع لصوره وأفكاره.

يخطو الخيال الديناميكي خطوة قياسا للخيال المادي.تخلق الحركة المتخيَّلة، حين بطئها الكائن الأرضي، ثم كائنا هوائيا عندما تسرع. لكن، بما أنه يلزم أساسا الكائن الديناميكي البقاء داخل محايثة حركته، فلا يمكنه اكتشاف الحركة سواء التي تتوقف تماما أو تلك المسرعة  أبعد من كل حدٍّ : بالنسبة للكائن الديناميكي، ترتبط الأرض والهواء ارتباطا لافكاك منه.

نفهم إذن بأن نوفاليس أمكنه أحيانا وصف الثِّقل مثل علاقة يلزمها :''الحيلولة دون الفرار إلى  السماء''. بالنسبة إليه، العالم جمال ينشأ من المياه حسب مفاهيم ''نيبتون'' التي تأملها باستمرار شعراء العصر. إنه قصر : ''عتيق ومدهش؛ سقط في جوف المحيطات العميقة، ثم وقف منتصبا بكيفية راسخة غاية اليوم، كي يمنع الهروب نحو السماء،علاقة خفية تسجن في الداخل مواد الملكوت''.

مواد الملكوت، تلك المعادن مثلما يحلم بها الخيال المادي.هكذا، بفضل البلورة وجراء علاقة خفية، تنتقل ألوان السماء إلى الأرض .يمكنكم أن تحلموا ''هوائيا'' بزرقة الياقوت كما لو أن الحجر حَشَد صفاء السماء الزرقاء. يمكنكم الحلم ''هوائيا''بنار الياقوت الأصفر كما لو أنها تستأنس بشمس تغرب. بوسعكم أيضا الحلم ''أرضيا'' بزرقة السماء وتتخيلوا بأنكم تركِّزون مختلف ذلك في جوف يدكم، فتتجمد إلى ياقوت أزرق.

يتأتى للخيالين الأرضي والهوائي،أن يتوحدا حول البلورات وكذا الأحجار الكريمة. على الأقل يكمن الاثنان،هنا بقوة  ينتظران روحا متحمسة، أو روحا متأمِّلة ستمنحنهما ديناميكية متخيلة. سنعود إلى هذه القضية، عندما نتمكن في كتاب آخر، من دراسة''تأمل الأحجار الكريمة".

 في نهاية هذا الفصل، حيث أمكننا ضمّ عناصر ديناميكية الخيال، تحدونا رغبة إثارة الحدس بالإمكانية الثنائية للحلم ونحن نسقط، ثم الحلم ونحن نصعد. بالتالي، يتبلور اتجاهان للحلم العمودي، حول نفس البلورة، أحلام العمق وأحلام الحماسة،الأرض والهواء.عظيمة تلك الروح التي تحافظ عليهما،مثل كل موضوع متخيَّل، ضمن منحاهما العمودي الدقيق، وكذا قوة وحدة فعلهما. 

أحيانا، تتحطم حقيقة كائننا المتخيِّل، نتيجة اختلال بسيط للتوازن، والانسجام: نتلاشى أو نزداد كثافة، نحلم أو نفكر.

هل بوسعنا دائما أن نتخيَّل !             

  

هوامش : 

مصدر المقالة :

Gaston Bachelard :Lair et Les songes .Essai sur l imagination du mouvement(1943).pp122-128.

(1) نوفاليس : شذرات غير معلومة. أناشيد ليلية .ستوك ص.98  

(2) يمكننا الاقتراب من فكر نوفاليس عبر هذا المقطع الشعري لأوسكار ميلوش (نشيد المعرفة، اعتراف ليمويل، ص 67 ''غارقا في غبطة التعالي، وقد بهرته البيضة الشمسية، مسرعا وفق جنون الأبدية السوداء، مقيَّدة أطرافي بواسطة نبات طحالب الظلمات، أنا دائما في نفس المكان،عند المكان ذاته، الموجود الوحيد''. تشير بكثير من الوضوح، النبرة الخيميائية لنشيد المعرفة، إلى وحدة فعل الحلم  بانفصال الأعلى والأسفل.   

 

 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق