ترجمة: سعيد بوخليط
في الفصول
الأخيرة من كتابه،تطرق روبير ديزويل بحصافة كبيرة لدراسة ظواهر التخاطر، وكذا
قراءة الأفكار. إذا كان بوسع
نفسيتان أن تحيا معا تعاليا متخيَّلا، فسيظهران ربما تأثرا بخصوص تواصل على مستوى الصور
والأفكار. يبدو بأنه
حين نتموقع ضمن محور حياة الخيال الهوائي، ونستسيغ التدرج الخطِّي للصور التي تتيحها
الحركة العمودية المتعالية، حينئذ نكسب مبررا ثنائيا للتواصل: تُقرأ
الأفكار في هدوء، ثم يتحقق ذلك ضمن سبيل نحو الانتشاء وفق صيرورة التسامي. يقول ديزيويل عن هذا الانتقال الفكري (ص 189) :''إنه ليس حصيلة
إرادة متوترة، بل جراء تمثُّل داخلي للفكر،في صيغة صورة مرئية (غالبا)، يلزمها أن
تكون قد صيغت بكيفية جيدة شدَّت نحوها تركيز انتباه المرسِل دون شرود، ويعيش كليا،
إن أمكنه الأمر حالة عاطفية معينة.
إذا كان
الخيال حقا بمثابة قوة تهذِّب الأفكار الإنسانية،سندرك بيسر أن انتقال الأفكار
لايمكنه التحقق سوى بين خيالين متوافقين سلفا. يحدد خيال الصعود
إحدى التسويات الأكثر بساطة، وانتظاما، واستمرارية.تأويل ذلك، أنه يفضل"انتقال الفكر''. ولكي يقدم ديزويل دليلا عن هذا الانتقال الفكري، فقد طبق
منهجية التقريب الوحيدة الملائمة في حالة الارتياب حينما نصادف ظواهر من هذا
القبيل: لقد درس احتمال تبلور لقاءات حول
نفس الفكر من طرف ذهنيتين مختلفتين. والحال، أنه
يصدر عن هذه التجارب العديدة بحيث يزداد هذا الاحتمال بكيفية معتبرة إذا توخى
الفكران معا، التحضير جيدا لتحوُّل الفكر عبر تمرين الارتقاء المتخيَّل.بما أنه لاعلاقة
للأفكار المتجلِّية مع صور التعالي- قد تكون ببساطة مجرد اختيار ورقة أمكن الرهان
عليها ضمن ثمان أوراق أخرى- فقد اتجه تفكير روبير ديزويل نحو الاعتقاد بأن استنتاج
حركة متخيَّلة يعكس حقيقة واقعية.
اقترح أوجين
كزلان قبل روبير ديزويل، منهجية مماثلة ستشجع تجارب تتعلق بتناقل الخواطر وكذا
الاستبصار. نتبيَّن عبر
صفحات عدة من كتاب كزلان(منهجية تطوير مَلَكَات غير عادية، الطبعة الثالثة،1937 )،معرفة عميقة جدا عن دور الخيال،فَنَّا واقعيا قصد الحفاظ على
وحدة الصورة ، وإثارتها بتناقضات خفيفة
حينما يغمرها بعض الفتور(ص 132). لن نصادف عناء كي
نتوقع بأن وعيا مصقولا للغاية على مستوى الصور، يجد نفسه مرهف الحس نحو انطباعات
وتجارب تهملها الحياة المشتركة.
لكن، بما أني
لم أختبر شخصيا تجربة بعينها، فسأكتفي بشروح مقتضبة حول هذا الجانب من أطروحات
ديزويل و كزلان. تتجاوز هذه التجارب
موضوعنا الذي يبقى استقصاء حول الرؤى والقصائد.حسب هذا المعنى الأخير، أتوخى الاسترسال قليلا بخصوص منهجية
ديزويل.
يبدو لي بأننا
نصبح مع الحلم المتعالي أكثر تأثرا بالقصيدة الهوائية. دائما، يكتنفني شعور استغراب كبير حيال الازدراء الذي يلامس
القصيدة الصريحة، المفرطة في رؤيويتها، قصيدة فضفاضة إلى حد ما ومتملصة، تتخلى عن
مشاهد الأرض. أومن
بإمكانية الاستفادة بامتياز من صوفية الشعر، ونبرز قبل ذلك مختلف أنماطه. بهذا الخصوص، استطاع
جان بومبيي عبر صفحات أعمال ذات زخم فكري جدا، تعريف صوفية بودلير وكذا
بروست. لقد أبرز
بومبيي، فيما يتعلق بنفسية تتسم بكونها اجتماعية ومدنية،كما الحال مع بروست، عناصر توتر روحي خاص
جدا يجعلنا نتكلم عن صوفية التوتر.غير أنه بوسعنا أيضا تمييز بعض حالات الروح شعريا، تكشف بين
طياتها عن صوفية الانبساط.
لكي نحدد
الحالة الأثيرية التي نبلغها نتيجة بعض التحليقات المتخيَّلة، سنتجرأ بخصوص التكلم
عن توتر للاطمئنان، تحقق نتيجة انتباه يقظ كي نستبعد جل ما من شأنه أن يصرفنا عن
غبطة ''الحالة الهوائية".
بخصوص هذه
الحالة الهوائية، أو الاطمئنان الهوائي وكذا الديناميكية الهوائية، سيلامس الشاعر
الكبير أوسكار ميلوش، سمو ذلك ومن خلاله الحقيقة العظيمة.فلنقرأ الصفحات الخمس الأخيرة من كتابه ''رسالة شعرية عن الحب العائلي'' :"اليوم الرابعة
عشر من شهر دجنبر 1914،تشير الساعة إلى الحادية عشر ليلا،في خضم حالة سهر رائعة، صلاتي المعهودة
وكذا تراتيلي اليومية المتمعِّنة في الإنجيل، فجأة أحسست دون أيّ أثر للاستغراب، بتحول
غير متوقع تحقق على مستوى جسدي بأكمله.لاحظت أولا بأن قوة أجهلها غاية تلك اللحظة، تأتَّت إلي؛
ثم انتشلتني بحرية على امتداد المكان، فوجدتُ نفسي بعد ذلك بجوار قمة جبل شاهق يحيط
به سديم داكن، ميزته رقة وعذوبة، يستحيل وصفهما. خلال تلك
اللحظة،ادخرتُ مجهود الارتقاء اعتمادا على حركتي الذاتية، لأن الجبل وقد اقتلع من
الأرض جذوره،انطلق بي مسرعا نحو مرتفعات يصعب تخيُّلها،صوب فضاءات سديمية،خرساء غمرها
وميض هائل ''(Ars Magna ، ص 38 ).هذا، الخيال الديناميكي قوي جدا، يتجلى معه كون للارتقاء،
عالم يتشكل حين ارتفاعه.
لقد تأمل أوسكار
ميلوش فيزياء النسبية، في خضم سيادة الخيال.بحيث أوضح نوعا من الخيال المعمَّم وفق أسلوب نتحدث في
إطاره عن نسبية معمَّمة. بالنسبة إليه،هناك
صور حين تحقق تحوّلا للمتخيَّل.فيما يتعلق بالصورة التي نعيشها،تتبدَّى كليا نسبية
الذات والموضوع. التمييز بينهما
يعني تجاهل وحدة الخيال، والتنازل عن امتياز القصيدة التي نحياها.عندما يبلغ شعور
الارتقاء أوجه، سيدرك الكون سلام القمم(ص 29) : ''إنه إذن سكون تام ومطلق، أذهل الشمس والسحب، يشعرني بإحساس لايمكنني
التعبير عنه، بخصوص إنجاز بلغ أقصى مداه، وهدوء مطلق، وتوقف مطلق لكل عملية ذهنية ثم
تحقّق مافوق إنساني للإيقاع الأخير".
نفس النسبية
المتخيَّلة تجمع بكيفية لاتنفصم بين إكليل الشمس وكذا هالة الحالم. حينما صعد أوسكار ميلوش بواسطة سحابة نحو عالم الاستراحة المضيئة،
فقد انتابه إحساس مفاده بأنَّ جبينه يأسر ضوء ذلك العالم،وبلغ ''الحيز المطلق
للإقرار''(ص 37 )"انبثق
وميض فوق قمة الجمجمة، نحو الخلف قليلا، يشبه ضياء مصباح ينعكس على ماء راكد أو مِرآة
قديمة'' (ص 29).سرعان مايمتزج هذا الوميض المنبثق، مع فجر السماء.سيكشف هذا
الضوء، عن نسبية ممتازة بين الحالم والكون : "اسمع
صغيري، لن أسأم قط في سبيل إعادة تكرار ذلك : يركض كل الكون
داخلكَ، مضيئا بهالته الرائعة جمجمة ذاك الحاضر في كل مكان'' (ص40).
أريد إنهاء
هذه المقاربة بالحديث عن دور التسامي المحرِّض في أبحاث روبير ديزويل. يطبق الأخير التحليل النفسي بعد إدراجه للتسامي الواعي.بعيدا عن
اعتباره التسامي مجرد وَهْم يغطي ويعوض غريزة تمّ التنكّر لها، شغف منخدع، سيوضح
ديزويل في المقابل، بأن هذا التسامي يجسد منفذا طبيعيا، سعيدا، ومرغوبا فيه، نحو حياة جديدة. أساسا، روحا
استضاءت أصلا بالتسامي المحرِّض الذي سيقاربه ديزويل. يمتلك هذا
التحليل النفسي الثاني وظيفة تحصين وعي التسامي.يقول (ص 77) :''لقد بدا لي دائما، بوجود امتياز معين، حينما يكون متاحا، ترقب تسامي
صور الذات بما يكفي، قبل الشروع في مباشرة تحليل عميق''.أليس فقط حينما ينزاح التسامي عن قيوده داخل اللاوعي، بوسعنا
حينئذ توخي قطع الخيط الذي يعيقنا نحو مسار سعيد لتسامٍ محرِّر صراحة؟ ''(ص 179).''لاحقا،عندما نقف صحبة الذات على صور
متسامية كفاية، نستدعي لديها حلما دون تغيير لحالتها الوجدانية،أو نترك أولا تلك الصورة
جانبا ثم نطلب من الذات تنضيدها،أو بالأحرى دمجها مع الصورة المرتبطة بحالتها
الوجدانية الآنية''.تسعى إذن منهجية ديزويل، إلى دمج التسامي في الحياة
النفسية العادية. وضع تساعد
عليه صور الخيال الهوائي.
تحظى هنا
تطابقات بيرسي شيلي بدلالة نفسية عميقة. هكذا، تتشكَّل
الروح. يترك السكون السابق مكانه إلى
سكون واع بذاته، سكون المرتفعات حيث نرى ''من الأعلى'' اضطرابات الأسفل. ويتولد لدينا كبرياء بُعْدنا الأخلاقي، وتسامينا، وتاريخنا(ص
179). هكذا، بوسعنا
أن نطلب من الذات السماح بانبثاق عفوي لذكرياتها.تمتلك هذه الذكريات حاليا مزيدا من الحظوظ كي تكون متصلة،
وتكشف عن عِلِّيتها، مادام الحالم اليقظ بلغ تقريبا قمة حياته. يمكن إذن تقييم الحياة الماضية على ضوء وجهة نظر جديدة، يعني
بتفرُّد مطلق : بوسع الكائن
أن يحكم على نفسه. تدرك الذات
غالبا بأنه قد أمكنها امتلاك معرفة جديدة، وتبصر نفسي (ص187، الإحالة على المكتسبات النفسية عند بيير جانيت).
لكن أهل
الاختصاص النفسي يرغبون في إدراك بأن الأمر يتعلق بالتخيّل.نلتمس منهم تجريب قوة الخيال، القوة الكلِّية للتسامي المُنْجَز،
المتوخَّى وقد تضاعف على مستوى مختلف "التطابقات''.في خضم الحياة الذهنية، وبعيدا عن تمثُّل سياق الكائن
المتخيِّل، ألا تكبت الذات تسامياتها؟ نسخر من صور ذات بريق ساذج.جعْل صورة
مضيئة، وفقا لتقدير البعض، يعني أن نضفي عليها بريقا مخادعا .
أيضا، حينما
يوحي ديزويل إلى الحالم اليقظ بأن يعوض صورة وعاء من تراب بإناء من البلور أو
المرمر، سنرفض تصديق- دون القيام بأبسط تجربة- الفعالية المباشرة لهذا التسامي.
مع ذلك، تماثل
حقا هذه الصور المتطوِّرة،نشاطا روحيا إيجابيا مادمنا نصادفها باستمرار في القصائد. أيّ إيذاء، وتوقف للنمو نقترفه في حق نفسية كما الشأن مع نفسية
شيلي، حينما نمنع عنها البلور أو المرمر!أليس بثّ صورة حية جدا، داخل روح شاعر فاترة، إعادة
الحياة إلى تسام مكبوت، وكذا قوى شعرية نجهلها وينبغي السعي لاكتشافها؟.
إذا استطعنا ترتيب
هذه القوى الشعرية المبعثرة جدا، ربما أمكننا أن نرى في العمل، بدل تناقل للخواطر
نبحث عنه ضمن ألغاز الفكر، شاشة شعرية ستمثل عكس المعطى السابق تمجيدا للصور.يلزم بهدف
تفعيل هذه الشاشة الشعرية، إعادة الخيال إلى موقعه الراجح في إطار فلسفة للاستراحة. بمعنى ثان، يلزم أن نمنح استراحة للفكر النشط و الأداتي،
وكذا الفكر الوصفي. هكذا، نفهم
بأن حالة الاستراحة ،تمثل الرؤيا التي حددها ميخالي فال Phal بشكل دقيق
جدا كحالة جوهرية للنفسية .(1)
يتيح تصنيف الخيال
المادي والديناميكي، إمكانية تجميع حالات رؤى موحَّدة أكثر. انطلاقا من تلك
الحالات مثلما يحددها الماء، الأرض، الهواء، أو النار، يمكننا التطلع صوب شاشة
شعرية أكثر انتظاما من القصائد التي تشترك في كونها تأسست انطلاقا من صورة طارئة. سيكون الخيال حيويا، في كل الأحوال، من خلال إنتاجه
للصور. تتبلور أنا-أعلى
متخيِّلة في إطار منظور الانجذاب، بدل أنا-أعلى تفرض نفسها، تحس بمفعول أنا-أعلى
أخرى تستدعي تركيبات.
لكن إشكالية القصيدة
الشائعة أنها لاتحظى بكل القيمة التي تستحقها.بهذا الخصوص، لم تتم مناقشة المقال الجميل لصاحبيه
غابريل أوديسيو وكذا كاميل شاور(2). أيضا، مجهودات السورياليين في هذا الإطار غير متداولة بشكل
أفضل.نفس القضية
تطرح من جهة أخرى عبر علاقة الشاعر وقارئه.بالتالي،
تقتضي قراءة القصائد تجليا لمفعول الشاشة الشعرية.
أشار هوغو فون
هوفمانستال إلى ''الإنتاجية الايجابية" التي ينبغي لها ضمّ القارئ إلى العمل
الأدبي(كتابات نثرية، ص 91 ) : "حينما تستفيق بكيفية مذهلة الإنتاجية الايجابية، خلال
يوم ليس كباقي الأيام، تحت ريح وشمس غير الريح والشمس المعتادين، يجبر حينئذ الشخص
الممثل على أداء الدور،غير أن الأخير لايبدي قط في خضم ذلك أيّ إرادة، بل يخضع
للتوجيه التالي : '' ستقرأني
اليوم وسأعيش أنا داخلَكَ''.
نحس سلفا بأثر هذا التوجيه بين طيات صورة منتجة. صورة سعيدة، يجد القارئ نفسه مضطرا كي يتمثَّلها، ويعيشها تبعا لدلالة الخيال الفعال
الذي منحها الحياة. تجسِّد صور
من هذا القبيل خطاطات بالنسبة للحياة الاستقرائية وكذا الحياة المستحدَثة .
إذن، يعتبر الكاتب
الذي يمتلك عبقرية الخيال، ذاتا- أعلى إيجابية بالنسبة للقارئ. ذات- أعلى
خيال إيستيتيقي، إذا استحضرنا ذلك ونحن نعيش القصائد، فسيمثل قوة توجيهية
غير التربية الأداتية والعقلانية التي تسلبنا كثيرا.لكن للأسف !الذات-الأعلى الشعرية احتواها النقد الأدبي، لذلك يبدو الأخير كما لو أنه جائر.أليس لافتا
للنظر أن النقد الأدبي، تحالف تقريبا دون تحفظ مع ''الواقعية''ويكشف عن امتعاضه
نحو كل سعي للمثالية؟بعيدا عن تشجيع التسامي،يعمل الناقد على كبحه مثلما أوضح ذلك
جيدا،جان بولهان.
فيما وراء كبت
المثالي، انطلاقا من اعتقاد
مفاده الارتكاز على حقيقة- ليست سوى حقيقة الكبت- يعتقد كذلك، بأنه يرتكز
على استدلال يعكس في نهاية المطاف نظام كبت، يجدر بالتالي العثور ثانية على هذه
الأنا- الأعلى الشعرية الايجابية، تلك التي تستدعي الروح وجهة مصيرها الشعري، والهوائي،
مصير الشعراء الحقيقيين كما الشأن بالنسبة لريلكه، إدغار الآن بو، بودلير ،شيلي
ونيتشه.
هوامش :
مصدر
المقالة :
Gaston
Bachelard :Lair et Les songes .Essai sur l imagination du
mouvement(1943).pp129-139.
(1) Makhali
Phal ; Narayana.passim
(2)Gabriel Audisio et Camille
Schuwer :La revue Nouvelle ;mars 1931 ;page.24.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق