الجمعة، 18 مارس 2016

الصحراء : بقلم عالم النفس كارل يونج / ترجمة متيم الضايع ـ رنا بشّور



عالم النفس كارل يونج (1875-1961)
الليلة السادسة. تقودني روحي إلي الصحراء، إلي الصحراء الموجودة في ذاتي . لم أكن أعتقد أن روحي عبارة عن صحراء، صحراء قاحلة حارة، مليئة بالغبار ولا ماء فيها . تقودني الرحلة عبر رمال حارة، أخوضها ببطء دون هدف واضح آمل برؤيته . كم هي مخيفة هذه الأرض القاحلة . تبدو لي أن الطريق يقود بعيداً جداً عن البشرية . سرتُ في طريقي خطوة تلو أخري، ولا أعرف كم ستدوم رحلتي . 


لماذا تكون ذاتي عبارة عن صحراء ؟ هل عشتُ كثيراً خارج ذاتي بين البشر والأحداث؟ لماذا تجنبتُ ذاتي؟ ألم أكن عزيزاً علي ذاتي ؟ لكني كنت اتجنبُ مكان روحي . كنتُ أفكاري، بعد أن توقفتُ عن كوني أحداثاً وبشراً آخرين . لكني لم أكن ذاتي في مواجهة أفكاري . عليّ أيضاً أن أرتقي فوق آخرين . تمضي رحلتي إلي هناك ، ولهذا تبعدني عن البشر والأحداث إلي العزلة . هل هي عزلة أن يكون المرء مع ذاته ؟ تكون العزلة صحيحة فقط عندما تكون الذات صحراء . هل عليّ أن أكون حديقة من خلال الصحراء ؟ هل عليّ أن أجعل أرضاً قاحلة ، مأهولة ؟ هل أفتحُ حديقة البرية السحرية الواسعة ؟ ما الذي يقودني إلي الصحراء ، وماذا سأفعل هناك ؟ هل هو خداع لم أعد بسببه ، أستطيع الثقة بأفكاري ؟ الحياة وحدها الصحيحة ، والحياة وحدها تقودني إلي الصحراء ، بالفعل ليس تفكيري من يرغب بالعودة إلي الأفكار ، إلي البشر والأحداث ، بما أنه يشعر بالغربة في الصحراء. ماذا يجب أن أفعل هنا يا روحي ؟ لكن روحي تحدثت معي وقالت : "انتظر" . سمعت كلمة قاسية . ينتمي العذاب للصحراء . 

عبرَ منحِ كل ما أستطيع منحه لروحي، وصلتُ إلي مكان الروح ووجدتُ أنَ هذا المكان كان صحراء حارة مهجورة وقاحلة . ليس هناك من ثقافة كافية في العقل لصنع حديقة من روحك. لقد قمتُ بحراثة روح هذا الزمن في داخلي، وليس روح الأعماق الذي يهتم بالأمور المتعلقة بالروح، بعالم الروح . للروح عالمها الخاص الغريب . والذات وحدها تدخل هناك ، أو الإنسان الذي أصبح ذاته بالكامل ، الذي لا يكون في البشر ولا في الأحداث ولا في أفكاره ز من خلال إبعاد رغبتي عن الأشياء والبشر، أبعدتُ عن الأشياء والبشر، وهكذا بالضبط أصبحتُ فريسة لأفكاري، نعم، أصبحتُ أفكاري بالكامل.





كان عليّ أيضاً فصل ذاتي عن أفكاري عبر إبعاد رغبتي عنها . وفي الحال، لاحظت أن ذاتي أصبحت صحراء، حيث اتقدت شمس الرغبة القلقة وحدها . كنت مرتبكاً بالقحط الذي لا نهاية له لهذه الصحراء. حتي لو استطاع شيء ما الازدهار هنا ، فإن القوة الإبداعية للرغبة كانت لا تزال غائبة . أينما وُجدتْ القوة الإبداعية للرغبة ، تنبت بذور التربة ذاتها . لكن لا تنس الانتظار . ألم تر أنه عندما تحولت قوة الإبداع لديك نحو العالم، كم من الأشياء الميتة تحركت تحته أو من خلاله ، كيف نمت وازدهرت، وكيف تدفقت كأنهار غامرة؟ إن تحولت قوتك الإبداعية إلي مكان الروح، فسوف تري كيف تصبح روحك خضراء، وكيف تحمل حقولها ثماراً رائعة. 
لا أحد يمكنه تجنب الانتظار، ويكون معظم الناس غير قادرين علي تحمل هذا العذاب، بل سوف يعيدون ذواتهم بجشع إلي البشر والأشياء والأفكار، وسيكونون عبيدهم من تلك اللحظة فصاعداً . منذ تلك اللحظة ، سيكون مؤكداً بشكل واضح أن هذا الشخص غير قادر علي تحمل ما وراء  الأشياء والأفكار، وسيصبحون من هنا أسياده وسيكون هو تابعهم، بما أنه لا يستطيع التخلي عنهم، ولا حتي بعد أن تصبح روحه حقلاً مثمراً . أيضاً ، من تكون روحه حديقة ، يحتاج الأشياء والبشر والأفكار، لكنه يكون صديقاً لهم وليس عبدهم وتابعهم. 

كل ما هو آت، كان في الصور مسبقاً: سار القدماء في الصحراء لإيجاد أرواحهم . هذه صورة . عاش القدماء رموزهم، بما أن العالم لم يكن قد أصبح واقعاً بالنسبة لهم . وهكذا دخلوا في عزلة في الصحراء ليُعلِمونا أن مكان النفس هو صحراء وحيدة . وجدوا هناك فائضاً من الرؤي، ثمار الصحراء، أزهار الروح الرائعة. فكر بجهد بالصور التي تركها القدماء خلفهم . لقد أوضحوا لنا الطريق لما هو آت . انظر خلفك إلي انهيارالإمبراطوريات، إلي النمو والموت ، إلي الصحراء والمعتزلات ، إنها صور لما هو آت . كل شيء تم التكهن به . لكن من يعرف كيفية تفسيره؟ 

عندما تقول إن مكان الروح غير موجود ، فهو إذن غير موجود. لكن إن قلت إنه موجود ، فسوف يصبح موجوداً . لاحظ ما قاله القدماء في الصور : الكلمة هي تصرف خلاق . قال القدماء : في البدء كانت الكلمة (*). تأمل بهذا وفكّر به . 
الكلمات التي تتذبذب ما بين الهراء والمعني الفائق، هي الأقدم والأكثر صحّة . 

التجربة في الصحراء

بعد صراع مرير، وصلتُ إلي جزء من الطريق الأقرب إليك. كم كان ذلك الصراع قاسياً ! وقعتُ تحت شجيرات الشك والتشوش والاحتقار. أدركتُ أن علي أن أكون وحدي مع روحي. أتيت إليك يا روحي بأيد فارغة. ماذا تريدين أن تسمعي؟ لكن روحي تحدثت إلي وقالت : "إن أتيت لصديق فهل تأتي لتأخذ ؟" عرفت أنه لا يفترض أن يكون الأمر بهذا الشكل، لكن يبدو لي أني فقير وفارغ. أرغب بالجلوس قربك والشعور علي الأقل بأنفاس حضورك المنعش. طريقي رمال حارة. طوال اليوم، طرقات مغبرة. يتضاءل صبري أحياناً، يئستُ من ذاتي كما تعلمين. 

أجابت روحي وقالت: "أنت تتحدث معي كما لو أنك طفل يشتكي لوالدته. أنا لست والدتك ". أنا لا أرغب بالشكوي، لكن دعيني أقل لك إن طريقي كان طويلاً ومغبراً. أنت بالنسبة لي كشجرة وارفة الظلال في البرية . أود أن أستمع بظلك. لكن روحي أجابت: "أنت تسعي للمتعة. أين صبرك ؟ لم يحن وقتك بعد. هل نسيت لماذا دخلت إلي الصحراء ؟" 

إيماني ضعيف، وجهي لا يُبصر بسبب الوميض الساطع الناتج عن شمس الصحراء. قلبي يُثقل علي كالرصاص. العطش يعذبني، لا أجرؤ علي التفكير كم كان طريقي طويلاً ولا نهاية له، وقبل كل شيء، لم أر شيئاً أمامي. لكن الروح أجابتني: " أنت تتحدثُ كما لو أنك ما تعلمت شيئاً. ألا يمكنك الانتظار ؟ هل يجب أن يقع كل شيء في حضنك ناضجاً وجاهزاً ؟ أنت ممتلئ، نعم، أنت تعج بالأهداف والرغبات! ألا زلت غير عارف بأن الطريق إلي الحقيقة يكون مفتوحاً فقط لأولئك الذين لا هدف لديهم ؟" 

أعرف كل ما تقولينه يا روحي، هو تفكيري أيضاً. لكني لا أعيش وفقاً له. قالت الروح: "قل لي كيف تعتقد إذن أن أفكارك ستساعدك ؟" أرغبُ دائماً بالإشارة إلي حقيقة أني إنسان، مجرد إنسان ضعيف، ولا يقدم أفضل ما لديه في بعض الأحيان. لكن الروح قالت: " هل هذا ما تعتقد ما يعنيه أنك أنسان ؟" أنتِ قاسية يا روحي، لكنك علي حق. كم مازلنا نلتزم بعيش القليل من الحياة . يجب أن نكبر مثل الشجرة التي لا تعرف قانونها. نقيد ذواتنا بالأهداف، غير منتبهين لحقيقة أن الهدف عبارة عن حدود، نعم، استبعاد للحياة. نحن نؤمن أن باستطاعتنا إضاءة الظلمة من خلال هدف، وبتلك الطريقة يسبق الهدف الضوء. كيف لنا أن نفترض بأننا نعرف مسبقاً من أين سيأتي  الضوء إلينا ؟

دعيني أقدّم لك شكوي واحدة: أنا أعاني من الاحتقار، احتقاري لذاتي . لكن روحي: "اسمع إذن، هل تقلل من قيمتي ؟ هل لازلت لا تعرف أنك لا تكتب كتاباً لتغذية غرورك، بل تتحدث معي ؟ كيف لك أن تعاني من الاحتقار إن كنت توجه لي تلك الكلمات التي أعطيها لك ؟ هل تعرف إذن، من أنا ؟ هل استوعبتني، هل عرفتني وجعلت مني صيغة ميتة ؟ هل قستَ أعماق هاوياتي، واستكشفت جميع الطرقات التي لازلتُ أقودك فيها ؟ لا يمكن للاحتقار أن يتحداك إن لم تكن فارغاً حتي النخاع" . صراحتك قاسية. أريد أن ألقي بغروري أمامك بما أنه يعميني. أترين، لهذا اعتقدت أن يديّ فارغتان عندما جئتُ إليك اليوم. لم أعتبر أنك أنت من تملأين الأيدي الفارغة إن أرادت أن تمتد مع أنها لا تريدُ بذلك. لم أعرف أنني وعاؤك، فارغ من دونكِ، لكنه يطفح بك. 

كانت ليلتي الخامسة والعشرين في الصحراء. احتاجت روحي إلي كل هذا الوقت، للاستيقاظ من حالة كينونة مظلمة إلي حياة خاصة بها، إلي أن استطاعت مقاربتي ككيان حرّ منفصل عني. تلقيتُ منها كلمات قاسية لكنها مفيدة احتجتُ لأن تمسك بيدي بما أنني لم أستطع التغلب علي الاحتقار في داخلي. 

يعتبر روح هذا الزمن نفسه ذكياً بإفراط، مثل كل روح لزمن. لكن الحكمة ساذجة وليست بسيطة وحسب. لهذا يسخر الإنسان الذكي من الحكمة بما أن السخرية سلاحه. يستخدم سلاحاً ساماً مدبباً، لأنه يُصدم بالحكمة الساذجة. إن لم يُصدم، فلن يحتاج إلي السلاح. في الصحراء فقط، نصبح مدركين لسذاجتنا المرعبة، لكننا نخاف الاعتراف بها. "لهذا نكون مُحتقرين. لكن السخرية لا تحقق السذاجة . تقع السخرية علي الساخر، وفي الصحراء، حيث لا أحد يسمع ويجيب، يختنقُ باحتقاره الخاص.

كلما كنت أكثر ذكاء، تكون سذاجتك أكثر غباءً. الأذكياء تماماً هم الأغبياء بالكامل في سذاجتهم. لا نستطيع حماية أنفسنا من ذكاء روح هذا الزمن من خلال زيادة ذكائنا، بل من خلال قبول أكثر ما يكرهه ذكاؤنا، أي السذاجة. ومع ذلك، نحن لا نريد أن نكون أغبياء مزيفين لأننا نسقط في السذاجة، بدل من أن نكون أغبياء أذكياء. هذا يؤدي إلي المعني الفائق. يضاعف الذكاء ذاته بالهدف. السذاجة لا تعرف هدفاً. يحتل الذكاء العالم، لكن السذاجة تحتل الروح. لذلك تبني فقر روح هذا الزمن بغية المشاركة في الروح. 
مقابل هذا ظهر احتقار الذكاء. سيهزأ العديدون بغبائي. لكن ما من أحد سيهزأ بي أكثر مما هزئت بنفسي. 

هكذا تغلبتُ علي الازدراء. لكن عندما تغلبتُ عليه، كنتُ قريباً من روحي، واستطاعت التحدث إلي، وكنت قريباً من رؤية الصحراء وهي تتحول إلي اللون خضراء.
...................
(*) من إنجيل يوحنا: "فِي الْبَدْءِ كَانَ الْكَلِمَةُ، وَالْكَلِمَةُ كَانَ عِنْدَ اللهِ، وَكَانَ الْكَلِمَةُ اللهَ."

(المرجع) الكتاب الأحمر ، كارل غوستاف يونغ، ترجمة متيّم الضايع ـ رنا بشّور، دار الحوار ، الطبعة الأولي 2015. 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق