الأحد، 27 مارس 2016

مقدمة كتاب "لوتريامون" لغاستون باشلار/ سعار الحقيقة بقلم المترجم: حسين عجة


"الأخوة ليست أسطورة"

لوتريامون، قصائد1

"يا امرأة، لدي نفس انطباعاتك، وأنا أرتعش خشية أنّ تُلحق بنا تعاسة ما"
-أفكر في السماء.
-ليس من الضروري أنّ تفكر في السماء، إذ يكفي سلفاً التفكير في الأرض.
  هل أنت متعبُ من العيش، أنت الذي بالكاد قد ولدَ؟"

لوتريامون، قصائد2.


عندما أقترح عليَّ الصديق زعيم نصّار، الذي من دون حثَّه المتواصل ليَّ، الكرم والمحبة الذي أحاطني بهما، لما كنتُ قد تقدمت كثيراً في طريق الترجمة هذه، وما كان للكتاب أن يرى "النور"؛ حينما أقترح نصّار عليَّ إذاً القيام بكتابة مقدمة، مدخلاً، كلمة عن باشلار وكتابه، شعرت بنوع من الحياء والإرتباك، أو بدقةٍ أكبر، بصعوبة المقترح واستحالة تنفيذه. إذ كيف يمكن "تقدّيم" باشلار مع أي من كتبه الأخرى، فما بالك حينما يكتب عن كتابة "لوتريامون"؟

عن عمل وحياة شاعر، تكادُ تكونُ أسطورة اسمه غير الكافية (اسمه الشعريّ، الكونت لوتريامون، الذي لم يستخدمه إلاّ مرةً واحدةً، والذي يقول عنه البعض إنّه قد يكون مُحاكاة لاسم "لاترمون يوجين دو سو"، فيما يؤكد غيرهم على أنّ ذلك الاسم المستعار يشير إلى "حنينه" للأرغواي، مسقط رأسه، وهو متكّون، أي الاسم، من مقطعين صوتيّين باللاتينية إلاّ وهما l’autre  ويعني بالعربية الآخر، ومقطع mont، ويعني بالعربية "تلّة"، ويحيل إلى اسم Montevideo، المدينة التي ولد فيها)؛ أسطورة، كما يبدو للإحاطة بعبقرية إبداعه، أو على الأقل، استيعاب تمزقاته وصراخه، والآثار العصبية-الإبداعيّة العظمى التي تركها على طول وعرض جسد القرن العشرين، الذي لم يكن بالدقّة قرنه ولا عصره، مع أنّ القرنَ المنصرمَ أستقبله تارةً بنوع من الحفاوة و"الصخب" الساحر، والذي سرعان ما سيتبدّد أو يتلاشى، ببساطه لأنه يتعلق بالسحر والساحر، وتارة أخرى بتسليم حياته، سلوكه و"سايكولوجيته"، أكثر من عمله، لمقصَّ ورقابة المقولات المُحنّطة والسامة أيضاً للموضوعية- الذاتية، الأخلاقية-السلوكية، الإجتماعية-النفسية، وغيرها من الثنائيات المبهمة والمُعطَّلة للحدس الشعريّ الأوليّ، أو الإبداعيّ عموماً؛ تلك المقولات التي كان البعضُ يهرعُ نحوها، حينما تنْضبُ لغته وتهرب منه العبارات بعيدا؛ يهرعُ نَحوها كبقايا شاحبة لكنز المقتنيات الميتافيزيقة الغربية المحنطةِ، عسى ولعلّ أنْ ترمَّمَ تلك القطع المحنطة ولو جانباً واحداً من جوانب غفلته.

 بدأ اسم لوتريامون المغمور بالظهور تدريجياً، في القرن التاسع عشر، الذي شرعَ أولاً مع الرومانسيين، ومن ثم مع بودلير؛ آنذاك، كان التمرّد على الآداب العامة والأخلاقية للمرحلة قد وصل ذروته تقريباً. يدفع لوتريامون بذلك التمرّد إلى أبعد ما يمكن: على الصعيد الأخلاقي، تهاجم "أناشيد مالردور" تقاليد التيار "الإنسانيّ" الأوروبيّ، كما تهاجم الله ذاته، كما كانت المشاهد الساديّة، التي تظهر في العمل، تحملُ عنفاً متطرفاً، وذلك بصرف النظر عن الهجوم على "المحرّمات" الجنسية، لاسيما "حب الأولاد" الذي يستخدمه لوتريامون كذريعةٍ أو سلاح شعريّ مباشرٍ لكي يمزقَ أوشحة، أقنعة، وطقوس ثقافة "برجوازية"، كانت تعاني من لحظات نزاعها مع الموت!

 لكن، وبالرغم من كل شيء، لا يمكننا القولُ إنّ القرن العشرين كان الميدانَ أو الساحة التي لم يشارك أو يتنازع عليها لوتريامون مع عددٍ من أسماء كبار شعراء القرن التاسع عشر، الذين سبقوه، أو من معاصريه، وبالتاليّ ظل غائباً عنها، هو، لوتريامون! على العكس من ذلك تماماً، وكما يقول باشلار، على هذا الصعيد: "لا أعرف سوى ثلاثة اسماء من شعراء القرن التاسع عشر الكبار، الذين أسّسوا مدارس شعرية، دون علمهم بذلك: بودلير، رامبو، لوتريامون". نحن نعتقد أن لوتريامون سيظل، في قبره، أكثر جهلاً من بودلير ورامبو، حيال "المدرسة" بالمعنى المزدوج للمفردة: المدرسة كدراسة والمدرسة كمدرسة أدبية، وذلك بالرغم من أن الدادئيين والسيرياليين قد جعلوه أحد أكبر معلميهم. لنسمع ما يقوله أندريه جيد عن ذلك: "أعتقد بأن اللقب الأكثر جمالاً الذي يمكن خص المجموعة التي شكلها أندريه بريتون، أراغون وفيليب سابو تأتّي من أكتشافهم وإعلانهم عن الأهمية الأدبية وما فوق الأدبية للرائع لوتريامون".

ضمن لعبة الفارق ما بين الأجيال، لن يكون صوتُ كاتبٍ معاصرٍ، ما زال يعيش وسطنا بتوقد وزخم إنتاجيّ أدبيّ أكثر من ملفت للنظر شيئاً زائداً عن اللزوم ، أعني  فيليب سوليرس، الذي فرض نفسه بقوة علينا، لكي يقول لنا، بالدقة، كيف أستقبل ما قاله جيد عن لوتريامون؟ "في عام 1905، كتب أندريه جيد، في "يومياته" بأنه كان يقرأ النشيد السادس من أناشيد مالدرور بصوت عالٍ. لا شك أنه قد تأثر بالطقس الكلاميّ عن "الميل نحو الفتية"، الذي يغمر العمل، لكنه لم يذهب أبعد من ذلك". من الضروري تماماً قرأة ما كتبه سوليرس عن لوتريامون، بعد بريتون، أرتو، باشلار وموريس بلانشو. لماذا؟ لأنه "على الرغم من حربين عالميتين، المجازر الجنونية، والأطنان العديدة من الأدب، يظلل أسيدور دوكاس أكثر حضوراً وتوقداً، ومطلسماً إلى الأبد". نُشدد على عبار مطلسم إلى الأبد، التي ترجعنا بدفعة واحدة إلى نقطة أنطلاقتنا الأولية: كيف يمكن الكتابة عن لوتريامون، بعد كلّ ما قيل وكتب عنه، وكيف يمكن استثمار ما كتبه باشلار عنه وعن عمله؟ لنذكر بعض المعلومات الناقصة: وُلدَ "أسسيدور دوكاس"، الذي نسب لنفسه اسم الكونت لوتريامون، في 4 أبريل في "مونتفيديو" في الأرغواي. ألف أو ولَّد عملين شعريَّين، ما زال الحوار وسوء الفهم قائماً حيالهما، إلاّ وهما "أناشيد مالدرور"، التي ألفها في عام 69-1868، و"قصائد" أو "أشعار"، التي تمّ نشرها في عام 1870، العام الذي توفى فيه الشاعر، ورسائله التي أصبحت تعرف باسم "الرسائل". في 1874. كان مخزن النسخة الأصلية لـ "أناشيد مالدرور" قد أشتراها "جان بابتست روزز" Jean Baptiste Rozez، وهو صاحب مكتبة-دار نشر من مدينة "تارب"، المدينة التي عاش فيها أسيدور دوكاس ردحاً من حياته؛ أصدر إذاً جان بابتس النسخة الأصلية لـ "أناشيد"، لكن بغلاف جديد. كان لا بدّ من أنتظار عام 1885، حتى يأخذ "ماكس والتر" Max Walter، مدير تحرير مجلة "بلجيكا الفتية"، وينشر بشكل أوسع نوعاً ما مقاطعاً (أجزاء) من الـ "أناشيد" ومن ثم جعل العمل يُعرف بشكل أفضل.

 يقع العمل بين يدي هويسمان و"رمي غرمونت". يتساءل هوسيمان حينذاك "يا للشيطان، ما الذي كانت عليه حياة ذلك الرجل الذي كتبَ أحلاماً كهذه"؟. أمّا "ليون بلوي"، الذي كرس له كتاباً نقدياً، تحت عنوان: Cabanon de Prométhée (الكوخ الفقير لبرومثيوس)، والذي لن أتعرض له هنا، ذلك لأن باشلار قد ألقى ضوءً باهرً على أحكام "ليون" الطائشة حقاً. لماذا؟ لأنه كان أول من تعامل معه، في أفضل الأحوال، كعبقرية "مجنونة"، بل ويرثي له ولحالته النفسية. انطلاقاً من تلك اللحظة وهذه الأحكام، طرحت تيمة، موضوع "الجنون" بقوة، والتي "دامت طويلاً"، كما يقول، مرة أخرى سوليرس: "وذلك ما يبرهن عليه تصريح "البرت توبو": لا شك أنّ لوتريامون لا يدخل ضمن قائمة كتّابي المفضلين، كما أنيّ أصرّ على أنه ينطوي على عنصر جنونيّ".

وها إنّ النقد الأدبيّ الفرنسي ينخرط في قاعة أو حلبة الرقص من فوق أشلاء أحد أكبر مؤسسي مجده "الثقافي"، وربما حتى حساسيته "الجمالية". هل يمكن، بعد ذلك، الإلتفات نحو كتاب وفلاسفة فرنسيين ما زال تراثهم الفكري والروحي ماثلاً، بهذه الطريقة أو تلك، على الطقس "الثقافي" و"الروحيّ" في فرنسا؟ وبشكل خاص اثنين منهم، من الكبار، إلاّ وهما سارتر والبيير كامو.

 شخصياً، لا أعرف الشيء الكثير عن رأي سارتر بلوتريامون، بيد أنيّ أعرف أكثر، نوعاً ما عن رأي كامو عنه؛ لكن قبل تثبيت هذه المعلومة عن كامو، يهمني ذكر وتأكيد ما قاله أنطونين أرتو عنه، والذي يقرب ما بينه ونيتشة: "شاعر مسعور بالحقيقة"، وذلك ما جعلني أختار "سعار الحقيقة" عنواناً لم أكتبه الآن عن لوتريامون، عبر باشلار. ذلك لأن تيمة "الحقيقية" أساسيةٌ عند لوتريامون، ولكن ليس بمعنى الحقيقة العلمية، الرياضية أو الشعرية، لكن، كما يقول باشلار ثانية حقيقة "الدوافع الأولى، بدائية الحدس الشعريّ، كونه تجلي وتجوهر باسم: "الحياة". وها أني أصل إلى لحظة ذكر ما كتبه البيير كامو عن "أناشيد"، في "الإنسان المتمرد": لقد وقع لوتريامون في "إغواء العدمية"، وعن "قصائد" "مجانيات مُتعبة"، و"عدم امتثالية مُملة" وحتى "عبودية ثقافية"! تلك هي وجهة نظر كامو "المرهف" و"العادل"، كامو "إذا خُيرت ما بين الحقيقة وأمي، سأختار أمي"! ذلك لأن كامو، مهما كان نبله، حرقته، ومواقفه الحساسة حيال الأحكام المسبقة، يظل، في مطلق الأحوال، بعيداً عن الأصابة بنفس "سعار" لوتريامون. غير أن ردّ بريتون الصاعق على كامو وعلى كتاب سارتر "بودلير" لم يتأخر كثيراً: "لا يمكن للمرء المبالغة بسخطه من أولئك الكتاب، الذين يتمتعون بشهرة شعبية، والذين يحطون من أولئك الكتاب الأكبر منهم بألف مرة". في النهاية، لا بدّ لي من القول بأن موريس بلانشو كان أول منْ أكد بوضوح تام على أنّ: "الشخصية الرئيسية لـ "أناشيد" لوتريامون هو القارىء، وتصبح القراءة لوتريامون ذاته، وهو يروي قصة مغامرته الصاعقة. هناك "منطق صارم" في دياجير الشر "Mal.

الآن وقد أنهيتُ ترجمة كتاب باشلار "لوتريامون"، وفي الوقت الذي آمل فيه أن يطّلع عليه القراء العرب، لن تبقى أية أهمية لما يقوله مترجمهُ عنه، إنْ كان ذلك يتعلق بقرب أو بعد وجهات نظره من وجهات النظر المطروحة في الكتاب، أو عن الصعوبات التي صادفته اثناء الترجمة!
ومع ذلك، ينبغي عليّ إضافة كلمة أخيرة: كتب غوستان باشلار كتابه "لوتريمان" بعد كتابه "التحليل النفسيّ للنار" بفترةٍ قصيرة، وهنا ليغفر لي القارىء العربي، إذا ما حاولت أن أسرُّ له بأهمية التخلص والتحرر من تلك التصورات القديمة والتي ما زالت حيّة في وجدان الكثير من قرائه بالفرنسية: الإعتقاد بأننا نعرف جيداً المرتكزات الفلسفية والإبستمولوجية لبشلار: هناك، من جانب، الفنومنولوجيا، ومن الجانب الآخر، التحليل النفسي الكلاسيكيّ! قد يكون الحديث عن "منهجية" باشلار هذه صحيحاً، حينما يكتب عن الظواهر الطبيعية (النار، الهواء، الأرض، الأحلام، الشمعة)، لكنه لن يكون بمثل هذا الحصر والصحة، عندما يكتب عن مبدع، بقامة، عبقرية وصعوبة لوتريامون.


 من الواضح أنّ أمرَ تخلص القارىء من تلك التصورات أو الأحكام المسبقة عن باشلار لن يُفسد عليه قراءته ولن يثقل عليها بأي ثقل، لكنه، على العكس من ذلك تماماً، سيفتح له الباب واسعاً للتمتع برؤية وتدفق لغة باشلار "الشعرية"، إلى جانب تحاليله الثاقبة والمرهفة، إنّ كان على صعيد السايكولوجيا، البيولوجيا، السيسيولوجيا، التحليل النفسيّ وغيرها، أو فيما يتعلق بالنقد الأدبيّ. تلك هي الملامح التي منَحت المترجم متعة خاصة أثناء عمله، والتي يأمل أن تكون قريبة من متعة القارىء العربي... المطّلع!


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق