ترجمة: سعيد بوخليط
يمكننا أولا وقبل كل شيء تمييز ـ دون مساس بالتصنيفات
القابلة أكثر للتأويل ـ نوعين من الأولياء في الإسلام : الأولياء
"الشعبيون"، هم بالأحرى أصحاب مظهر فولكلوري. ثم، الأولياء
"الموقرون" أي ما شكل موضوعات لتاريخ القديسين. يتأمل الاثنان، إذ
توخينا الإيضاح، فكرة القداسة بمختلف مستوياتها.
يتموضع ضمن الصنف الأول، أغلب هؤلاء الذين نراهم داخل
الأقبية في كل مكان بإفريقيا الشمالية وكذا باقي البلدان الإسلامية. لا يمثلون،
أحيانا إلا أسطورة محلية.؟ أساطير، هي
بشكل عام روتينية بما يكفي بل تافهة. تنطوي على قيمة فولكلورية جلية وأحيانا شيئا
ما أكثر. هؤلاء الأولياء، مثلما الشأن مع أوليائنا بمنطقة بروتون Breton وبروفانس Provence ، حقيقتهم فقط تاريخية يصعب للغاية تناولها. صورتهم نموذجية جدا.
يتم، تقديمهم خاصة كصانعي معجزات غير قابلة للتصديق قدرما يمكن ذلك. يقضون وقتهم
تحليقا في الأجواء، أو يندفعون فوق المياه ممتطين سجادة للصلاة. ينزلون قطرات
المطر، ويتسببون في الزلازل الأرضية والعواصف، هكذا، حينما قام شارل كوين بعملية إنزال لمواجهة حسين داي، وأخذ جنوده إلى
الإمبراطور القوي. فقد ضرب سيدي الوالي دادا البحر بعصاه، التي لازلنا نعثر عليها
بالمقربة من قبره، أبادت العاصفة نصف الأسطول الإسباني، اضطر معها الإمبراطور ركوب
البحر ثانية.
I ـ هناك معجزة ومعجزة :
لا
شخص ملزم بتصديق هاته المعجزات التي نسميها : كرامات أو كاريزمية. حتى نميزها عن
المعجزات التي يبين من خلالها الأنبياء صدق رسالتهم. يتبلور نوع من الارتياب، إلى
جانب عشق قوي للخارق. يحكى بأن الحلاج، رفع يداه نحو السماء وانتزع تفاحة أعطاها
للحضور. توجد دودة داخلها، لاحظ باندهاش أحدهم. لقد أخذت شيئا من الفساد، وهي
تنتقل من المملكة الأبدية إلى ميدان الاحتمال، أستدرك الحلاج بسرعة : جواب آثار
الاندهاش أكثر من المعجزة، يقول كاتب السيرة.
ليس
المعجزة هي المهم، لكنها الحكاية والرواية، التي تمثل في الآن ذاته عملا فنيا
وإشارة عن نوع من الحقيقة العليا، البعض من تلك الأساطير الشعبية، يخفي في الواقع
درسا روحيا ساميا.
يمثل
التنافس بين الأولياء موضوعا معتادا، بالنسبة لتاريخ القداسة الشعبي، ولا يمكنه الانزياح عن ميدان
الفولكلور والرمز. مثل ذلك حكاية، سيدي عبد الرحمان مع الولي الوهراني سيدي محمد
بن عودة مروض الأسود (أتباعه طافوا بها زمنا طويلا، مدجنة ومقدسة)، يقودنا عبثا
إلى تأمل تفاهة الخوارق، التي اعتبرها دائما جل المتصوفة الصادقين، المسلمين منهم
والمسيحيين، وقائع ثانوية، إن لم تكن عراقيل أمام المسار الروحي. هكذا أتى سيدي
محمد بن عودة على ظهر أسد، مزهوا جدا، كي يرى سيدي عبد الرحمان، ومتوخيا إذلال
كبريائه.
ـ
أين يمكنني مرافقة أسدي ليلا ؟ مسائلا مضيفه.
ـ
إلى الإسطبل، مع البقر.
حينما
أوى إلى منزل سيدي عبد الرحمان، وجده الوهراني برفقه فتيات جميلات، فأبدى بعضا من
الاستغراب.
ـ
ندرك بالأحرى الحضور الإلهي، يقول سيدي عبد الرحمان، بين الأقراط والضفائر، أكثر
من قمم الجبال.
في
اليوم الموالي صباحا، أراد بن عودة المغادرة. بالتالي، قصد الإسطبل لاسترجاع
دابته. لم يكن الأسد هناك : فقد أكلته البقرة.
الحكاية
التالية ، هي تلوين لموضوع صوفي متداول كثيرا من فارس القديمة إلى المغرب، ونجدها
ثانية في اعترافات جان جاك روسو.
روي
بأن سيدي عبد الرحمان، اعتاد على ركوب أمواج البحر إذا كان هادئا، على سجادة
للصلاة متوجها إلى أطراف الجزائر. ذات يوم، التقى على الشاطئ راعيا فقيرا، يلعب
بمزماره الصغير، وبسبب تماهيه مع لحنه، لم يسمع تحية الولي. الراعي وعد نفسه
بالغناء ثلاثة أيام متتالية، إذا منحه الله الطفل الذي ينتظره منذ مدة طويلة.
تحققت أمنيته، فأخذ يغني طيلة أربعين يوما، ابتهاجا وتشكرا. اشمأز سيدي عبد
الرحمان من الناي، آلة الشيطان حسب بعض التقاليد، التي خففت من قلقه الأزلي وهو
يئن بين عشب البرك. لقد أقر بسخافة مثل هاته الطريقة، لإبداء الشكر لله : "لا
يقبل الإله ولاءات على هذا المنوال. سأعلمك، شيئا يجعلك قريبا منه". هكذا،
لقن الراعي الفاتحة وشعائر الصلاة، ثم ركب البحر ثانية على حصير، وسار فوق الماء
نحو عمق البحر.
اجتهد
الراعي في استظهار الصيغة التي تعلمها. اختلط عليه الأمر، فنسي آية. وهو لا يسمع
إلا حماسه، تعقب الولي كي يلتمس منه إعادة تذكيره، ثم ها هو يسير على البحر.
الولي، العارف كان في حاجة إلى سجادة كي يتماسك بشكل خارق فوق الأمواج، الأمي يسير
عليها بأقدام حافية. فهم سيدي عبد الرحمان الدرس ثم قال للراعي الأمي، صاحب النية
الطيبة، مستشهدا بأولى أحاديث صحيح البخاري :
ـ
استمر، يا أخي، في العزف له. إنما الأعمال بالنيات.
نعثر
ثانية على نفس الفكرة بين ثنايا وقائع صغيرة، تحكى بالمغرب :
أن
زنجيا فقيرا، لم يتمكن قط من تعلم الصلاة. كان ينشد كل يوم ببوقه على الشاطئ،
وحينما يأتى المساء يقول : "كل ما صنعته بآلتي طيلة اليوم، من أجل
الرب". ولي، يشق الماء على متن سجادته للصلاة، علمه أولى الآيات القرآنية.
اجتهد الرجل كي يصلي شرعيا، ثم ركض فوق المياه توخيا لكلمة نسيها : "استمر
مثلما في السابق، خاطبه الولي، أنت أكثر قربا من الله مقارنة بنا جميعا".
أما
"لالة ميمونة"، المتواجدة في مناطق مختلفة من المغرب الأقصى، فهي امرأة زنجية
معوزة طلبت من قائد تلقينها الصلوات الطقوسية. عجزت عن تذكرها، لذلك ركضت خلفه وهي
تسير على المياه، ثم نسيتها مرة ثانية مقتصرة على تكرار : "ميمونة كتعرف
الله، والله كيعرف ميمونة". وفي مدينة فاس، حينما يكون الطفل صغيرا جدا،
بخصوص تأدية صلواته فعلا، فإنهم يقولون : "اتركوه في سلام، الله يعرف لالة
ميمونة، ولالة ميمونة تعرف الله".
نفس
الفكرة، نجدها ثانية في الملحمة الصوفية لجلال الدين الرومي، مؤسس حركة الدراويش،
حينما استنكر موسى كيفية صلاة راع جاهل، فيعطي الله نبيه درسا في التسامح : لكل
واحد طريقته في التعبير. جميع هاته اللغات غير ملائمة تقريبا، المهم يكمن في الصدق
واحتراق القلب. كذلك في "صحبة الأبرار" للجامعي، فارسي سليم النية، يكرر
باكيا أقوالا عربية دنيوية، يأخذها
كصلوات، ولا يفهمها قط. إلا، أن هاته الترهات المروية بخشوع وصدق، تنطوي
على قيمة الصلاة : "بهاته الطهارة المطلقة، فقد بلور الخيمياء الذي سيحول
نحاس قلبه".
فضلا
عن ذلك، يقوم تبادل بين صنفي الأولياء الذين نتكلم عنهم. بعض الأولياء العارفين، كما هو بالضبط سيدي عبد
الرحمان، مؤلف أعمال كثيرة لاهوتية، يمثلون أيضا أولياء، نسجت حولهم حكايات
فولكلورية.
يتميز
الأولياء الشعبيون، أولا وقبل كل شيء بكونهم مكتشفين لقوة غامضة. يجمعون البركة،
ويمنحونها بداهة لفائدة مريديهم، ثم يؤذون بها أعداءهم. طبعا، تتصل هاته القوة
بالله ويظل ارتباطها بالإيمان التوحيدي، قائما. لكن ممارستها، تصدر إراديا من قبل
الحائزين على هذه القوة، كما لو انبعثت من ذواتهم. كذلك مسألة، عبادتهم حاضرة. هنا
أيضا، من الضروري استحضار الأولياء القدامى ببوادينا وكذا مدننا حيث تملأ فضائلهم
المتميزة مؤلفات مجموعة من الباحثين في الفولكلور مثل : "Sébillot"، "Saintyves"، وكذا آخرين.
2
ـ الأولياء الشعبيون وقابلية التأثر :
مثل
الحديد، النار، الضوء، أي كل ما هو فعال. فإن، قوة الولي الصوفية
"البرهان"، مزدوجة. تحفل سير القديسين المسلمين مثل المسيحيين بحكايات
اللعنات التي تصدر عن الأولياء، سواء لمعاقبة شر الأفراد أو الانتقام بعد إساءة
شخصية. في الواقع، أخافنا الولي باستمرار أكثر مما أحببناه، أو بالأحرى نحبه ونحن
نرتجف كليا. حدثني، أحد المغاربيين الشرفاء ، بأن عدوا عارضه لسنوات، التمس منه
أخيرا العفو خوفا من سوء العاقبة، إلا أنه نظر إلى الأمر بنوع من الارتياب.
بسهولة،
يصير الأولياء الشعبيون قساة، يغضبون بسرعة، مفرطون في الحساسية ثم حاقدون مثل قوى
الطبيعة التي يصعب فهمها انطلاقا من نظرة خاطفة على قوانينها. يعاقبون بشدة
المخالفات والإهانات ،حتى ولو كانت بسيطة. لا يتحملون كثيرا المعارضة أو المقاومة،
يحدثون الكوارث دون أدنى تفكير. باختصار، يبدو أنهم يتصرفون بطريقة تتنافى تماما
مع تلك التي للولي الحقيقي، حيث قاعدته الأولى "مخالفة النفس" حتى يصمد
أمام شهواته. النباتات ذاتها، لا تخرج عن القاعدة أكثر من شجرة التين الواردة في
كتاب الإنجيل. فقد سافر الحاج داخل صندوق على ظهر بغل. عرقلت، أغصان شجرة الزيتون
الصندوق مما دفع الولي الصالح إلى لعن الشجرة، فجفت. سيدي عبد الواحد، يمسخ،
أعداءه إلى حجر. سيدي بلعباس وسيدي الهواري، سلما سبتة ووهران إلى الكفار.
مثل
المسيح والقديس بيير Pière، في الأسطورة وعلى امتداد أزقة فرنسا، يغدقون الحسنات والعقوبات،
بناء على كونهم استقبلوا بشكل جيد أو سيئ. يعمل الأولياء على تفجير أو تجفيف
الينابيع، يحولون مجاري المياه، يتسببون في الانزلاقات والهزات الأرضية.
ليس
من السهل دائما معرفة ما يثير غضبهم. فقد أصبح شخص ضريرا، لأنه دخن تحت شجرة
المرحوم "سيدي العريفي". يكرهون المنافسة. حتى، وهم أموات، يشعرون
بالغيرة مع تواجد قبر أكثر جمالا من قبرهم. وهم، أحياء يستحسنون مجيئ زميل لهم.
لقد منع سبعة رجال (مراكش) سيدي رحال من الاستقرار بالمدينة، وسيدي بلعباس الذي
أصبح قائدا لهم لم ينجح في سبيل ذلك إلا بعد خصومات بطولية مع الولي
"مو-القصور". تيمة أخرى، متواترة عند السيرة الفولكلورية للقديسين،
يتعلق الأمر بالمنافسة بين الأولياء الذين
يتصارعون اعتمادا على شرارة المعجزات، وكذا التكهنات المتبادلة المزعجة تقريبا.
أخبر
"سيدي علي بونابري" ، الولي "سيدي علي بن موسى فونوس" من
"معتقة" Maatka بمنطقة القبايل ، بأنه سيخنق من قبل أقربائه. فتنبأ له الأخير بدوره، بموته بين الثلوج والتهامه من قبل ابن
آوى. أما، سيدي أحمد بن يوسف، فقد التقى عند "بني مناصر" قاطع الطريق
"سيدي سماعين" ، الذي صار وليا فيما بعد، فتوقع له صادقا دفنه في مزبلة
لليهود (يبدو بأن محرابه شيد على أرض استخدمت قبل ذلك مستودعا للقاذورات)، فأجاب،
بأن "سماعين" سيعيش في بلد حزين
ومضر (تقوم قبته في زاوية متوحشة من الجبل).
هاته
الحكايات الأسطورية أو الفولكلورية، المختزلة غالبا لتفاصيل حقيقية، تتطابق
بالتأكيد بمعنىما مع مفهوم الولي كوعاء لقوة شبيهة بالضوء وكذاالحمولات الخطيرة.
مفهوم،يمثل أحدى التجليات المبتذلة لفكرة القداسة. لكن، هنا أيضا قد يحيل الفكر الشعبي،
من خلال عا مل خارجي فظ، على حقيقة أكثر
عمقا، ليس لأن اللعنة يمكنها التأثير مثل الطب وتقدم في نهاية المطاف نتائج
جيدة. لكن كذلك لأن سلوكات الخدير (القرآن 64-81) التي أ ثا رت موسى، هي حقيقة
حكمة عليا ومعرفة أكثر اتساعا.
3
ـ شفاعة القديسين والأضرحة :
حتما،
هؤلاء الأولياء الشعبيون قديسون محليون. يشغلون فضاء محددا، أحيانا ماديا، بأكوام
الحجر، حيث يمارسون إشعاعهم . فكل قرية، تسعى الى ضم القديس الأكثر تميزا، بحيث
تتبارى الأساطير محيطة إياه بالخارق، مكررة باستمرار كمصدر أساسي للحكايات الرغبة
في التفوق على الجار. من المهم جدا، بالنسبة للقرية التوفر على ولي صالح. ونعلم
أنه في البنجاب إذا افتقدت منطقة ما لولي : تتم استضافة ولي من قرية مجاورة، ثم
يقتل ويدفن حتى يضمن خلو د ه با لبلد وبالتالي حمايته له.
دور
القائد هذا يعطي أهمية كبرى للضريح. كل قبة تصبح مركزا صغيرا أو كبير للحج،
والثابوت (ضريح، مثوى، نعش) موضوع إجلال، يجده ذوو النزعة الصفائية مبالغ فيه.
كذلك خلال العصر الوسيط المسيحي، كان هناك تنافس على شراء رفات القديسين بثمن غال
جدا، بل وسرقتها.في إفريقيا، يتقاتلون بسبب أجساد الأولياء، المثال الذائع الصيت،
هو المرتبط بسيدي محمد بن عبد الرحمان صاحب القبرين، والذي من أجل إرضاء الجميع
دفن في الآن ذاته ب بلكورت "Belcourt" و
"القبايل".فقد سرقوا جسده ونقلوه إلى الجزائر. لكن الأهالي، رفضوا
التخلي عنه. يتم الاتفاق على حدوث معجزة وكذا الحضور الآني للجثة في أمكنة مختلفة
"والله أعلم".
نعثر
على تواريخ مماثلة في أوروبا واليونان القديمة ، أبطال توفروا على أضرحة متعددة
مثل المراقب "بوزنياس" Pausanias.
يمكن
أيضا تأويل هذا التأجير المزدوج أو المتعدد، باعتباره دالا على إشعاع روحي. الجميع مثلا، يعرف بأن سيدي عبد
القادر الجيلاني ، دفن ببغداد. ثم، لا واحدة من القبب العديدة التي خصصت له
(لاسيما في وهران)، ولو تضمنت نعشا، فهي لا تحتوي على جسده، إنها أمكنة وليست
أضرحة. فهم، لا يعلنون أكثر من كون سيدي عبد القادر وصل إلى هنا، مر من المكان، أو
استراح هنا. ما يفترضه الأمر من رؤى وإلهامات، قد يكون أيضا موازيا لتطور الرابطة المستندة إلى قطب
الأولياء.
كما
سنرى، بديهي إذن الدور الاجتماعي للشعائـر
الدينية عند القبيلـة، والعشيرة. ثم، هاته الشخصيات حينما يكون لها وجود تاريخي.
يتمظهر حتما كثير من التعسف، لكن أيضا فوائد شتى، وعظ، تلقين ثم نزاعات هادئة.
استجمعت من "ميشلي" ، مقاطع شعرية "قبايلية" تقدم فكرة عن
مفهوم الولي في هذا البلد، يتعلق الأمر بولي مات سنة 1901. يستفسر إخوانه عن
الأولياء، فيجيبه أتباعه بمقاطع :
"أين
هم الأولياء ؟ الأولياء في الجبال يحرسون ويرعون البلد بنظراتهم دون احتقارها. ما
إن يلاحظون ظلما، حتى يسعون إلى إزالته".
ثم
يجيب الشيخ مهند آل الحسين، مشيرا إلى الجانب العملي للمزارات، وكذا قيمتها
الصوفية :
"أين هم الأولياء ؟ يتواجدون في منازلهم،
منشغلون بالحرب المقدسة الكبرى (ضد الأنانية). إنهم يحرثون، ويوفرون حاجيات عائلاتهم. آه يا إلهي
الرحيم ! ألتمس منك مساعدتهم".
الوفي
الأكثر تحمسا، يدرك كيفية القيام بالتمييز بين النقد التاريخي ثم ما هو ورع ، وشعر
أو رمز. قد يتحرك، فكره وفق محورين. بقدر وجود أشخاص ومع الحضارات الأكثر انتقادا،
تنسج حكايات عن الجنيات، بل وأحيانا حول ولي صالح لم يوجد أو داخل فضاء للحج يتأسس
على أسطورة يؤمنون بها دون إفراط بحيث يمكن للجماعات والأفراد الدخول في تماس مع
حقيقة، يستحيل التعبير عنها. بطرية موازية، حسب
"جوزيف دو ميستر" فإن السلالات الحاكمة الأكثر شرعية جاءت نتيجة
الاغتصاب.
4
ـ التخلي عن الكاريزمية :
على
النقيض من الأولياء "الشعبيين"، لا ينفي الأولياء "الموقرون"
المعجزات أو يحرمون ذواتهم من الحاجة إليها.
فقط، يموضعونها في مكانها. يتخلون عن الكاريزمية، لاقتناعهم بأن الظواهر
والنعم الملموسة، ليست بجوهر للحياة الصوفية. بل أشاروا بنوع من الدعابة، أو تلك
الدعابة المقدسة عند الأب "بريمون" إلى خواء وخطر المعجزات.
الولي
"جنيد" ، الأستاذ الصوفي ببغداد والذي يحكى عنه تحليقه في الأجواء، قال
: "من المؤسف أن يبذر الإنسان الناضج وقته في مثل هاته التفاهات". أما
"النوري" فقد امتنع عن استثمار معجزة، كي يجتاز، مفضلا دفع النقود لتأدية ثمن المعبر.
ليس
ببعيد عنا، فإن الولي القبايلي الشيخ مهند آل الحسين المتوفى سنة 1901 ب "Taka"، رأى ماء منبع يتحول إلى ذهب ثم لحم جاف. قال : "أعطني
الماء لكي اغتسل. هذا العالم، فقط للمظاهر الزائلة". وقد أخبرني أحد وجهاء
الموزابطيين، بأن أحمد التيجاني المشهور،
هو أصلا أباضي (حقيقة فاجأت اتباعه). كان قد طرد من الطائفة بالتبرء منه (الطرد)،
لأنه قبل الانفتاح بشكل مفرط على المعجزات مما أفقده الرصانة.
القشيري
مؤلف إحدى أقدم الدراسات الصوفية الأكثر جدية وتأثيرا، أكد على حاجة الأنبياء
للمعجزات كي يعطوا الدليل على رسالتهم، بينما الأولياء غير ملزمين بذلك وعليهم
بالأحرى السعي إلى إخفائها. الملكات الخارقة (الكرامات)، المميزة لهم، قد تقنع
المريدين وتساعدهم على التمييز بين ولي ودجال. الولي الحقيقي غير ملزم، حتى بمعرفة
إذا كان كذلك. إذا لم يرهبه الانخداع، فهو بالتأكيد منخدع، يقول السيوطي. لا يمكن
تسمية رجل بالولي قبل موته، وأفضل الدلائل عن قداسته الإنجاز الصادق لواجباته،
رأفته بكل المخلوقات، تحمله لكل الإهانات، ترفعه عن مختلف تجليات فكر الكراهية
والانتقام واللامبالاة، وأن يكون حليما
ساعيا إلى السلام الكوني.
أغلب
الحكماء، يقول السراج خافوا من المعجزات، ونظروا إليها كمحاولات لا تمت بأية صلة
للأولياء الحقيقيين الذين يزعجهم ذلك. ألم يقل أحدهم بأن تساوي النفس أمام
الاختبار كان أكثر إدهاشا من صنع المعجزات. وقد كرس صاحب كتاب "الأمة"
فصلا للحالات المعتادة التي هي بالضرورة أكثر تميزا من عطاء المعجزات : "إذا
رأيت أحدا يحلق على بساط فوق الأجواء أو يمخر عباب المياه. فحري بك، أن تفحص إذا
كان يؤدي واجباته. فالأسماك والطيور، تقوم بذلك". كما يقول البسطامي، الذي لا يعير أي اهتمام
للكاريزمية، بعد أن شكلت مجال اهتمامه مع خطواته الأولى في هذا الطريق. هاته
المزايا الاستثنائية، أكثر نفاذا من بين التوهمات التي كشفت عنها الإشراقات
الصوفية، يؤكد أستاذ قديم آخر. إنها، يقينيات العقول الضعيفة، حيث يقارنها
"الساهل التوستاري" بالألعاب الممنوحة
للأطفال الصغار قصد منعهم من البكاء.
إن
التوجه إلى الله، حسب أبو العباس المورسي، أحد مريدي الطريقة
"الشادزيلية"، والابتعاد عن الخطايا بأقصى سرعة، أفضل من قطع المسافة الفاصلة بين المغرب ومكة برفة
جفن.
مولاي
عبد السلام الذي أفصح لتلميذه "الشادزلي"، عن ارتيابه من العذوبة التي يجدها وهو مستسلم للإرادة
الإلهية، فقد رفض طلب الغيث احتراما للنظام الكوني.
تتمثل
المعجزة الحقيقية في "أن تحل صفة محل خطيئة".يشبه، التطابق مع الإرادة
الإلهية "حربا مقدسة كبرى" أي الصراع ضد النفس الدنيوية. لكن طبعا، لا
يجب أن ننسى ونحن نؤول هاته السير الذاتية المحشوة بحكايات ذات قيمة متفاوتة،
التأثير النافذ لشخصيات قوية. بحيث تستبعد وجهات نظر ها الشخصية، ثقابة الرؤى ما
فوق الطبيعية المطهرة حقا، لنتائج اختلاط معقول جزئيا بين الموضوعي والذاتي،
"الرموز" التي يقف عليها فكر ملائم بين وقائع وتمظهرات العالم ثم
"القوى" ذاتها المتجلية مع بعض مراحل النمو الروحي، حيث يجدر بها أن لا
تتوقف.
لقد
أوضح الأب "أسين بالاسيو "، مشددا ربما بشكل زائد عن دور التبادلات في
هذا الإطار. لقد خضع المتصوفة المسلمون الأوائل، لتأثير الناسكين المسيحيين طيلة
قرون عديدة بعد ذلك. كما تمثل المتزهدون الإسبان فكر المتصوفة المغاربة ولاسيما
المدرسة الشادزيلية، حيث كانت إحدى مبادئها الأساسية بالضبط التخلي عن الكاريزمية
بل التسليات الروحية.
5
ـ طبقات الأولياء :
يتوزع
الأولياء وفق نوع من التراتبية تظهر مختلف درجات أو مناحي الحياة الروحية. نميز على سبيل المثال بين الزهاد،
الورعون، المعوزون، المتنكرون، الذين يرفضون قصدا الإفصاح عن هويتهم. بل منهم، من
سعى إلى إساءة فهمه كما هو حال القديس "فيليب دونيري" .
في
أعلى السلم، يتموضع المتصوفة بالمعنى الحقيقي للكلمة، عارفون بشكل مطلق حققوا
الامتزاج، لكنهم يظلون واعون بتوجيه باقي الناس باعتبارهم شيوخ مرشدين. هناك أيضا
المجاذيب، والذين كانت لنا باستمرار الفرصة كي نلتقيهم وهم منغمسون كليا في
"الجذبة"، إلى حد أنهم يصبحون مجرد ألعوباتها المنقاذة. نعطي هذا الإسم
سواء إلى ترميزات حقيقية ذات اندفاعات غير مضبوطة أو تلك العقليات البسيطة.
نصادفهم في الشوارع يتسولون، يأتون عندك تحت مبرر طلب الصدقة أو الضيافة، بعدها
يغادرون تاركين رسالة لا يفهم مضمونها إلا بعد فترة طويلة من رحيلهم. يجتمعون
أثناء بعض الاحتفالات مثل موسم مولاي إدريس زرهون، حيث يكشفون عن المستقبل.
نعثر
من جهة ثانية على تراتبية مضمرة، تتضمن مع بعض التغيرات علاوة على 4000 ولي مختفي
"ملح الأرض". 300 من الأخيار أو النقباء. 40 أو 70 من الأبدال. 7
أبرار، يتطابقون مع المناخات السبعة. ثم
أربعة أوتاد تحيل على الجهات الأصلية : قطب، غوث، والذي يأخذ على عاتقه الجزء
الكبير من آلام الأرض.
6
ـ ديوان الصالحين :
يتبلور،
هذا المفهوم الصوفي والتيوصوفي، في الأسطورة الشعبية والفولكلورية من خلال ديوان
الصالحين "مجموع الأولياء" يجتمعون سرا ببعض الأمكنة المعروفة أو
المجهولة، قصد التفكير في شؤون العالم ومصائر المنتخبين المختارين منذ الأزل. توصف
أحيانا طقوس هاته الاجتماعات كما لو كنا حاضرين أثناء ذلك. هذا يؤدي إلى التفكير
أحيانا في التجمعات الأولمبية داخل هومير Homére والأغارتا l'Agartha
بمنطقة التيبت، ثم مجالس الشيوخ بالقرى المغربية، مع فكرة مضمرة بخصوص
انعكاس العالم السماوي وكذا قوة حادسة.
يوضع
أحيانا "خيدر" على رأس الهرمية الصوفية وحينما يموت يخلفه الملقبون ب
"الغوث" . وقد يحل محله قطب مكة.
ببداهة "الخيدر" الحي، ليس إلا بديلا أرضيا عن "الخيدر"
الميتافيزيقي. "الخدير" قوة
روحية يعيش حياة فوق- إنسانية، وقد شرب من منبع الخلود، يظهر للمختارين كي يلقنهم
بشكل مباشر، كما فعل مع موسى "عند ملتقى البحرين" يقابل بين البراني
والجواني.
سمع
أحد أصدقائي حكاية مغامرة، عاشها منذ ما يزيد تقريبا عن خمسين سنة، أحد الأحياء
كان يشغل عميدا لجنود مجموعة مشتركة بمنطقة "جبل عمور" ، على الطريق
الرابطة بين "أفلو" و "إنفوس" ، عند أولاد "ياجوب
الغابة" بالقرب من ضريح مشترك، شيد بين سيدي عثمان وسيدي خالد : "كنت في
السادسة أو السابعة من عمري. مرة، وأنا أتجول في الحقل شاهدت راعيا يواجه صعوبة مع
قطيعه. اقتربت منه واستفسرته عن إمكانية مساعدته. كلفني بالتوجه نحو مزار تتواجد
به بعض النعاج الشاردة والعودة بها إلى باقي القطيع. حينما وصلت بالقرب من الضريح،
أثارت انتباهي أصوات تنبع من الداخل. اقتربت، وألقيت نظرة خاطفة من الباب الكبير
المفتوح، فماذا رأيت !
ـ
"مجموعة شيوخ كهول، يرتدون ألبسة مثيرة للاستغراب كثيرا، تتميز كليا عن ما
يرتديه أفراد المنطقة. كانوا ستة أو سبعة يستظهرون آيات قرآنية وينشدون الصلوات.
الشيخ الجالس أمام الباب، له ملامح شخصية
محترمة جدا من قبل سكان المنطقة يشبه الباشا آغا الصحراوي في اللباس، غير كونه
يرتدي عمامة بيضاء وقفطان أصفر. لحية، بلون أسود براق ترتسم بطريقة ساطعة على بياض
جلباب مغربي.
"توجهت
بالتحية إلى كل الجماعة، ولعدم إمكانية توقفهم عن صلواتهم فقد ردوا عن تحيتي
بتحريك الرأس. الوحيد، الذي منحني بعض
انتباهه، هو الجالس بالقرب من الباب. ثم، أدار ظهره، لكنه بين الفينة والأخرى ينظر
إلي ويبتسم بطريقة أكثر غرابة من حضوره إلى هاته الأمكنة حيث لا يأتي للاستجمام
فيها غير سكان المنطقة. كانت سحنته صافية بلون متميز، لحية طويلة بيضاء، تشبه تلك
التي لشيخ جليل، يرصعها بعض الوبر الأسود. تخفي كل البطن، ولا تهمل إلا صدرية
وقفطان أخضر. يلف معطفا أخضر طويل. وحدها، العمامة الصفراء التي تغطي الشيخ
الأبيض، تختلف عن هذا التماثل اللوني. على العكس منه، فإن الآخرين يرتدون قفاطين
صفراء.
"انتظرت
لحظة ليست بالقصيرة، وأنا آمل أن يتوجه إلي أحدهم بالخطاب، لكن دون جدوى.
((خيرا،
قلت في قيرورة نفسي، ربما مجموعة من "الطُلبة" المغاربة، والذين جراء
تعبهم بعد المسافة الطويلة التي قطعوها، فضلوا أخذ قسط من الراحة في هذا المكان
المقدس، ولا يستأنفون سيرهم إلا بعد استراحة جيدة، ثم التوجه بعد ذلك للحج
بالزاوية التيجانية ب "عين مادحي" ، كهدف لسفرهم.
"بعد
أن عللت الأمر على هذا المنوال، ابتعدت عن المزار كي اهتم بالنعاج التي أتيت من
أجلها إلى هاته المناطق لكنها لم تنتظرني لأعمل على ضمها للقطيع. وأنا على بعد 200 متر من المزار، لم أعد
أسمع تلك الأصوات قط. بكل بداهة، رجعت فكانت دهشتي كبيرة حينما رأيت طيور
"ترغلة" تخرج من المزار وتحط فوق قبة وشجر عرعر ينبت بالحواشي بعد أن
خفقت بأجنحتها في زرقة السماء.
اقتربت
مرة ثانية، وألقيت نظرة في الداخل، فكانت دهشتي كبيرة وأنا ألاحظ اختفاء الشيوخ
الذين لاحظت على التو حضورهم صوتا ومشاهدة)).
"كيف
يمكننا تأويل ظهور كهذا، توجهت إلى الحاج "عيسى" بـن عمـار
الغيشاء" ، رجل ولي ينتمي إلى المنطقة، والذي بعد أن استمع إلى الحكاية في كل
جزئياتها قال لي بأن الله وأوليائه، عملا على حمايتي. بالتالي، لن أدخل إلى جهنم
أبدا. غادرت وأنا مطمئن، واثق كليا في المستقبل. منذ ذلك الوقت، قادت هاته الرؤية
كل مرحلة مهمة في حياتي.
عن
بعد كيلومترات من مدينة "chréa" الجزائرية وسط أطلس "البليدة" ، يقوم موسم للحج
أثناء فصل الربيع، يضم مختلف أقسام قرية "سيد الكبير" على ارتفاع 1500
متر، داخل غابة للأرز تطل على واد يصعب الوصول إليه، تنتصب صخرة النمر Tazeroughilasse، حيث نتحدث عن أربعين وليا :
"أيام جد جدي، يتحدث أحد الحجاج كانت تسمع أصوات غريبة مرتلة في هذا المكان :
لا إله إلا الله ... ، ثم نفهم ضرورة تهيئ وجبة سنوية. في إحدى المرات، مع الحرب
تهاونا في القيام بذلك. فاجتاحت موجة بَرَد الزرع. يجتمع هنا، أولياء الديوان ويأتون في شكل طيور.
لأن الأولياء ينظمون أشياء هذا العالم، فهم يعطون أمثلة ونصائح جيدة. اليوم، نقف
على حاجة خاصة إلى صنيع الأولياء. هناك دائما الأولياء، بالتأكيد : القطب، الغوث
والآخرين المختفين".
7
ـ الولي، الصالح، الصديق :
بصفة
عامة، الولي هو القريب من الله، اشتقت الكلمة
من الأصل "ولاء"، أن تكون قريبا. في التداول العادي، يعني
الحامي، الصديق، الحاكم. الولي، الصديق، إحدى أسماء الله. "الله صديق
المؤمنين" (القرآن)، يتكلم القرآن أيضا عن أسماء الله. الولي أيضا هو الصالح،
الطاهر، الصديق، العادل، العارف بالله، من يعرفه الله، ولا يمكننا إدراك الله إلا
من خلاله.
التعابير
الموظفة كي نستشهد بالأولياء، تعتبر دالة. نقول مثلا في اللغة الجارية، بعد النطق
باسم ولي ما: نفعنا الله ببركاته.
في
دراسات سيرة القديسين، نلصق بالاسم صيغة "رضي الله عنه" أو "قدس
الله سره". هاته الصيغ موضوع تأمل، سواء نطقها عالم أو جاهل، إنها محملة
بالمعنى، وتفهمنا الجوهري بالنسبة لعبادة الأولياء. "البركة"، قد تدل عن
القوة الخارقة، فيزيائية تقريبا. البرهان الذي ننسبه إليه، ويستفيد منه المتوسل
صاحب الدعوى. شيء ما، غير شخصي، مثل تلك القوة ما فـوق الطبيعيـة عند البدائيين،
التي تعرف تحـت اسم : .le mana الدائنين، يمثل جذر العالم
الحسي، لكنه أيضا "العفو".
نتحدث
في مستوى أعلى، عن "الرضا"، هو أيضا حالة من الانبساط، الارتياح
المتبادل بين النفس والله. كما جاءت آية من سورة الفجر : ((يا أيتها النفس
المطمئنة، إرجعي إلى ربك راضية مرضية)).
أخيرا،
"السر" الذي هو أبعد من النفس، وأكثر عمقا من الروح، إنه "حد النفس
الدقيق" لمتصوفة القرن السابع عشرة، والذي
يحافظ دائما على الاتصال، شيء من قبيل "تمعن" الهنود. أن يظهر
الله ويقدس سره ! يتماثل تقريبا مع : يتوحد به
الله، يتماهى مع وجوده ويوحده بالكون. يلج به، إلى الوجود الخالد للوحدة الأبدية.
[1] ـ Emile Dermenghen : le culte des saints dans l'islam
maghrebin, Gallimard, 1er éd. 1954 (1982), PP 11-25.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق