الجمعة، 27 يناير 2017

واقع العالم وإبستمولوجيا التنبؤ

بقلم : سعيد بوخليط


هناك معادلة،بدأت تأخذ مع مرور السنوات تعقدا وتركيبا عويصا،فشكلت استلابا للإنسانية.بحيث ،ظل الاعتقاد على الأقل قبل التطورات الإعلامية والتكنولوجية الهائلة،التي أدركها العالم مع السنوات الأخيرة،أنه كلما راكم الأفراد إبداعا وابتكارا لآليات جديدة،إلا ومنحهم المسار مساحات أخرى  للسيطرة على احتمالات العالم،وازداد تحكمهم في بنياته المستترة،بمعنى ولادة وسيط تقني جديد،سيمثل بشكل أو آخر تفكيكا لشفرة كونية.
 لكن المفارقة العجيبة،أن  هذه العلاقة التي أثبتت تجريبيتها الجادة لعقود خلت،لم تعد حاليا متماسكة بنفس القدر،وكأن السحر انقلب على ساحره بكيفية مرهبة.
هكذا، بالرغم من الانجازات الباهرة التي حققها العالم المعاصر،وفتوحاته المعرفية الكبيرة وما تجسد من ترسيخ أوسع لسيادة قوانين ومبادئ العلم،فلاشك أن الجميع من عتاة العلماء إلى أبسط المتعلمين،تبين له أن المنظومة الإبستمولوجية التي صاغت سابقا الأفق المفهومي الرصين لبنيات العلم وفق مناهج تقوم على خطوات الاستقراء والاستدلال والفرضية ثم التعميم والاستنتاج والتنبؤ وفق تعميم لأحكام عامة مترابطة منطقيا،لم تعد حاليا فعالة كما السابق نظرا للمنحى السريع والزئبقي بما يكفي،الذي أضحى يميز المجموعات البشرية بمختلف روافدها الاقتصادية والسياسية والاجتماعية. 
حتى وقت قريب بقيت المؤاخذة مقتصرة على العلوم الاجتماعية مقارنة مع نظيرتها الدقيقة،جراء اختلاف طبيعة العينة الخاضعة للدراسة.  الكائن الآدمي، بكل زخمه الأنطولوجي باستطاعته أن يسحب بسهولة عن  الحتمية المجتمعية باعتبارها مقياسا للعلم،مشروعيتها بهذا الخصوص.
وبغير الدخول في تفاصيل السجال بين أنصار علمية العلوم الاجتماعية في سياق عام هو العلوم الإنسانية من عدم ذلك، كما تبلور منذ بداية القرن التاسع عشرة مع سعي مباحث محض إنسانية إلى اقتفاء  النموذج الرائد للعلوم الطبيعية عبر آليات الملاحظة المباشرة والقيام بتجارب متكررة تبتغي التفسير قصد الوصول إلى تعميمات عامة وقوانين تحقق الانتقال البديهي من الخاص إلى العام،أشير أن الرأي الذي يدحض صفة العلمية عن العلوم الإنسانية،يستند في تبريره على تصور جوهري مفاده  تبلور الذات الآدمية بقدر عال من التركيب، يستعصي معه تحديد وحصر كل أسبابها،مادامت تتوزعها شبكة هائلة من العلاقات المتداخلة. على النقيض من الظاهرة الطبيعية، التي يخضعها إيقاع واحد يجيز لها إمكانية تقديم قوانين عامة كلية ومنطقية،فإن  الظاهرة البشرية تتمرد على كل تعميم.
هكذا فالإنسان ،قادر بإرادته المتوقدة والمتوثبة،كي يتعالى على كل شكل من التوقعات اليقينية والقوانين الحتمية،هذا ماينطبق على الاجتهادات السيكولوجية والسوسيولوجية والتربوية،ومحاولات حصرها برؤى استشرافية مستقبلية.
لقد استمر الأخذ والرد ،داخل الدوائر الأكاديمية بين مؤيدين ورافضين للارتقاء بما يسمى توافقا علوما إنسانية،إلى مرتبة العلوم التجريبية والرياضية.لب الإشكال ،يكمن في صواب علمنة الظاهرة الإنسانية أو وهمية ذلك .واقع، يتجلى بوضوح مع اجتهادات التاريخ وما تقتضيه من تطويق للممكنات، ثم الدراسات النفسية والاجتماعية.
سيقرأ الباحث المتخصص بل والمؤرخ، وثائق عديدة، ثم يتمثلها ويستوعب جيدا حيثياتها، مما يمنحه سبلا مستفيضة لتأسيس نظرية للتاريخ،لكن هل باستطاعته حقا أن يحدس بطريقة عقلانية مضبوطة ،أفقا لهذا التاريخ؟يحضرني هنا شاهد لاغنى عنه :لقد عجز المؤرخون عن ملامسة ولو من باب الافتراض،واقعة الذوبان التيتانيكي للاتحاد السوفياتي ومعه كل المنظومة الشيوعية بتلك السرعة غير المتوقعة،وبدا الحدث كأنه ومضة برق ،لاغير.
بل يجدر بنا،تمطيط مجال التمثيل لنسقط التدليل على ماعرف بالربيع العربي،والزلزال القوي الذي ضرب كياننا المتحلل.فمن هو المنظر المحنك، حتى الأكثر تفاؤلية؟الذي كان قادرا على الحلم وليس التكهن الاستراتيجي،باندحار ديناصور من حجم مبارك أو القذافي؟ثم من هي المؤسسة المهتمة بالمستقبليات، التي تداولت تخميناتها همسا أن السوريين سيخوضون في يوم من الأيام حربا ضد نظامهم الحديدي،أو أن الإسلاميين سيحكمون ذات  صبيحة تونس ومصر،إلخ.   
ماأريد تحسسه بين طيات هذه التوطئة، يتعلق بمدى قدرة التفكير المابعدي على سبر أغوار المجهول، وتأطيره ضمن خلاصات جامدة لايلفها الباطل؟بالتالي،نؤمن دائما بقيم العلم ونضعها في مقدمة معتقداتنا،أم أن المجريات خلخلت كثيرا سعيا كهذا؟.
لقد التصق الفيصل المميز بين منظومة الدول المتقدمة والمتخلفة،بمستويات استيعاب المستقبل قبل وقوعه،مما يعني أنطولوجيا هزما وقهرا للزمان وتعديما لنوائبه، بسبب اكتشاف المشكلات قبل وقوعها والاستعداد لمواجهتها. شعور،يجعل من الفرد الغربي واثقا من صنيعه وكينونته، جريئا ،مقداما،لأن الخوف من الغد وما قد يرافقه من تراجيدية المصير،يخلق عائقا سيكولوجيا أمام الإقدام على الحياة بكل انطلاق،فعلا وتفاعلا.
في المقابل،سنلاحظ في الجهة الأخرى حدة المنحى الجنائزي الذي تختزل  إليه دلالة الزمان لدى الشعوب المغلوبة على أمرها ومن بينها طبعا مجموعتنا العربية،التي لازال فهمها للغد مفعما بالغموض مسجورا بالالتباس، جراء انتفاء الاستثمار العقلاني للتفكير الاستراتجي ومن ثمة الوعي الناضج بالإشكال العلمي للعلوم المستقبلية. 
طبعا ،العلاقة بين المعطى والممكن،محض بناء منطقي ترتبط متوالياته بدرجة حضور أو غياب العناصر الخاضعة للتجربة عبر القياسات الاستنباطية، لذلك فالغد كبعد خاص أو المستقبل باعتباره مفهوما مجردا وعاما،يمثل تشكلا من خلال حدود نجاحنا في التخاطب مع واقعنا الحالي بلغة تناظرية سندها الاستيعاب ومن تم التحوير. بالتالي، نستطيع تشوف المستقبل وفق قصدية ناجعة.
في هذا الإطار،حدد المختصون في المستقبليات أهم موجهات اشتغالهم، كما يلي 1:- ضرورة استخلاص العبرة من الماضي ،عبر دراسة أهم التطورات على المستويين الدولي والإقليمي بهدف تحديد صورة مستقبلية 2-وضع تصور رياضي للمستقبل،وبناء نماذج رياضية. -3يجب على الباحث،الاتصاف بالموضوعية والنزاهة العلمية والانطلاق من مسلمات وافتراضات دون انحياز إيديولوجي أو عقائدي. 4-تحديد الأهداف اللازمة لانجاز مسار مستقبلي وما يقتضيه ذلك من تطوير للخبرات العلمية والعملية التي بين أيدينا-5.افتراض سيناريوهات مختلفة ومتنوعة، وذلك لتجنب الوقوع في الأزمات.
إذن سواء تحدثنا عن الدراسات المستقبلية، والوعي بالمستقبل والتفكير الاستراتجي والرؤية المستقبلية ثم اختلفنا في هويتها التعريفية : هي علم؟ فلسفة؟ فن؟فالمقصود في النهاية، يشير إلى التخطيط الذي يعد مدخلا للسيطرة انطلاقا من قدرة النظرية على التفسير، و إن اختلفت التأويلات بين الفلاسفة والعلماء ورجال الدين.
يظن الفلاسفة الوجوديون، أن المستقبل انفتاح للكائن على ماهياته، لأن الوجود يسبق الماهية، مما يمنحه كل الحرية والمقدرة على جعل ذاته عين ما يريده  دون تنميط ولا قولبة.أما ،رواد المختبرات والتجمعات العلمية،فيؤكدون على ضرورة كتابة الواقع بالبرادجمات والبناءات الرياضية- الفيزيائية و صياغته من جديد بالمعادلات والخطوط البيانية. بينما، ينصب اهتمام الاقتصاديين،على أرقام الإنتاج والتوزيع ومتغيرات العرض والطلب. أخيرا، الأصوليون يرفضون الأفق التخميني جملة وتفصيلا،لأن ذلك  بمثابة افتراء على الغيب والإنسان  مسير وليس مخير.
لقد انتهى عصر الإيديولوجيات الكبرى،التي حكمت سابقا السياسة في مشرق الأرض ومغربها،لعقود طويلة لاسيما خلال فترة التجاذب القطبي بين المعسكرين الشيوعي والرأسمالي،فكان العالم يأخذ سنده المرجعي من هذه النظرية أو تلك.
لكن مع الاندثار المدوي للحلف الشيوعي أواخر الثمانينات ،وما ترتب عنه من فوضى أهلية وحروب إثنية من أجل استرجاع الجغرافية الملتهمة سابقا من طرف الايديولوجيا،والأزمات الاقتصادية المصاحبة لذلك،دفع أغلب الباحثين إلى الجزم ربما مرددين بغير قصد نظرية فوكوياما حول نهاية التاريخ،أن زمان السياسة التوثينية القائمة على قوالب صنمية قد ذهب إلى غير رجعة، ويتحتم على الوثوقيين الدوغماطيقيين، رفع أياديهم عن مصائر الأفراد،ثم الانكباب أساسا على الشأن الاقتصادي بروح الحرية الليبيرالية.
لكن حين التطبيق،تبين آنيا أن هذا السعي بدوره لم يتضمن حلولا طوباوية للبشرية،بعد أن استمرت دورات الانتكاسة في الكشف عن نفسها،حيث يجمع أغلب الخبراء على حقيقة أن العالم لن يعرف قط مستقبلا سوى مسارات الأزمات البنيوية، منطلقها طبعا الاقتصاد وما يترتب عنه من تفاقم سلبي للأوضاع الاجتماعية وتأثيراتها السلبية على الاستقرار السياسي. وما يضاعف من قتامة الرؤية، مختلف الكوارث الايكولوجية التي يراكمها العالم بشكل سيؤدي حتما إلى اختلالات بيئية تهم توازن الكرة الأرضية.
لما أضاعت السياسة بوصلة المذهب والنظرية،وافتقدت القيم فأوكل الأمر إلى خبط عشوائي لاقتصاديات عمياء، صار العالم تتقاسمه "إيتيقيا" جماعات مافيات، شرهة بلا حدود،همها الجوهري لديها مراكمة الأموال والاغتناء الفاحش بشتى الطرق.
هكذا ،حينما نلقي نظرة سريعة على المشهد الدولي،سندرك منذ الوهلة الأولى المآلات الجهنمية لهذه السياسات الفاشلة التي أدت إلى :تمركز الثروات في جانب والفقر في الجهة المقابلة،تآكل  يومي للطبقات الوسطى المتنورة، مأسسة قانون البربرية في أشد تعبيراته فتكا، يجعل من التنظيمات القانونية الدولية مجرد واجهة صورية ،التباس المفاهيم وتداخلها بين النضال التحرري الحقيقي والإرهاب الأعمى،ارتكان العالم إلى الرؤى الأصولية الرجعية نظرا لتصاعد الخوف من المستقبل،ثم هيكلة الرق والبغاء وكل أشكال النخاسة البشرية،إلخ. 
مع هذا الانحدار الحضاري المهول،ستجد البشرية في المعلوماتية ملاذا "مخلصا" قصد العثور على منافذ أخرى ممكنة، فأضحت المعلومة سلاحا حادا لتقويض القائم،ولا أحد منا قد ينازع بأن أغلب الثورات التي نعيشها حاليا وفي طليعتها إنجازات الربيع العربي،مصدرها التداول السريع واللين جدا للمعلومة والبعد الديمقراطي الذي حققته.
هل،كان بوسع ديكتاتوريات منطقتنا الانتباه لاحتجاجات شعوبها، دون الحضور الرمزي والمادي للفضائيات والهواتف المحمولة واليوتيوب والفايسبوك؟. في هذا السياق،أستحضر سجالا مفهوميا جمع بين "جوليان أسانج" مؤسس موقع ويكيليكس الشهير،ثم "بيترسينجر" مدرس الإيتيقا بالجامعة الانجليزية الذي يقدم نفسه باعتباره فيلسوفا مهتما بالظواهر التي تخلخل الواقع من أجل خلق عالم أفضل.
الحوار،الذي تضمنه العدد55 من المجلة الفرنسية المتخصصة"philosophie magazine"،طرح قضايا في غاية الأهمية،تمس أهم تضمينات الثورات الصامتة التي أحدثها تداول المعلومة،نتيجة اتساع رقعة مستعملي الأنترنيت. لحظة،دفعت أسانج إلى التساؤل عن مدى مشروعية مقارنتها بالمتغيرات التي جاءت بها المطبعة مع "يوحنا غوتنبرغ"خلال القرنين السادس عشر والسابع عشر،عندما بدأت الكتب المطبوعة تقتحم الحدود، وبفضلها تواصل فلاسفة من ألمانيا وفرنسا والسويد، جاعلين من أوروبا هيأة دولية،وشكلوا فكرا نخبويا مهد الطريق نحو إسقاط الملكية الاستبدادية، وهو ربما الدور تماما الذي يستعيده الأنترنيت حاليا.
يضيف أسانج،أنه لكي يمارس المواطنون رقابة حقيقية على نخبهم الاقتصادية والسياسية، لايكفي فقط وجود نظام انتخابي بل الجوهري توفرهم على مصادر إخبارية،لأن الانشغال بشفافية وصحة المعلومة قابل لخلق أفضل أشكال الحكم،فجاء بالتالي تأسيس موقع ويكيليكس،بمعنى الرهان على أن تضم أجهزة السلطة في طياتها شخصيات أخلاقية مهمتها الكشف عن التجاوزات والجرائم.
أما "بيتر سينجر" الذي اقتحم كل ميادين الإيتيقا التطبيقية،فقد كتب مقالة بعنوان"الإنسان المكشوف"،قارب مضمونها الأثر الحاسم للأنترنيت على العالم وصيرورته  كي يكون شفافا، ويمنحه فرصة أخيرة حتى يصبح أكثر أخلاقية،انطلاقا من تحول الأنترنيت إلى مجال للرقابة والرصد والتتبع. الوعي بالمعلومة لدى المحكومين و أصحاب القرار، سيشكل بغير اتفاق قبلي، تعاقدا سياسيا قد لايكون على نفس منوال الديمقراطيات المؤسساتية، التي قامت في بذراتها الجنينية على نصوص فلاسفة الأنوار. فهل،يساهم الجميع في صناعة وجهة مقبولة للعالم؟.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق