(تعيشُ الروميّة!)
قصيدة، للشاعر
المصريّ
محمد عيد إبراهيم
في بيتِ مُسلِمينَ،
عَلَّقَت صورةَ العذراءِ تَحمِلُ المسيحَ، فبانَ جَذرٌ مُشتَرك. عَمَلٌ مُتقَن من
الحِكمَةِ في العنايةِ بالسَّكَنِ. وصَلاةٌ من الحَلقِ نحوَ الحقيقةِ.
رومِيّةٌ أَسلَمَت
من زمان. لكن إسلامَها لِيبرالِيَّةُ أرواحٍ مُنهَكَةٍ. وخلفَ بيتِها مقامُ مولانا
جَعفر الصادِق. روحٌ تَرِفُّ من أنوثةٍ مجهولةٍ، وتعلَمُ عن رامبو وفاجنر وبيكاسو.
وِداد: عالَمٌ من
تفاصِيلَ، دونَ عُدوانيَّةٍ. ورغبةٌ نَهْمَةٌ لتناولِ العَشاءِ، لكن بطنَها
مَهضُومة. وربّما، رجُلٌ متوَحِّش في بالِها، يتوفّرُ على مبدأ "الثروةُ حتى
الموتِ".
تَحَرَّقَت في
مَسِيحِيتِها إلى ناسِكٍ، رَسَمَتهُ بطَبِيعةٍ خاصّة.
وحينَ خانَها،
اختَصَرَت المعنى. فأَسلَمَت على يَدِ امرأةٍ كانَت راقِصَةً بينَ الغَجَرِ. تقرأُ
لَها القرآنَ بهَياجٍ شَعبيٍّ، كخادِمِ مَسجِدٍ يعمَلُ على مِهنَتهِ كالساعاتي.
تقومُ وِدادٌ
صباحاً بتَرتِيلِ أورادٍ على رأسِها اسمُ مَولَىً، ثم تفتَتِحُ الطعامَ
بتِينَتَينِ وتفاحَةٍ. تشربُ رَطلاً من حَلِيبِ الماعِزِ، وبينَ رَشْفةٍ وأخرى
زَعتر بالزيتِ.
ولها صلاةٌ مع
جِسمِها، فَتَحُكُّ فتحاتِهِ بالكِيسِ فيهِ نقطةُ زيتونٍ. تُدلِّكُ ثَديَيها
بلَيمونٍ ولافندَرَ وكِرِيمِ أطفالٍ، ثم تفتَحُ سَاقَيْها المفروجَتَين أصلاً على
نَعِيمِ مَتاعِها كي ينطلقَ كالفاتِحِ من كِنِّهِ. اللّعوبُ برَغوَتِهِ وحُزوزِ
أعصابهِ في ضِحكَةٍ سوداءَ.
جميعُ الظواهرِ
تجعَلُ الإرادةَ تَرتِيباً للشّهواتِ. لكنّ باطنَها يَجهَلُ الفضائِلَ، مثلَ
كونفوشيوس. فهي لا ترحَمُ الأوغادَ الذين يدَّخِرونَ، دونَ كَلَل. وهناكَ إضافاتٌ،
أغلَبُها اجتماعيٌّ. حيثُ خِبرتُها في الحُبّ لا محدودة.
أكثرَ من الرجُلِ،
تَشمَئِزُّ من الشروطِ. ولها سَهرةٌ جاهزةٌ. فهي تَخدُمُ آلِهَةً أولَى حِينذاكَ،
ولا تَركَنُ لِوَضِيعٍ. لكن بالخِفّةِ والضِحكِ، تسخو إلى نقطةِ كَمالٍ.
طُموحٌ حزينٌ
لِهَمَجِيّةٍ جديدةٍ، كجُنديٍّ عادَ من حربٍ قبلَ الأوانِ. "لا أحارِبُ
شيئاً، لكن أَلعَقُ الحياةَ لأجْعَلَها نَبِيلَةً". مثلَ مؤلفٍ ضِمنَ
أوقاتِهِ الضائعةِ، يكسَبُ استِغناءَه بالعَدوَى.
وقد تَتَذكَّرُ
"لن أعيشَ سوَى عامَين، بعدُ". فالسّرطانُ في كِبدِها يأكُلُ نفسَه. أما
الظلمُ فبلدٌ لا تعرِفُه. مرةً، لاحَقَتها الشائعاتُ. فالجميعُ يسيرونَ نحوَ
هدَفٍ. وهي كالحَلاّقِ القديمِ، تُداوي أمراضَها بالكَيِّ والشَفْعَةِ
والحِجامَةِ. أما الجِنسُ فطريقٌ ثالثةٌ للحياةِ،
بعدَ الدّينِ
والموتِ. تحبُّ طَيِّبَ الأثوابِ، ولا تَغُشّ "المُهانِينَ
المُذَلِّين". قَرأَت "زرادشتَ" نيتشهَ في الثلاثينِ، ثم انتَهكَت
أُصولَهُ قبلَ قليلٍ. وربّما كانَ ما لا يُمِيتُها قد زادَها قُوّةً. فتَدَّعي
السَتْرَ وتَهجُمُ على الوارِثين.
ولم تنجُ روحُها
دونَ مَعارِكَ، أيضاً.
علينا أن نذهَبَ
بعيداً. فحياتُها بريئةٌ، كفَلاَّحةِ "فلوبير". ولم تَصِل يوماً إلى
خائنةِ "أناتول فرانسَ" في "تاييس". حتى لا تنتهي تحتَ
عَجلاتِ قِطارٍ مثلَ "أَنّا كارنينا". والتجربةُ هي المَحَكُّ. فقد ماتَ
جَدُّها عام 1947، بعدَ عَلاقَةٍ عاصِفةٍ مع كونتيسة.
هذا، غيرُ إشاراتِ
الاحترامِ
عندَ مَن يعرفونَ
رسائلَها إلى "المَولَى" في طبعةٍ محدودة.
ترعَى أحلامَها ولا
تركُضُ خلفَ رغبةٍ. تُذكِّرُنا بالثائرِ المقصودِ بينَ عامّةِ الطيّبين. وحتى
الحيواناتُ تنامُ لدَيها وقتَ العملِ، وفمُ كلٍّ تِجاهَ الآخرِ.
قد تكونُ آمَنَت
بالماركِسيّةِ اللّينينّيةِ، ففي رُوحِها وَثبةٌ للسلامِ. وتكرهُ نَهْبَ إفريقيا،
كعقلٍ مُتَنوِّر. ولا تموتُ فيها رغبةٌ قديمة.
ولا شَكّ أن وِدادَ
تؤمنُ بالوطنِ، كنموذَجٍ للصّرخَةِ الحمراءِ.
على فَرضِ أن
وِدادَ سَهلةٌ، لكن فضائِلَها عَمَلِيّةٌ.
وللنساءِ أشياءُ
صِبيانِيّةٌ، كصُحبَتِها لسِنجابٍ وسُلحُفاةٍ.
ولا تستَحِقُّ
الرّحيلَ. فهي لم تَنلْ ليلةَ زِفافٍ،
برغمِ تَحكِيكِ
العرائسِ كلَّ أسبوعٍ
دونَ أن يعتريها
الأسَى. وشِعارُها: "حَلُّ الصعوباتِ بالتَخَلُّصِ منها".
وقبلَ موعدِ
الموتِ: ازرع سبعمائةَ وردةٍ، وإن وَسطَ الغَرَق.
وتظنّ اللهَ
استغرقَ في صِناعَتِها زمناً، فهي تحبُّ قِراءَتهُ
والليلُ طفلٌ، قبلَ
أن تطفو كائناتُ الظلامِ
كالكِستناءِ في
غيرِ حِرصٍ. ولا تَجِدُ اهتماماً آخرَ،
عدا موعدٍ تُقرِّرُ
فيهِ إجهادَ النفسِ برَقدةٍ دؤوب
كأُسلوبِ عَصرِنا.
وِداد ـ ـ ـ
بعدَها الانحِطاطُ
وحضانةُ النومِ الكبيرِ.
.................................
(*) قصيدة
"تعيش الرومية"، من ديوان (خضراء الله)، الانتشار العربي، بيروت، 2004/ روافد، القاهرة، 2014، ط
2.
(*) اللوحات،
للفنان الرمزيّ النرويجيّ: إدوارد مونخ
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق