الثلاثاء، 20 أغسطس 2019


الوجه البشري
مقال: آنتونان آرتو
ترجمة: محمد عيد إبراهيم

الوجهُ البشريّ قوةٌ فارغة، ميدانٌ للموت.
هو الحاجةُ الثوريةُ القديمةُ إلى شكلٍ لا يتطابقُ مطلقاً مع جسمه، الذي يخلُفه ليكونَ شيئاً غير الجسم.
ومن العبثِ أن نعتبَ على فنانٍ كونه أكاديمياً لا يزالُ يصرّ إلى الآن على إعادةِ إنتاجِ ملامحِ الوجهِ البشريّ كما هي؛ لأنها لا تزالُ تنكرُ وجودَ الشكلِ الذي يشيرون إليه ويوصّفونه؛ ويرسمونه بأكثرَ من تخطيط، من الصباحِ إلى الليل، وسط عشرةِ آلاف من الأحلام، ترسُخ كبوتقةٍ من خفقانٍ ملتهبٍ لا يكلّ أبداً. 
وهو ما يعني أن الوجهَ البشريّ لم يجد حتى الآن وجهَه.
وعلى الفنانِ أن يهبه واحداً. لكن هذا يعني أن الوجهَ البشريّ لا يزالُ يبحث عن عينَين، أنفٍ، فمٍ وفجوتَين سمعيتَين، للتوافقِ مع ثقوبِ المحجَرَين مثل الفتحاتِ الأربع بالقبو الدفينِ للموتِ المقترب.
للفنان جان أوغست دومينيك آنغر

يحملُ الوجهُ البشريّ في الحقيقةِ نوعاً من الموتِ الأبديّ على وجهه
وهو ما يجب على الفنان أن يحفظَه بدقّة
ليمنحنا ملامحَه العائدةَ إليه.
نرى على مدار آلافٍ وآلافٍ من الأعوام، في الحقيقة، الوجهَ البشريّ وهو يتحدّثُ ويتنفّسُ
ولا يزال نوعياً يملكُ انطباعَ أنه لم يشرُع بعد في أن يقولَ هذا هو وماذا يعرف.
ولا أعرف أيّ فنانٍ عبر تاريخِ الفن من هولباين[1] إلى آينجر[2]، قد نجحَ في جعلِ هذا الوجهِ الإنسانيّ يتحدثُ. إن بورتريهاتِ هولباين أو آينجر حوائطُ سميكةٌ لا تفسّرُ شيئاً غير العمرانِ الخالدِ العتيق الذي يدعمُ نفسَه تحتَ قوسَين من قبو الحاجبَين، أو يرسّخ نفسَه في النفقِ الأسطوانيّ بتجويفَي جَدارَي الأذنَين.
فان جوخ فقط هو مَن استطاعَ أن يرسمَ، بعيداً عن الرأسِ البشريّ، بورتريهاً كان قذيفةً منفجرةً لدقاتِ قلبٍ دفين.
وجهه هو.
رأسُ فان جوخ بملمسٍ ناعمٍ يستدعي عدَماً وفراغاً بكل محاولاتهِ في لوحاتٍ تجريدية يمكن تخليقها على نظيره، حتى نهايةِ الأبدية.
لكأنه وجهُ جزّارٍ نَهِم، مخطّطٌ كطلقةِ مدفعٍ على أقصى سطحٍ متطرفٍ للوحة،
وعلى حين غرّة يرى نفسَه وقفَت
بعينٍ خاوية
ثم عادَت إلى الباطن،
تستنفد كلياً أكثرَ الأسرار زيفاً في لوحةٍ تجريدية أو غير رمزية تبعثُ البهجةَ،
وذلك السببُ، في البورتريهاتِ التي رسَمتُ،
فوق هذا كله تجنبتُ نسيانَ الأنفِ، الفمِ، العينَين، الأذنَين أو الشَعر، لكني حاولتُ تخليقَ هذا الوجهِ الذي يتحدث معي مُفضياً
بسرِّ
فان جوخ

حكايةٍ بشريةٍ قديمة مرت ميتةً بين يدَي آينجر أو هولباين.
أحياناً، قربَ الأرؤسِ البشرية، رحتُ أخلقُ أشياءً، فظهرَت شجراً أو حيواناتٍ، لأني لستُ موقناً من الحدودِ التي يمكن أن يوقفَها جسمُ الذاتِ البشرية.
علاوة على أني قد حَطّمتُ بالتحديدِ الفنّ، الأسلوبَ، أو الموهبةَ، في كافةِ الرسوم التي قد تراها. أريدُ أن أقولَ إنها ستكون جحيماً لمن يدفع مقابلها معتبراً إياها أعمالاً فنية، أعمالاً ذات حَفزٍ جماليّ للحقيقة.
لا أحد يمكنه أن يتحدثَ بصدقٍ عن عملي.
فكلها تخطيطاتٌ، أقصدُ عملياتِ سَبر أو صَعقٍ تهبّ في كافةِ مناحي المصادفة، الاحتمال، الحظّ أو المصير.
لم أبحث لأنقّحَ أسطري أو ما توصّلتُ إليه،
لكن لأعبرَ عن أنماطٍ معينة من حقائقَ خطيةٍ واضحة لها قيمةٌ كبيرة بفضلِ الكلماتِ، العباراتِ المكتوبة، كأسلوبٍ تصويريّ وانطباعيّ للملامح.
للفنان هانس هولباين الابن

فهي رسومٌ عديدة تعدّ مزيجاً ما بين القصائدِ والبورتريهات، حول اعتراضاتٍ مكتوبة واستعاداتٍ فنية للعناصر، للمواد، لشخصياتِ البشر أو الحيوانات.
تلك هي الطريقة التي على المرءِ أن يتقبلَ بها هذه الرسومَ، من همجيةِ وفوضى أسلوبها الانطباعي "الذي لم يشغَله الفنّ من قبل"، لكن من إخلاصِ وعفويةِ خطوطها.

ترجمة: محمد عيد إبراهيم



[1]Holbein: (1497/ 1543) فنان ألماني، من عصر النهضة، أواخر المدرسة القوطية. (م)
[2]Ingres: (1780/ 1867) فنان فرنسي، عصر الكلاسيكية الجديدة وبدايات التعبيرية. (م)

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق