(محمد عفيفي
مطر)
موّالٌ
في جنائن الرعب
بقلم: محمد عيد إبراهيم
لو تذكّرتُ ما مرّ من زمن، لأمكنني أن أرى عينَيه،
كعينَي فلاّح مصريّ غابرٍ، كلّه صلابة، مثل جبل أخرس أمام شمسٍ كلّها رماد، لديه
صبرٌ يحمل طيبةَ قلبٍ يغرق في الأحلام، رأس كصلاة الرفض مليء بحفنة سنابل يعكف
عليها الطير بلا رحمة، في فيئه يأوي المتعبون، ومع أنه قاسٍ ولو ظاهرياً، إلا أن
أصابعه حَفِيةٌ بالثمار، قد ينتظر الهزيع الأخير، لكن ليَجدِلَه بحبال الأسى قبلما
يطفئ نوافير قلبه عليه، وفي معراج الصمت ترنّ ريح الليلِ المفجوعِ، والرعدُ في
الظلماءِ، وتحتَ شجرِ الجُميز صغارٌ أيتامٌ، وعجوزٌ بسنّ اليأس تصنع مِقصلةً خشبية
للقمر السهران.
لو كان لي أن أرسم "بورتريه"لوجه
عفيفي، لتيقّنتُ أولاً من مسألةٍ لا تنام: هل كان (العنف) في لغويات عفيفي
ومجازاته بل وإيقاعاته، مِصداقاً لما عاشه في حياته، وهي دراما تستحقّ أن تُكتَب؟
من بدايته بالقرية، إلى ضياع ديوانه بمكتب (صلاح عبد الصبور)، وصراعه مع جيل
الخمسينيات، إذ نشر له (عبد القادر القط) قصيدته مع المجرّبين الشبان في مجلة
(إبداع)، كما نشر له (لويس عوض) قصيدته بملحق الأهرام في "بوكس" لا يكاد
يُرى، ونشره أول ديوانٍ بشكل كريم في سوريا، لا في مصر، حتى سافر للعراق، وقد
رأيته هناك، جَمَلاً متعَباً يحمل همومَ أيامه وأيام الآخرين، بعدما طلبه السادات
للسجن، فهربَ عبر الخرطوم إلى هناك، ثم عودته للقاهرة، وكتابات "نجيب سرور"
المسيئة ضده، حتى وشَى به أحد المثقفين الكَتَبَة(وكان هشّاً معرفياً)أيامَ حرب
الكويت، فسُجِن شهوراً، وقد كتبَت الأهرام يومها من بيان الداخلية (القبضُ على
شاعرٍ متواضع)، وأنّى للشرطةِ رأيٌ نقديٌّ صارمٌ، حتى خروجه جريحاً عنيفاً مكابراً
على رغم الألم، والتهام المرض لأعصابه وجسمه المعاند، إلخ إلخ. وقد عثرتُ مؤخراً
بين أضابيري على رسالةٍ قديمةٍ له، أيام العراقِ، يرسم فيها بعضاً من آلامه
وكبريائه، جاء فيها:
(لَستُ أدري كيفَ أشُقُّ المسافةَ، أو أستعيدُ دورةَ
الأيامِ والليالي، وأمحو ما تراكمَ من عددِ السنين، وأَستلحِق بقلبي وحواسِّي كلّ
ما نبتَ أو نما أو ظهرَ للوجودِ من بعدِ عَدَم. تلكَ هَواجِسُ دَمعٍ مُحتَبَسٍ
وجَلجَلَةُ تعبيرٍ مكتومٍ. أنا كَمَن يسيرُ على حَبْلٍ ممدودٍ بين سَماءَين، ما
زالَ الصدقُ كَنزَ المَوهبةِ وأصعَبَ المكابداتِ وأشَقَّ ما نأخذُ بهِ النفسَ
ونُطالِبُ بهِ الآخرين. لَعلِّي أَملِكُ مِن صَرامةِ الخُلُقِ ما يَعصِمُني عن الدّنِيّةِ،
وأستطيعُ أن أتقبَّلَ كلّ شيءٍ إلا تزوِيرَ التاريخِ بلا حَياءٍ. أتابعُ كلَّ شيءٍ
وأنتظرُ...).
ومع ما كان بيننا من صراع على الشكل الذي به أكتب، إلا
أنني في إحدى زياراتي إلى مصر (وكنتُ أعمل بالخارج، كما أني كتبت قصيدة طويلةً عن
عذابات سجنه، سَمّيتها "الفكاهةُ سِيقَت إلى الملح"، في ديواني
"اليقين استقالتي")، رأيتهُ مصادفةً في مقهى التحرير بالقاهرة، فلم أدرِ
بنفسي إلا وأنا أقبّل يدَيه ثم أهوي على رأسه أحتضنه بيدَيّ، كأني لَقِيتُ كَنزاً،
كأني أعتذر عن مشاحناتي معه، كأني وجدتُ أبي من جديد، مما أدهشَ عفيفي من شُحنةِ
مشاعري، فلم يعهد ذلك بي، كان مريضاً، عليه شحوبُ الجثة، وأشفقتُ عليه بحنان أمٍ
ستفقد وليدها، مع أنه كبيرنا، وهو من احتمل نزقَنا عليه، وتمرّدنا قبالةَ نصهِ
الذي كان يملأنا فخراً أنه مصريّ قد حقّقَ الكثيرَ، لكن علينا في الوقت ذاته أن
نقف على كتفيه، كما يقول جوته، لا أن نستخذي منه أو نستكين.
كان المكان كئيباً، قبل ثورة يناير، 2009، ودار نقاشٌ
بسيط عن القلق والتوتر والمظالم، عن الحرية والشعر والتعليم، إلى أقانيم رؤيته، ثم
تعب فجأة لكأنه ينهار، واستأذن وقام، ولم أستطع الجلوس بعد رحيله، فقد وصلتني
إشارة أني لن أراه ثانيةً، فاستأذنتُ من ثلةِ رفاقٍ ومضيتُ أيضاً، انقضّ قِطّ الليل
من خوفي المسلوخ، ووليتُ وجهي أرتعش، بينما صوته في أُذنَيّ: (لماذا خِفتَ يا طفلي
الخفيفَ القلب)!
عفيفي مطر، رائدٌ رأسهُ في الفضاء من أصلاب المحبين،
سكّة الرؤية في قلب الظلام، تعرّفنا عليه ونحن شباب نحاول الكلام، وكان ديوانه
(الجوع والقمر) في طبعته السورية الأولى، خدينَ مخدةٍ فترة، ومع أن عفيفي لم يكن
فعلياً أو لم يصر فيما بعد من آباء نصيّ الذي أكتب به، إلا أنه لبنة أساسٌ من
تكويني المعرفيّ حول الشعر والتجريب فيه، مَن لم يقرأ عفيفي فلن يعرف كيف يعشق
اللغة، ولا كيف يبني تراكيب جمالية لم يعهدها الأقدمون، كيف يطوّر نفسه، سواء رحتَ
في صفّه أو مضيتَ بعيداً عنه. وقد قال عفيفي: (أرى في كلّ شيءٍ قائمٍ غربةَ ما سوف يكون)!
لقد ذاعت في جيلنا شائعتا (قتل الأب) و(القطيعة
المعرفية)، وهكذا ثُرنا عليه، ثوران محبة، لا يعنيني من ثار عليه ثوران بُغضٍ
ونقيصة، وظللت سادراً في تقبّل نصه بل هضمه وتمثله أحياناً، لكن لا ليكون مني، بل
حاولت أن أحاذيه، هو قادر على التمرد، وأنا قادر على التمرد، هو ضدّ اللغة البسيطة
الأقرب إلى حيادية المجاز، مثل صلاح عبد الصبور أو حجازي، لكنه أيضاً ضدّ تغريب
المجاز، لا غربنته، بل غرابته، هو لديه سياق معرفيّ متناسقٌ، يرى التراث بعين
محبٍّ، وقلبِ عاشقٍ مستهامٍ، حتى ولو ضربه في مقتلٍ، من شيوع الكِذب والتلفيق فيه (تطوّحات
عُمر، مثالاً)، إذ يقول:
(أناديكَ إذا كنتَ سجيناً،
فأرى بوابةَ العالم تُفتح،
وأرى الطينةَ تفرح)!
لكني، غيره، أستعذب غرابة المجاز، وأغوص أحياناً في
السوريالية، وأبغض التراث، لكن عن وعي، أردتُ أن أعفّر على كثيرٍ مما فيه من
أغاليط وتفانين ومظالم، وأحببت أن أُرِي الناس وجهاً جديداً للغة العربية، سواءً
أخفقتُ أو تحقّقتُ، أمري إلى الله، فغاليتُ في حذف الروابط بين الجُمل مثلاً،
وكرهتُ حروف العطف والجرّ، وحاولت استعمال علامات الترقيم بشكل مختلف، كلّ هذا
لفترة، أثناء فورة الشباب على تدمير كلّ شيء قديم، كأنه قبرٌ لا بدّ من هدمه لتقوم
أبنية مستجدّة، كلها بياض وصفاء، وعمرٌ آخر للغة، يقلبها ظَهراً لبطنٍ، والعكس،
ومع مرور الأيام، طبعاً، خفّت غُلَواء قلبي، وسكنت الريح الصَرصَر العاتية، أو كما
قال مولانا جلال الدين الروميّ: (حين تصطلي النيرانُ، يتلاشى الدخان)!
تكلّمتُ عن نفسي قليلاً، لأن عفيفي مطر كان من أصلابي،
لكني خرجتُ نباتاً مختلفٌ ألوانه، عفيفي مطر من عمق زمانه الداخليّ، يتدلّى مثل كَرمَة
الجوع وأنهار الظمأ، يُقيم عرشه الفارغ في مملكة مفقودة (أحلامي غنائي)، وفي مواسم
البيع، لكأني بهِ أسمعهُ يقول:
(أصرخُ تحتَ ماءِ الغُسلِ،
خائفاً في كفني:
لا تربطوا يدَيّ،
فربما أهربُ في الظلامِ)،
وقد فرّ هارباً، ذاتَ يوم، لكنه انسكبَ في عروقنا، بين
السؤال والسؤال، يستصرخ فينا أن:
(يا جُثّتي المرفوعةَ،
لا تنزلي،
فالأرضُ لا تزالُ مملكةً ممنوعةً)!