ترجمة: سعيد بوخليط
تقديم : ينحدر البروفيسور محمد أركون من
الجزائر، ولد سنة 1928في بلدة تاوريرت ميمون بمنطقة
القبائل،حصل على درجة الدكتوراه في الفلسفة،وأستاذ محنّك للفكر الإسلامي بمدرجات جامعة
السوربون الجديدة(باريس 3) . لقد طور تخصصا سماه ب :الإسلامولوجيا التطبيقية،درَّسه في
جامعات أوروبية عديدة ثم الولايات المتحدة الأمريكية(برينستون، فيلادلفيا).أصدر مؤلفات كثيرة من بينها :قراءات في القرآن(1982)،نقد للعقل
الإسلامي(1984)،الإسلام الأخلاق والسياسية(1986)….
س- البروفيسور محمد أركون،هل يشكل العنف
جوهر الإسلام؟
ج-يعتبر طرح السؤال بهذه الكيفية
صادما،لأن دلالته تعني عزل الإسلام عن جل الإشكالية الأنتروبولوجية للعنف.لقد
عاشت مختلف المجتمعات البدائية طقوسا قربانية، وأفعالا حربية عنيفة، قبل عهد طويل
من ظهور ماسمي بالإسلام.سياق تواصل مع مجتمعاتنا التي تٌدعى
بالحديثة. لكن كيف نفسر،أنه منذ نهاية الحرب
العالمية الثانية،تبلورت تقريبا مختلف المواجهات في علاقة بالجهاد الإسلامي،مما
صاغ فكرة تأصلت مفادها أن الحرب المقدسة مرتبطة أساسا بالإسلام؟مثلما نتكلم عن بنك
إسلامي،وتجارة إسلامية، وهندسة إسلامية.فهل لاحظنا مثيلا لهذه الظاهرة
خلال لحظة من اللحظات مع المسيحية أو اليهودية؟أعتبر بأن مسؤولية هذا التوظيف غير
النقدي تعود إلى المسلمين أنفسهم، الذين يربطون فعلا الإسلام بالمعارك الدائرة
راهنا،سواء داخل المجتمعات التي تعتبر إسلامية،أو مع منافسين يتم تصنيفهم وفق
مصطلح مُؤَدلج بقوة :"الغرب".إذا التجأ فاعلون اجتماعيون داخل
البلدان المسماة إسلامية،إلى توظيف ممارسات غير مستندة مذهبيا على ''دينهم''،فإنهم
ينحازون إلى صف تحليل وكذا ملاحظات نقدية تتوخى تقويض خطاب مجتمعي يستهدف تعبئة
الخيال الجمعي ضمن صراعات تظل رهاناتها حصرا سياسية واجتماعية.تنهض
جذور الشر على أنتروبولوجية أكثر عمقا،في إطار ماقاربه روني جيرار باعتباره محاكاة
نفس الرغبة حول رأسمال رمزي معين،تعود إلى عهد محمد وبدأت تخلق سلفا تعارضا بين
المسيحيين،واليهود والمسلمين الذين نشأوا حول ثلاث مرتكزات: التوحيد، الوظيفة النبوية، ثم الوحي.هذا الرأسمال الرمزي، سبق أن استأثر
به طيلة قرون التوراة العبري ثم يسوع التاريخي.لكن فجأة سينبثق فاعل ثالث متحدثا عن
عدم اكتمال ما تناقله الأنبياء السابقون،بل مضيفا بأن رسالتهم عرفت تحريفا.هكذا
تبدأ الرغبة المحاكاتية بالتمييز:برز تعبير آخر للإلهي،يناوئ تلك القائمة.دون
هذا التمييز، فلاوجود للإسلام.لكنه خلق ذلك التنافس العنف بين
شعوب أهل الكتاب،منذ البدايات الأولى للإسلام.إننا أمام "مثلت"شكلته
ثلاثة قوى محركة،هي: العنف، المقدس، والحقيقة.لم يدرس روني جيرار سوى العلاقات
بين العنف والمقدس.أضيف من جهتي،الحقيقة.السورة
التاسعة في القرآن من فتحت عيني بهذا الخصوص.سورة تبرهن على الجهاد عبر فكرة
الحقيقة.هكذا،باسم حقيقة دينية أقبل الذهاب ثم التضحية،وقد أقتل بشرا آخرين.لكن
هذا الثالوث الأنتروبولوجي لتقديس العنف،غير متعلق فقط بالإسلام ولا أية حقيقة دينية أخرى.قد
تكون حقيقة وطن يدافع عن نفسه،كما الشأن بالنسبة لجنود حرب 1914 .فالقدرة التقديسية للحقيقة الدينية
أو الوطن الدنيوي،تبقى نفس الشيء.
س-كيف تشرحون أن التأويل المتسامح
بالأحرى والإنساني للإسلام فترة العصر الوسيط
حُوصر خلال تطوره؟
ج-كانت أطروحتي لنيل شهادة الدكتوراه
عن موضوع : ''النزعة الإنسانية العربية خلال القرن العاشر''.نعم،تجلى
فكر إنساني عربي على امتداد العصر الوسيط،قائم على الفلسفة،والأخلاق والدين.لكن
ماذا حصل بعد ذلك كي لا نواصل الحديث عنه في الزمن الحاضر؟أي مصير انتهت إليه تلك
النزعة المتسامحة؟ليس خطأ القرآن،لأنه لم يمنع تلك الحركة الإنسانية كي تبلور
إشعاعها،من قرطبة إلى طهران.الذي صار على المحكِّ هذه المرة،التاريخ
الاقتصادي والعسكري في الفضاء المتوسطي بالكيفية التي جرى بها انطلاقا من القرن
الثاني عشر والثالث عشر،بمعنى اللحظة التي دشنت إبانها أوروبا انطلاقتها الفكرية
والعلمية والتقنية وأضحت مهيمنة. تحولت
الرغبة المحاكاتية إلى ماهو عسكري ودارت رحاها جوهريا حول الطرق التجارية.اختفت
شيئا فشيئا المراكز السياسية للإسلام ثم تركت مكانها للجمعيات الدينية.لقد
انتاب الضعف الدولة المركزية التي كانت حاملة لمشروع الإنسانية العربية.عندما
وصل الفرنسيون إلى الجزائر،وجدوا أمامهم أخويات،وليس دولا.مما يسَّر لهم السبيل نحو احتلال
سهل.استعمار أتى بشظايا حداثة حية، ديناميكية، محرِّرة،لكنها مجرد شذرات،ثم نخب
عربية محدودة جدا،استقبلتها بنوع من التقدير.الانقلاب الذي حدث خلال الربع
الأخير من هذا القرن،تحديدا بين سنوات (1960-2000) ،أكمل تلك المرحلة،وهو أمر مرعب.لقد أُلصق كل هذا العنف بالإسلام،لكنه
عنف ارتبط بقوى سياسية واقتصادية تفاعلت منذ القرن الثالث عشر،ثم تضخمت مع مجيء
الاستعمار ونتيجة الحروب التحريرية.نصادف اليوم ثانية نفس المجابهة
بين خيالات مجتمعية تغذت على التاريخ أو الثقافة،وبالنسبة لما يهمنا،أتجرأ على
تسميته بالتستر الرسمي على تاريخ السيادة الفرنسية في الجزائر.ظهر
بهذا الخصوص،منفذ صغير،جراء السجال حول التعذيب،لكني أظن لو استطعنا فتح صفحة هذا
التاريخ باكرا وبصراحة أكبر،سنكون اليوم مسلحين على نحو أفضل كي نعالج إشكالية
العنف في الإسلام وتحمل المأساة التي نعيشها.
س- "الاستشهاد''،طريقة الانتحار
التي يختارها الإرهابيون،في إسرائيل أو المناطق الأفغانية،هل لذلك من شرعية في
الإسلام؟
ج-أرفض كلمة "شهيد''مثلما وُظفت
تبعا للحالات التي أوردها سؤالكم.بالتأكيد توجد كلمة شهيد في القرآن،لكنها
هنا انتزعت من سياقها تماما ،كما تفعل مختلف الشروح ذات الخاصية الإيديولوجية
والسياسية،لاسيما إذا أدى الفعل الإرهابي إلى موت عدد كبير من الأبرياء تماما.الشهيد
في القرآن،بطل يموت دائما من أجل وجه الله.لكن لأي سبب كبير يعود مثل هذا الأمر؟هل
دفاعا عن أُمَّة مجروحة من طرف قوة مادية،ملحدة،التي يجسدها غرب أعلن موت الله؟إنه
نوعية الخطاب القومي الذي يسمعونه في مدارسهم،ثم يكررون مثل ترنيمة أن الغرب إمبريالي
واستعماري،والإسلام كان قويا قبل أن يتم تحطيمه من طرف هذا الغرب. يقولون لهم كذلك ،بأن الإسلام قدم
نموذجا بَنَّاء سياسيا للحاضرة أكثر
فعالية من ادعاءات الديمقراطيات الأوروبية أو الأمريكية.ثم يطلب منهم،قطع كل علاقة مع
الغرب الذي تسبب لهم في كثير من الشر.هاهي ''الكلمات''التي تؤسس لمجموعة
أساطير تفتقد لأي علاقة مع الحقيقة التاريخية،وينبغي السعي نحو القيام بتفكيك لكل
تلك الأساطير.هؤلاء الفلسطينيون،والأفغانيون،والجزائريون،ترعرعوا
وسط مناخ قومي قاسي وديني - وفق معنى احتكار الدولة للدين- تسكنهم رؤية مٌتَخيلة
تماما على نفس منوال نظرة الغرب إلى الإسلام.فالإسلام بروتستانتي دينيا،وكاثوليكي
سياسيا.بمعنى أن المسلم مؤهل لاهوتيا بكيفية حرة كي يسبر النصوص المقدسة،تصور لم
تعلن عنه المسيحية من خلال لوثر سوى في القرن السادس عشر.لكن دول ما بعد الوجود الكولونيالي،أحدثت
انقلابا لاهوتيا بأن حولت لصالحها حرية المسلمين الروحية التي تمنحهم إمكانية
الولوج إلى السجال الحر بخصوص قراءات النص القرآني.
س-مع هذا البناء للأساطير وكذا
مشروع العمل التفكيكي الذي ينبغي القيام به، أيُّ حيز يشغله الافتتان بالأمكنة
المقدسة؟
ج-لن نتناول بهذا الخصوص إلا مثالا
واحدا، لكنه الأكثر إيحاء :القدس.خلال بداية السنة الهجرية،انقسمت
مثل المدينة المنورة،بحيث احتضن فضاؤها المؤمنين بتعدد الآلهة،واليهود،والمسيحيين،والمسلمين
الأوائل،فقد كانت القدس مكانا مفضلا لتلك الرغبة المحاكاتية الجارية بين أهل
الكتاب.حينما استولى العرب على القدس،مثَّل بناء قبة الصخرة فعلا سياسيا،لكن خاصة تجسيدا
لامتلاك الرأسمال الرمزي لهذه المدينة الاستثنائية.هكذا صارت القدس ذاك المكان، الوحيد
في العالم،حيث تتلاقى ثانية مختلف الإشارات الأكثر تقديسا للديانات التوحيدية الثلاث.لكن،
حتى تتمكن هذه التجارب الروحية للإلهي من التعبير عن نفسها سلميا،فقد افترض سياق
الوضع في القدس أن تنشأ ثقافة للديني قادرة على احتضان الاختلافات،غير أنه عوض ذلك،تبلورت
في المقابل،رغبة محاكاتية أدت إلى تقويض تلك التجربة الإنسانية غير القابلة
للمضاهاة،المستندة مبدئيا على ثلاثة نصوص تأسيسية هي التوراة، الإنجيل والقرآن،وصارت
مرجعية أساسية بالنسبة للفكر البشري.تعود مسؤولية ذلك في قسم كبير منه
إلى الفكر الأوروبي،والذي لم يدرك بسبب تجاوزات الأنوار، كيفية خلق شروط هذه
الثقافة المتعلقة بالديني،الخاصة رغم ذلك بكل تجربة إنسانية.إن وُجد لهذه الثقافة الحديثة،الإنسانية
والدينية،من فضاء رائع للتعبير عن نفسها،فالأمر يتعلق تحديدا بالقدس.وإذا
حدث السعي بهدف إنجاز عمل التفكيك الذي أتطلع إليه بكل أمنياتي،ففي القدس تتفاعل طموحات كل
المتعطشين لما هو روحي وأخلاقي،ضجرة من إله الدولار وكذا أولوية الاقتصادي أو التجاري،بالتالي
تبقي للإنسان موقعه الروحي وكذا روحه.
س-هل في إمكان الإسلام المبادرة
إلى إصلاح نفسه بالتوجه صوب المستقبل،أو فقط الالتفات إلى أصوله؟
ج-كان الإصلاح أحد مرتكزات تاريخ
الإسلام.منذ الحقبة الكلاسيكية،غاية القرن الثالث عشر.تعاقب إصلاحيون مثل الغزالي أو
الأندلسيين الشاطبي و ابن حزم.كان الكلاسيكيون مبدعين، يقترحون
خيارات تأويلية،لذلك تميز الفكر لديهم بالتعدد، فلايحق لأي مدرسة ترجيح تصورها دون
سجال.لكن المشهد تغير تماما حينما تسلمت الأنظمة مابعد الكولونيالية السلط، بحيث
لاحظنا تأميما للدين،أمسكت في إطاره وزارة الشؤون الدينية القرارات تحت إشراف
الحزب الوحيد.هكذا توقف كل كلام عن الإصلاح،فالعلماء
مجرد صوت لسيدهم الذي يسدد لهم أجورهم.بعد 1945،احتكر الخطاب القومي جميع المؤسسات،وانعدم جراء ذلك، كل تناوب يقابل
التعبير المُؤَدلج وكذا التدوين الأصولي للدين….لذلك من المُلِحِّ خلق آليات هذا
التعاقب،كجواب وحيد محتمل في أوروبا ضد هذا العنف الأصولي،وليست القذائف أو
البوارج من سيجد حلا لكل هذا التاريخ.
س-إلى أي شيء تنسبون عدم فهم الغرب
للإسلام؟
ج- دشن فيرنان بروديل المغامرة
التاريخية الأولى حول فضاء البحر الأبيض المتوسط.يعتبر الرائد الذي فتح الأرشيفات
التركية وكذا الأوروبية،من أجل فهم لعبة القوى وكذا تنافسها إبان تلك الحقبة.لقد
عرف البحر الأبيض المتوسط قطائع متتالية.أولا سنة 1492 ،مع
طرد اليهود والمسلمين من إسبانيا،موعد يلزمنا ترسيخه لدى أطفالنا.تحولت
أوروبا نحو المحيط الأطلسي بعد سيطرتها على البحر الأبيض المتوسط.والحال
أن تاريخ المجال المتوسطي كما يتواصل تدريسه داخل حجرات مدارسنا يجهل القطيعة
الإيديولوجية التي حدثت،على أساس القطيعة الدينية لسنة 1492 ثم تفاقمت مع الاستعمار :لازلنا نُدَرِّس مسألة الفصل التام
بين ضفتي المتوسط.خط بروديل،الذي ينبغي بحسبه النظر
إلى مختلف كل الفاعلين الذين شكلوا وجه شعوب البحر الأبيض المتوسط،لم يستعده ثانية
الفرنسيون أنفسهم.على العكس نعاين استقطابا،إلى رؤية
أوروبية استيهامية نحو الإسلام.أحدث الفاعلون الاجتماعيون المسلمون
توظيفا مُكتسِحا وإيديولوجيا كثيرا للإسلام بحيث أُرغم تقريبا الملاحظون الخارجيون
على المبادرة إلى القيام بذات الشيء.قد يستلهم ثانية أفراد على عجلة من
أمرهم خطابا من هذا النوع.لكني أرفض قطعا أن يتبنى ''مؤرخون معتمدون
للإسلام''منتسبين إلى الجامعات الغربية الكبرى نفس هذه المقاربة المُؤَدلجة ،بمعنى
افتقادها للتحليل.
س-بالإصغاء إليكم،ندرك الأهمية
التي تمنحونها إلى التربية قصد تحسين العلاقات بين العالمين الإسلامي والأوروبي،كما
لو من أجل تحديث الإسلام وجعله ينفتح على بقية العالم.
ج-لقد نشأ عدد كبير من
الجزائريين وضمنهم أنا،في إطار المعرفة النيرة للفكر الفرنسي النقدي،الذي نحبه
وجعل منا المقام الذي نحن عليه اليوم،لكن في نفس الوقت نتسم بالصرامة والتشدد إلى
أبعد حد نحو خيال فرنسي وغربي يتغذى على استقالة مزدوجة :التستر
الرسمي عن الصفحة الاستعمارية للتاريخ الفرنسي،مثلما أظهرت ردود الأفعال الرسمية
بخصوص التعذيب في الجزائر.تلغي المقررات المدرسية صفحات
كاملة من تاريخ فرنسا،كالتي تتحدث عن الحضور الفرنسي في البلدان المغاربية.لا
ينبغي للعلاقات بين فرنسا وهذه المنطقة أن تتم بناء على العروض التي يسمعها المغاربيون
والفرنسيون من أفواه أساتذتهم مثلما بوسعه
أن يفعل التراث الفرنسي الكبير.ينبغي تدريس الإسلام في إطار فضاء
ثقافي وعلمي يتجاوز تعبيراته الشعائرية.أيضا،يلزم تمتع الأساتذة بتكوين
وكذا تعليم مُنظَّم داخل الثانويات والكليات ومؤسسات البحث العلمي.بيد
أن القليل جدا من زملائي الباحثين في فرنسا وأمريكا وأوروبا،من يقتنعون بضرورة
تبلور إسلامولوجيا تطبيقية تقتضي تبحرا معرفيا،تستحضر كل مصادر المعارف الاجتماعية
ويتم تطبيقها ميدانيا.لكن هذا الحقل يحتله الأصوليون
المنكبِّين على غسل دماغ الشباب بغير مقاومة.ويلزمني،أنا الباحث الموسوعي،البقاء
بعيدا عن هذه المعركة؟.
هامش :
Le monde :samedi ;6
octobre 2001.
هامش :
Haïti liberté :3 mars 2017.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق