مشكلات الفلسفة: فكرة الله
للأستاذ عبد الفتاح الديدي
(ليس كمثله شيء) قرآن مجيد
كتب الكثيرون في هذا الموضوع، وتناولوه من نواحيه المتعددة
بحيث لم تبق لنا بقية نحكيها ولا فضلة نذكرها. وإذا كنت أمسك بالقلم الآن لأخط هذه
الكلمات فليس ذلك عن تحد لهؤلاء الذين لفكرة الله قبل الآن، بالبحث والدرس، وإنما أفعل
هذا عن إيمان بأنني سوف أنظر إلى الموضوع نظرة عكسية، وأنني سأنصرف إلى جانب غير الذي
اهتموا به، وبذلوا عنايتهم من أجله. وأحب أن أرفع الخوف عن القارئ من إثارة هذا الموضوع
مرة أخرى، وأود أن أزيل عن نفسه كل حرج أو إشفاق من مواجهة مسألة الألوهية مواجهة صريحة
فأنبئه مسرعاً بأنني سأبحث مشكلة الإنسان ذاته. وستجد نفسك قادراً بعد توضيح بسيط على
أن ترفع هذا العنوان لتضع بدلاً منه عنوان آخر يتصل بالإنسان ومشاعره فوق الأرض وباحساساته
في الحياة. إذ أنني أومن تماماً بأن فكرة الله، كما حملها إلينا تاريخ الفلسفة، لا
تصور الله ولا تقرِّب مفهومه من أذهاننا، وإنما تعطينا فكرة صحيحة عن الإنسان نفسه
من حيث مطامعه وشهواته وخواطره وآرائه ومخاوفه وملاذه.
فكرة الله عند الفلاسفة والمفكرين هي كتاب حافل بأحاسيس البشر
وتاريخ ثابت لانفعالات الناس ومجلد مشحون بالعواطف والمشاعر عندما تطورت على مر العصور.
والحقيقة الإنسانية تتكشف، أكثر ما تتكشف، من مراجعة هذا السجل الحاشد ومن تأمل هذه
الخطرات الوافرة. فليس يفيدك تأمل الأفعال العادية التي تأتيها الجماعات أو النظر في
أمور معاشهم والمخالطة لهم في الحياة العامة بقدر ما يفيدك التفكير في هذه الصور التي
يعرضها عليك المفكرون عند تدبرهم لصفات الله وتحقيقهم لمشكلة وجوده.
وقديماً تنبه إكسانوفان لهذه الحقيقة على نحو بسيط عندما
قال إن الإنسان يصور نفسه في آلهته، وإن هذه الأرباب من صنع الناس وابتكارهم. ولم يكن
أمام إكسانوفان الفيلسوف اليوناني عندئذ غير هذه الآلهة التي صوَّرها الشعراء السابقون
على عصره كأمثلة يقدمه لنا تدليلاً على هذه الحقيقة. أما نحن فنستطيع أن نجد كثيراً
من البراهين، على ما نذهب إليه، من آراء الفلاسفة واعتقاداتهم في الله منذ أقدم العصور
حتى يومنا هذا. فإذا ما أخذنا إله أرسطو على سبيل المثال وجدنا أنفسنا بازاء كائن أبدي
يوصف بأنه جوهر وأنه فعل محض وأنه يحرك ولا يتحرك. وهذه الصفات هي الوجه الآخر لما
نلاحظه في حياتنا الأرضية من سمات الأشياء وخصائصها. فأبدية الله إنما تنشأ عن رغبتنا
نحن البشر في تصور موضوع، ونتيجة لأطماعنا التي لا حد لها في معاش يستمر إلى ما لا
نهاية. إذ أننا نحس في قرارة أنفسنا بأننا عاجزون أمام مظاهر الطبيعة وعوامل الفناء
التي تعمل بكل قوتها على إنهاء الحياة المتمثلة في الأفراد، وعلى إبطال ما يبدو أننا
نستمتع به من مناعم الوجود ولابد والأمر كذلك من تصور موضوعية أخرى غير إنسانية توصف
بهذا الوصف الذي حرمتنا إياه الحياة وتتعلق بها تلك الكيفيات التي نحلم بتطبيقها على
شئوننا الخاصة. فالوجود الأبدي الخالد هو الوجه الآخر لهذه الحياة التي نستشعر بأنها
قد وُجدَت منذ زمن قريب ولا نعرف مبدأها على وجه ثابت، وهو الوضع المقابل لهذه المظاهر
المتغيرة والأعراض الزائلة والحركة الدائمة.
ولا نستطيع أن نفسر صفات الله عند أرسطو إلا على ضوء هذه
الحقيقة التي نعلنها إعلاناً صريحاً ونؤكدها توكيداً قاطعاً هنا فإلهه كما نعلم عبارة
عن فكر خالص يتأمل ذاته ولا يمكن أن يكون هناك شيء آخر سوى ذاته كموضوع لتأمله ما دام
شرف التفكير متوقفاً على شرف المادة، وما دام من الصعب أن نُقر برفعة العمليات العقلية
من غير الوثوق برفعة الأشياء التي تكون محل اهتمامه. بل إن لذته القصوى إنما تكمن في
هذه الحالة التي يستطيع بها أن يدور حول نفسه وأن يكون هو ذاته لذاته موضوعاً لا يفرغ
من تأمله ولايني عن التفكير فيه. وهو لهذا السبب مشغول عن الحياة، لاه عما يجري فوق
الأرض، مهمل لأحداث الكون. فهذا الإله، إن يصح أنه إله، وليد اختراعٍ عبقري ولا يمكن
أن يصدر عن تصور آخر غير تصور الإنسان الذي يكلف بالبحث ويولع بالنظر العقلي الخالص.
لقد كانت الحياة بمتاعبها ومضايقاتها تثير جانب الخيال قبل كل شيء في عقل أرسطو وتدفعه
دفعاً إلى افتراض وجود كائن يخلو من هذه الشواغل الوقتية وينصرف عن الحياة العادية
إلى العمل الفكري المجرد. أو يمكن أن نقول إن الحياة الفكرية بما كان لها من مقام في
نفس الشعب اليوناني القديم استطاعت أن تدفع بأرسطو دفعاً إلى مذهبه الغريب وتصوره الشاذ.
ومن ناحية ثالثة نلاحظ أنه من السهل جداً تصور إله على هذا النحو إذ تكرر وقوعنا في
الأزمات وتعددت في سبيلنا العقبات دون أن ينقذنا منقذ وبغير أن يعيننا معين، مهما رجوناه
والتجأنا إليه ودعوناه مخلصين. فالإنسان يتصور الإله محباً للخير عادة ويفترض أنه يعمل
جاهداً في سبيل السعادة والهناء. ولا شيء غير ذلك. فإذا حصل أن أتجه الإنسان اتجاهاً
سليماً، وأن سعى مسعى كريماً ثم ناله من وراء ذلك سوء وأصابه من جرَّائه نكر ارتد إلى
رشده وعاود تفكيره وجعل ينظر مرة أخرى في شأن الإله العلي القدير. وهو في تلك الحالة
إما أن ينكر وجود الإله، وإما أن يؤمن بأنه موجود ولكن لا تربطه صلة بالعالم الأرضي
ولا يشغل باله من أمره شيء ولا يحتل في ذهنه أية مكانة. وهذا الموقف الأخير هو الذي
ركن إليه أرسطو كما شاهدناه في كلامه عن صفات الإله.
ولو قمنا باستعراض هذه الفكرة فكرة الإله لدى الفلاسفة جميعاً
لانتهينا إلى النتيجة التي أعلناها من قبل والتي قلنا فيها إن الإنسان قد عكس خيالاته
وأسقط أحلامه وأمانيه على النحو الذي اعتقدناه حسب ميولنا الفلسفية واتجاهاتنا الدينية.
والإنسان معذور بطبيعة الحال عندما يفعل ذلك ويقدم على عمله بالشكل الذي وصفناه. ويمكن
أن نضع سببين معقولين لحدوث هذه الظاهرة في تاريخ الفكر.
أعتقد بأنه لا حيلة للإنسان أولاً بازاء الصفات التي ينسبها
إلى الإله مادام لا يملك غير الصفات التي توجد بين يديه وتتوفر لديه. إن الصفات والكيفيات
التي يدركها العقل الآدمي معروفة ومنتهية ولا يمكن الخروج عن نطاقها وابتكار سواها
مما لا تعرفه الحواس ولا تتصوره العقول. إذا شرَعَت مثلاً في عدِّ ألوان الأشياء وأحجامها
وهيئتها فلن تستمر طويلاً بل سريعاً ما سوف تحس بأنك قد انتهيت من الحسابات والتقدير.
وإذا أردت أن تُعمِل عقلك في مسألة ما أو شئت أن تخضع لتفكيرك أمراً من الأمور فلن
تزيد - إذا اهتممت بوصفه - حرفاً واحداً على هذه الكيفيات والشبات.
أما السبب الثاني في حدوث هذه الظاهرة فأحسبه ناشئاً عن طبيعتنا
نحن البشر في صبغ كل شيء بميولنا، وعجزنا عن التخلص من أهوائنا وعدم قدرتنا على التفكير
تفكيراً بريئاً من دوافعنا الباطنية مستقلاً عن شخصياتنا. إن الأشياء في ذواتها لا
وجود لها قط في حياة الإنسان، والمعرفة الموضوعية التي تتعلق بالأشياء الخارجية لم
تعرف الحياة يوماً من الأيام، ومهما تحدث العلماء عن علم نقي خال من آثار الإنسان وأهواء
البشر فلن يجدي شيء من هذا الادعاء في تخفيف أو محو ما تلقيه الذاتية من ظلال على معامل
التجربة، وسوف تبقى نتائج الطبيعة خاضعة للمزاج والإرادة إلى أقصى درجة.
فهناك حدث لا شك فيه وهو أننا نعتمد على أنفسنا اعتماداً
كبيراً في استقصائنا للمعلومات عن العالم الخارجي وتصورنا للأشياء التي لا تدخل في
نطاق التجارب العادية بالنسبة إلى الإنسان. ومن ثم وجب أن تصطبغ كل مادة لتفكيرنا،
وكل موضوع أعمالنا، بقوانا الذهنية في التخيل والإدراك وبنوازعنا النفسية في الهوى
والجنوح. أو قل أنه ما من شيء من الأشياء يستطيع أن يتقرر في الذهن وأن يتحقق في دائرة
معارف الإنسان من غير أن يمر بالنفس التي تعده الإعداد الكافي وتنقحه التنقيح الواجب.
ولا تَغرنَّك ادعاءات الرجال الذين يشتغلون بالعلم في هذا الباب لأن أقوالهم لا تصدق
ولا تستحق الاحترام إلا من جهة واحدة حينما ننظر إليها على أنها ضرب من الحلم أو التمني
البريء. وكذلك الأمر في مسألة الإلة؛ فنحن حيارى وسط مظاهر الحياة وبين جدران الطبيعة
التي تظلنا من كل جانب، ونبدو أمام أنفسنا كالتائهين الذين يتطلعون إلى السحب القاتمة
عسى أن تبرق، وإلى الآفاق المدلهمة عسى أن تضيء. ومهما تبدت لنا دلائل الإعجاز من حولنا
أو تكشفت لأعيننا حقائق الباطن المستور فإننا لا نكاد نخلص من الحيرة ولا ننتهي من
الشك ولا نقف عند حدٍّ من حدود الإرجاف والتخمين. وذلك لرغبتنا في برهان من الواقع
المحسوس وميلنا إلى الوقوف على كل ما يمكن أن يكون هنالك سافراً مفضوحاً. ولكن الحقيقة
لا تتكشف والباطن لا يبين والقلق لا ينتهي. . . فلنفكر إذا ولنُعمِل عقولنا ولنوجد
نحن المشكلة ولنضعها في الصحائف والكتب على النحو الذي نريد. وهكذا انتهينا إلى تصور
الله وتخيله، وشبهناه وقربناه، فكانت آراؤنا من قبيل الأمنية، وكانت أفكارنا ضرباً
من الأحلام، ولا يستطيع واحد من الناس أن يزعم أن الإله الذي قدره هو نفسه الإله المشرف
على نظام الكون والمدبر لأمور الناس. ولا يملك واحد من الناس القدرة على إثبات التطابق
بين الإله الذي وصفه والإله الموجود فعلياً. فالله هو الله؛ أما آلهتنا التي نصفها
فهي من قبيل المحاولات التي يجوز أن تتجه اتجاهاً صحيحاً، ويجوز في الوقت نفسه ألا
يكون لها أي سند من الواقع أو أي تقريب معقول.
فالآلهة التي نتحدث عنها والتي نصف أفعالها إنما هي صدى لحياتنا
العملية بما فيها من نقص واضطراب. فالله يشفي المرض لأننا نمرض، ولو لم يكن المرض من
لوازم حياتنا المعيشية لما تصورنا الله قادراً على شفاء الناس من الأمراض. والله هو
السبب في المكاسب والخيرات، وهوالذي يهدي إلى سبيلهم ويطعمهم ويسقيهم. وبعبارة موجزة:
يأتي الله كل الأعمال الوظيفية التي لا تعدو أن تكون ضمن المطالب العادية. وكلما فكرنا
في الله وصفاته لم نستطع أن نخرج به عن هذا الحيز الضيق وعن هذا النطاق المحصور، لماذا؟
لأن الأرض مسرح لها ولأن حياة الناس ملأ بهذه الأشياء التي ترضيهم أحياناً وتسوءهم
أكثر الأحيان.
فالله الذي نعترف به ونقر بوجوده ونسلم بسلطانه أسير حياتنا
الدنيوية ويمكن وصفه بأنه إله إنساني - إن صح التعبير - مرَّ بالعقول قبل أن تؤمن به
الصدور، وامتحنه الخيال قبل أن تسلم به الروح، واستأثرت به المصلحة قبل أن ينفذ إلى
عالم الضمائر. ولذلك نستطيع أن نجد فيه مشكلتنا نحن أنفسنا لا مشكلة الله، ونستطيع
أن نلمس فيه ضعفنا بارزاً وأن نجد عنده آلامنا واضحة وأن نصادف على وجهه مسحة الهم
البشري.
قال سارتر عندما كتب عن قصة ضياء أغسطس لفولكنيه: (تصير القصص
الجيدة بُعِد قليل شبيهة تماماً بالظاهرات الطبيعية. إننا ننسى أن لها مؤلفاً وننظر
إليها نظرتنا إلى الأحجار والأشجار لأنها هنالك، ولأنها موجودة.) ونستطيع القول عن
الذين يتحدثون عن صفات الله إن كلامهم يصير بمضي الزمن حقيقة راسخة في نفوسنا وننظر
إلى أحكامهم على أنها أمور مقطوع بها وننسى غالباً هؤلاء الذين صدرت عنهم وبدرت منهم
في ظرف من الظروف. والغريب في هذه المسألة هو أننا نأخذ كلامهم مأخذ الجد ونخضع أنظارهم
للبحث والنقد ونجعل منها بعد حين موضوعاً للجدل والنقاش. هذا مع أننا نستطيع من أول
الأمر أن نريح أنفسنا بأن نفرق بين هؤلاء وبين الوقائع الصحيحة، وبين ما نريده نحن
وبين ما هو حاصل بالفعل.
فالإنسان لا يملك إلا أن يفكر وأن يقدح ذهنه في مسائل الكون
التي تشغل باله وتقلل من راحته وهدوئه. وهذا طبيعي ومقبول منه إذا لم يأت بعد ذلك ليصف
لنا أشياء، لم يطلع عليها ولم تتكشف له، وصف المشاهد الخبير. وحتى هذا العمل الوصفي
معقول ومقبول، على ألا يأتي بعد ذلك إنسان فيتحدث عنها كما لو كان يتحدث عن الحقائق
المقررة.
ونعود ثانية لنقول إن الله أرفع شأناً وأسمى مقاماً من أن
نخضعه لأحكامنا ومن أن يتحدد بأهوائنا ويتوقف شكله على أمورنا المعيشية. وأي وصف نلصقه
به وأية كيفية نلحقها بذاته لا تخرج عن كونها تخميناً لا يرتفع إلى درجة اليقين ولا
يوثق به الوثوق الكامل. أما إذا أخذنا مسألة الصفات على حقيقتها ونظرنا فيها على أنها
مشكلتنا نحن البشر فأغلب الظن أننا سنبلغ أمراً علة قدر كبير من الأهمية من ناحية التحليل
الخاص بالعواطف الإنسانية والتسجيل الدقيق لخواطر الناس والاحساسات التي تعم بني آدم
فوق الأرض. وذلك لأننا أقرب إلى أنفسنا عندما نتحدث عن الله منا إلى الله، وأشد ارتباطاً
بقلوبنا وأوضاعنا في تلك الآونة منا إلى ملكوت السماء، وأكثر حباً لمصالحنا وأهوائنا
من لهدى الله ورضوانه.
أيها الإنسان! ثب لرشدك وعد إلى نفسك وانفض غبار النفاق عن
جبينك لتعلم أن الرب أعظم من أن يلحقه وصف، وأرفع من أن تبلغه كيفية، وأسمى من أن يلابس
المقادير ومجريات الأمور على أرض دنستها بريائك، ووسدتها بلحم آبائك.
(*) مجلة الرسالة (المصرية)، العدد 857، 5 ديسمبر 1949.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق