السبت، 4 أغسطس 2018


مشكلات الفلسفة: في الحرية

للأستاذ عبد الفتاح الديدي



تأخذ الحرية لدى الشبان معنى لا يمكن أن تعرفه ولا أن تتوصل إليه أذهان الشيوخ، ويكون لهذه الكلمة من الوقع في نفوس المقبلين على ميادين الحياة البكر أكثر مما يكون لها عند الذين أشرفت عهودهم على النهاية واقتربت أعمارهم من الختام. فالحرية لا يمكن أن تكون موضوع بحث أو مثار نزاع إلا في الأطوار الأولى من حياة الأفراد، حيث تسبغ البكارة غموضها على كل شيء، وتبعث الطفولة أحلامها في كل معنى، وتقحم المثل الإنسانية تصويرها من كل جانب. وإذا صح هذا كنا بازاء نتيجتين: إحداهما أن الحرية تقترن بالجهل دائماً، وثانيهما أن العادة هي العدو الأكبر لما تؤدي إليه الحرية من صنوف العمل وضروب الإنتاج.

ولتوضيح هاتين النظريتين ينبغي أن نبدأ فنؤكد تلك الصلة الوثيقة بين الجهل والحرية عن طريق ما يسمونه في الفلسفة بالممكنات. أليست الممكنات أشياء مجهولة عند من يريد أن يضعها موضع البحث والتأمل؟.

نعم، هي كذلك بلا مراء ما دمنا بعيدين عن دائرة الوجود الحقيقي، وما دمنا مقتصرين على تدبر الاحتمالات النظرية بخصوص شأن من الشئون. وكان أرسطو في الفلسفة القديمة يفرق بين الوجود بالقوة والوجود بالفعل على أساس أن الأول هو الشيء الذي لا يزال في حكم العدم، وإن راودنا الأمل في وجوده بعد حين. أما الأشياء الموجودة بالفعل، فهي تلك التي تقوم من حولنا والتي تظلنا بظلها وتثقل علينا بوطأتها وتعيش في العالم الظاهر المحسوس. وهناك اختلاف كبير ينبغي أن نلاحظه بين العدم الخالص وبين الوجود بالقوة؛ فهذا على الرغم من أنه غير موجود، يقع في دائرة الإمكان وينظر الإنسان إليه نظرته إلى شيء سيأتي به المستقبل على وجه من الوجوه.

أما العدم، فهو حقيقة خالية من أنه مضمون، ويستحيل أن يكون في المستقبل بحال من الأحوال، ولا يملك في ذاته ما يعينه على أن يتحقق، أي أن يكون شيئاً ما. وعين هذه التفرقة التي وضعها أرسطو هي التي ترددها اليوم فلسفة الوجود على وجه يختلف قليلاً من ناحية الاصطلاح اللفظي ولا يختلف كثيراً من ناحية المضمون المعنوي.

فالفلسفة الوجودية والفلسفات الحديثة عموماً تضع كلمة الممكن في مقابل الاصطلاح الأرسطي (الوجود بالقوة)، وتضع كلمة الوجود للتعبير عما هو قائم في حدود الأشياء الماثلة أو داخل ضمن الكائنات الحية وكل امتياز للممكن على العدم يتلخص في قدرته على أن يكون، وفي احتوائه على ما يمكن أن يهيئ له الحياة، وفي شموله على المعبر الذي يمكن أن ينقله إلى دائرة الوجود. ولما كان الأمر كذلك بالقياس إليه، فقد صاحب الإنسان عند مواجهته شعور بالإبهام لا يستطيع أن يفسره إلا على أساس من جهله بهذا الشيء - أستغفر الله - بل بهذا اللاشيء. وكلما كان الإنسان في عهد مبكر، وكلما قلت تجاربه وضعفت خبرته كان أقرب إلى هذا الشعور بالجهل. فالوقوف بازاء المجهول من شأنه أن يولد في النفس إحساساً غريباً بتعدد الوجوه التي يمكن أن تتصور فيها الأشياء، وبكثرة الخطط التي يمكن أن تؤدي إليها المسالك، وبقوة الاحتمال فيما هو ممكن غامض. وإذا زاد الجهل بالإمكانيات إلى هذا الحد استشعر الإنسان بالحرية على نحو لا يمكن أن يخايل صاحب المبدأ في المشاكل التي تعرض له، أو صاحب المنهج في المباحث التي يوقف نفسه عليها. فالمبادئ والمناهج لا تأتى إلا من كثرة التجارب ومن اعتياد المضي بالأمور على أنحاء محدودة. أما الجهل بما يترتب على فعل من الأفعال وعدم انتظار نوع بالذات من أنواع الموجودات عقب إتيان أمر من الأمور، فمن شأنه أن يولد في صدر الإنسان ضرباً من الحرية، وطرازاً في الاختيار يندر وقوعه في غير هذه الظروف. فالجهل حليف من حلفاء الحرية لا يمكن إنكار أثره أو إهمال مفعوله عندما نحاول أن نقيم نظرية في الاختيار على أساس نظرية في الوجود.

ونستطيع أن نثبت هذا الشعور بالحرية لدى الجاهل عن طريق الأمثلة: فالأديب الذي يجهل المراجع الهامة في بحثه يكون أكثر حرية في الكلام من الأديب الذي يستوعب كل ما يكون قد قيل أو كتب حول الموضوع الذي يختص به! والسياسي المبتدئ يشعر للحرية برنين لا يمكن أن يطن في أذن السياسي المحنك. . . وقس على هذا المنوال بالنسبة إلى أي شخص في موقف من هذا القبيل، أو عندما يواجه أمراً من الأمور لأول مرة. وليس عبثاً ما كان قد جاء على لسان اسبنوزا في موضوع الحرية من أن الإنسان كلما ازداد علماً ازداد معرفة بالضرورة الحاصلة في الوجود وبالحتمية الضاربة في أنحاء الكون. وتقتصر الفائدة المرجوة من وراء الفلسفة والمعرفة الصحيحة في أنها توقفه على قوانين الأشياء وتجعله قادراً بالتالي على متابعتها ومسايرتها.

وإذا كان من نعمة الجهل علينا أنه يجعلنا ننخدع عن أنفسنا ونحسب أن الحرية ملك أيدينا، وأننا نفعل ما نشاء أن نفعله من غير أن تتدخل قوة في الأرض أو في السماء، فمن بلوائه - في مقابل هذا - انه يملأ قلوبنا بالخوف، وينشئ في نفوسنا ضروباً من القلق، ويبعث في نفوسنا ألواناً من الجزع والهم. وذلك طبيعي ومعقول جداً إذا أنعمنا النظر في الحقيقة الماثلة أمامنا وتبينا فيها ملامح الغموض والإبهام وعدم التعين. فالإنسان في أمثال هذه المواقف يحس بالجزع حينما يواجه عالماً مستسراً غير معلوم لديه وليس داخلاً في نطاق تجاربه الذاتية. ويمكن أن نشبه هذه الحالة بموقف رجل للمرة الأولى أمام الميزان الذي لا يعمل إلا بعد وضع قرش مثقوب فيه. إنه لا شك سيحس بنوع من الخوف على القرش طيلة المد الذي يسبق خروج التذكرة المكتوبة. أما الرجل المتحضر المجرب لمثل هذه الآلة مرات ومرات فلا دخل للجزع في عمله هذا على الإطلاق، ولا يكاد يحس بأي إشفاق على القرش وهو يلقي به من داخل الثقب.

كذلك الأمر بالنسبة إلى الفتى الذي يصوب عينيه نحو الزمن، هو يغض بالممكنات عن طريق المستقبل الغامض المجهول. يمتلكه الذعر ويهزه الخوف على ذلك الشيء الخفي وهو قاب قوسين أو أدنى من العدم. إنه يشرف على حقيقة الوجود وهي في طريقها أن تكون على نحو من الأنحاء لا يعلم مداه ولا يدرك منتهاه. حتى العلم الطبيعي الذي كان مجالا من مجالات الثبات واليقين قد فقد كل الصفات الحتمية والاطراد. فأصبح العالم غير متأكد من خلوص التجارب إلى نفس ما خلت إليه في الماضي على الرغم من توافر كل ما من شأنه أن يكفيها ويهيئها للحدوث على وجه واحد بالذات. فالإنسان عندما يواجه تجربة من أي نوع لأول مرة يكون في خوف من إلا تكون؛ أو أن تكون ولكن على نحو غير الذي يؤمل فيه ويطمح إليه. وقد تتغلب المعرفة أو التجارب الكثيرة على هذا الشعور بالخوف ولكنها لا تقضي عليه قضاء تاماً إلا بعد أن تتدخل العادة. وهي كما قلنا في صدر هذا المقال عدو الحرية الأكبر.

فالعادة من شأنها أن تفسد دلالة الحرية من جانبين: جانب الآلية في إتيان الأعمال وإصدار الحركات، وجانب الشعور بالاطمئنان عند مواجهة المكنونات المستسرة في ضمير الغيب. ويقول رافيسون في كتابه عن العادة إنها توحي - كما توحي الأفعال الغريزية - بالجنوح إلى هدف مقصود من غير ما إرادة أو شعور. وهذا صحيح من ناحية كونه دليلا على خلو العادة من الإحساس أو من البطانة الوجدانية كما يقول علماء النفس. فيصعب أن تقول بوجود أي نوع من أنواع المخاوف وأي ضرب من ضروب المنازع عند أداء الأفعال التعودية. وبناء على ذلك تمحى كل حرية وتزول كل إرادة وتختفي مشابه الاختيار الذاتي، فهذه كلها لا تتوفر إلا حيثما كان الإنسان قادراً على الانفعال لها والاهتمام بشأنها والتوتر من أجلها.

والحرية من شانها أن تبعث في الإنسان ألواناً من الخوف والفزع، لسب بسيط وهو أنها ترتبط ارتباطاً وثيقاً بوجوده ومعاشه. فيكفي أن تتصور أنك صاحب الأمر والنهي في إعداد حياتك وفي تقرير مصيرك وفي تكييف أقدارك حتى تنفجر في رأسك عيون الخوف، وحتى تثور في صدرك عوامل الرعب، وحتى تنتاب جسمك عوارض الحمى. . . فأنا مثلاً أقرر مصيري - ككاتب - على هذه الورقة البسيطة البيضاء تحت عيني وأضع لنفسي قيوداً من الرأي لا أستطيع الفكاك منها حين يأتي المستقبل. وانظر على هذا النحو في حياة الناس وتأمل أفعالهم على ضوء كل من العادة والحرية فتجد أن الأفعال الحرة وحدها هي التي يوازيها على طول الامتداد شعور بالقلق ويحس صاحبها بأنه يأتيها لأول مرة. وذلك لأنها مشدودة إلى كيانه شداً بحيث لا يملك في النهاية إلا أن يخضع لها وأن يكون مأسوراً بها.

والحق أن الأفعال الحرة الواعية لا يزاملها الشعور بالقلق وحده، وإنما يرافقها أيضاً - إلى جانب هذا - إحساس خفي بالهم. ولنضرب لهذا مثلاً بواحد من الناس الذين يملكون الوقت من اجل الذهاب إلى المسرح أو التنزه في الخلاء أو البقاء في البيت أو القيام بزيارة صديق. ولنفرض مقدماً أن هذا الشخص هو بعض الذي يهمهم الوقت ويحسون بعامل الزمن إحساساً قوياً في معاشهم بحيث يضطربون لانقضائه حينما يمضي هباء. سيضطر أولاً إلى عملية الاختيار، وهي عملية قد تكون سهلة عند الإنسان العادي بحكم انصرافه عن التفكير أو بحكم تركه للأمور في أيدي المقادير. أما الشخص الحر الواعي فسيضع أساساً للاختيار وسيعرف في قرارة نفسه بأن ثلاث ساعات متصلة ستضيع من عمره ومن حياته في هذا الفعل البسيط وأنه أقمن به أن يستفيد من بقائه على الأرض على أفضل وجه ممكن ولا شك أن وجوده بأكمله ينقسم إلى جزئيات من هذا القبيل فعنايته بساعة من عمره تضارع عنايته بكل هذه الساعات التي يقضيه على وجه البسيطة. والعالم الخارجي من شانه أن يقدم إليه الإمكانيات حتى يبذل من لدنه ما يحيلها إلى وجود، ويصرف من طاقته الخاصة ما يبعثها من جمودها ويبث فيها الحياة. . . قد تكون المجالات محدودة أمامه، وقد تكون الإمكانيات معدودة عليه! ولكنها مع هذا كله تدع له فرصة للاختيار؛ وفي الاختيار وحده ينحصر وجوده ويتحدد معاشه.

فهناك أنواع كثيرة من الوسائل التي تقدم للإنسان متعاً تلذه ومباهج تريحه وأدوات لتثقيف الذوق وتهذيب الروح. قد تكون هذه الوسائل محدودة في المجتمع الذي نعيش فيه، ولكننا مع ذلك نحكم رأينا ونملي فرديتنا عليها بعملية من الاختيار الواعي؛ وكلما زدنا جهلاً بالمجالات التي يُتيحها لنا المجتمع ارتفعت قيمة الحرية وازداد قدرها. فلو أنني مثلاً لا أعرف غير أربعة وسائل من وسائل التسلية ومن أنواع الملاهي في القاهرة لكان اختياري بنسبة (4: 1) أي أن حريتي حينئذ تساوي الربع. أما إذ كنت أعرف اثنتين فحسب كانت النسبة (2: 1) أي أن حريتي آنئذ تساوي النصف.

وهكذا يحدث عندي الشعور بالقلق من ناحية الاختيار، أما الهم فيتولد عندي إحساس به وأشعر كأنما يثقل على صدري من جراء الأسف على ضياع الإمكانيات الأخرى عندما أحدد رغبتي وأثبت إرادتي على شيء بالذات. فأنا مثلاً عندما أذهب إلى المسرح أحس بالهم من جراء طمعي في أن أحصل على أقصى ما يمكن أن تهبني إياه الحياة. ونتيجة لشهوتي في إحتلاب كل ثانية تمر بي واعتصار كل لحظة تمضي علي وأنا حي أرزق. ولذلك تراني في المسرح مهموماً من أجل تلك الإمكانيات الأخرى (التنزه في الخلاء - البقاء في البيت - زيارة الصديق) التي قتلتها بيدي وأعد منها بمحض إرادتي مع أنها قد تكون أعود علي بالخير من كل ما أنا فيه من استمتاع أو حبور. . . ولكن يكفي بعد هذا أن أحس بأنني قد اخترت وأنا حر من كل قيد، وأن مسئولية هذا الاختيار تقع على عاتقي وأن كل شر يأتي من إرادة أفضل بمئات المرات من أسعد الأوقات التي يمضيها الإنسان عن غير رغبة: أقول يكفي هذا كما أطامن في نفسي من شدة الشعور بالحسرة وأواجه الحياة بقوة وجلد.

وهكذا تقترن الحرية بنوع من المثالية الخالصة ومن الفدائية العصماء فتكسب وجودنا ألواناً من البهجة الخالية من الزيف والبريق، , تسبغ على حياتنا غير قليل من الصراحة وتشعرنا في قرارة أنفسنا أننا في بؤس ولكن عن إرادة، وفي حزن ولكن عن إرادة، وفي هم ولكن باختيار، وفي حزن ولكن برغبتنا. وهكذا نحن نحمي أنفسنا من مرارة الحياة ونرضي غرور الإنسان القوي منا والضعيف.

 .............................

(*) مجلة الرسالة (المصرية)، العدد 854، 14 نوفمبر 1949.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق