الجمعة، 28 سبتمبر 2018


«التحليل النفسي للنار» لباشلار: تعديلات حتى الرمق الأخير
ابراهيم العريس



في الحقيقة أن المرء لن يمكنه أن يدرك الأسباب الحقيقية التي جعلت من كتاب الفيلسوف الفرنسي غاستون باشلار «التحليل النفسي للنار» واحداً من الكتب الفلسفية الأكثر حظوة لدى الشعراء وكل المهتمين بالشعر في العالم، إلا بعد الاطلاع بعمق على هذا الكتاب الذي تُرجم إلى العديد من لغات العالم وقُرئ على نطاق واسع خلال الثمانين عاماً التي مرّت على صدور طبعته الأولى في العام 1938. صحيح أن موضوع الكتاب وتوجهه العلمي فلسفيّ، لكن من الأهمية بمكان هنا الإشارة إلى أنه إنما أتى في الأصل مستوحى من مكتسبات التحليل النفسي الذي كان سيّد كل أنواع التحليل في الحقبة التي اشتغل فيها باشلار على الكتاب. غير أن اللافت في الأمر هو ان مرجعية باشلار هنا لم تكن فرويدية بل يونغية. لكن قراء الكتاب لم يتوقفوا بالتفصيل عند هذه الجزئية بالطبع. كان ما يهمهم هو المنطلق الذي اشتغل عليه الكاتب وفحواه أن «الإنسان يتخيّل أولاً ثم يرى بعد ذلك» وما ينطبق على الإنسان هنا ينطبق بالأحرى على الشعراء. ومن هنا عمد باشلار إلى تصنيف كل ما يشتغل على المخيلة من أحلام وأساطير انطلاقاً من تلك العناصر الأربعة الشهيرة: الهواء، الماء، النار والتراب. ولئن كان باشلار قد وفى بوعوده واشتغل على كل من العناصر على حدة، فإن اشتغاله على النار في هذا الكتاب كان الأكمل والأوضح، وبالتالي الأشدّ جاذبية. وربما لأن للنار رمزينها وسحرها ودلالاتها بما يفوق أياً من العناصر الثلاثة الأخرى.


> في هذا النص البديع والذي يمكن أن يُقرأ كنص شعري، وزّع باشلار موضوع كتابه على ثمانية أقسام رئيسية تضافر كل قسم منها مع شاعر أو رمز شعري ينتمي إلى تاريخ هذا الإبداع بل يلتحم معه. وهكذا مثلاً نراه في القسم الأول يتوقف، وبعد مقدمة تعمّد أن يدعو فيها إلى اتباع الصرامة العلمية في بحث هذا الموضوع، عند موضوعة احترام النار بالإنطلاق مما سماه مركّب برومثيوس (سارق النار المقدسة)، ليلاحظ أن ما يجب أن نعرفه عن النار قبل أي شيء آخر هو أن ليس علينا لمسها! وذلك قبل أن يفيدنا بأن مركّب برومثيوس ليس سوى عقدة أوديب التي تخص العالم الذهني.

> وفي القسم الثاني ينتقل المؤلف من مركّب برومثيوس إلى ذاك المتعلق بإمبدوقلس الذي يذكّرنا بأنه قد رمى نفسه، وفق الأسطورة في فوهة بركان إتنا المشتعل... ما ينقله إلى البحث في سيكولوجية مُشعل النار بعدما درس سيكولوجية سارقها. وهذا ما يتيح له في القسم الثالث أن ينتقل إلى ما يسميه مركّب نوفاليس الذي ارتبطت النار في أشعاره بالحلم والخصوبة. ومنه إلى النار المُجَنْسَنة في علاقتها مع الرغبات غير المستجاب لها باعتبار تلك العلاقة أول ما لاحظه الإنسان الواعي في تاريخه. وإذ يتحول الكاتب في فصل تال إلى دراسة كيمياء النار دراسة علمية خالصة، نجده بعد ذلك يعود إلى علاقتها بالإبداع، وهذه المرة من خلال هوفمان وحكاياته التي تقول لنا ذات لحظة إن «ماء الحياة ليست سوى ماء النار»، كما ينتقل في الفصل السابع، انطلاقاً من هذه الفكرة تحديداً إلى علاقة النار بالطهارة، مايوصله في استنتاجه الأخير إلى القول إن «حلم اليقظة المتعلق بالنار هو الذي يسمح لنا بإبراز أن كل التباسات هذا العنصر، ومنها الوعي بالاحتراق والإحساس بكثافة النار، تتعلق جميعاً بمسألة الألم»، خالصاً إلى أن حلم اليقظة هو وحده القادر حين يكون خلاقاً على تحطيم تلك الآلام الملتبسة، وذلك بالتحديد «لأن المخيّلة هي القوة التي تؤمّن الإنتاج النفسي، للحرية الإيجابية الولود».

> انطلاقاً من مثل هذا النص الذي يمزج بين العلم والشعر، ربما كان الفيلسوف الفرنسي غاستون باشلار، من أحق المفكرين بأن نستعير له الصفة التي كانت تطلق على فيلسوفنا الإسلامي الكبير أبي حيان التوحيدي، وهي أنه «أديب الفلاسفة وفيلسوف الأدباء». فهو في الحقيقة يكاد أن يكون أكثر الفلاسفة شعبية في صفوف الأدباء. ومن المعروف أن نظرياته الفلسفية التي تناولت الطبيعة والإبداع الأدبي والفني والتحليل النفسي قد أثرت في العديد منهم. ومن هنا نجد أن ما يمنعنا من القول إنه كان الأكبر بين الفلاسفة الفرنسيين في النصف الأول من القرن العشرين ليس سوى وجود هنري برغسون في ذلك القرن. فلم يكن غريباً إذن أن تختاره أكاديمية العلوم الأخلاقية والسياسية لعضويتها، وأن يُمنح الجائزة الكبرى القومية للآداب قبل عام من رحيله.

> لقد حقق باشلار خلال حياته، ثم بعد موته بخاصة، مجداً فكرياً كبيراً، وأربى تراثه الفلسفي والفكري بصورة عامة على عشرات الكتب التي قرئت وترجمت على نطاق واسع. ومع هذا كان باشلار عصامياً، تحدّر من أسرة مكافحة، حيث كان أبوه إسكافياً معدماً.

> ولد غاستون باشلار في العام 1884 وتلقى دراسة ابتدائية عادية قبل أن يلتحق بالجامعة منتسباً، حيث راح يقوم بشتى الأعمال والوظائف خلال النهار ويثقف نفسه عند المساء. ولقد مكّنه هذا النشاط الاستثنائي من أن يحوز الإجازة في الرياضيات في العام 1922. وهو بعد ذلك انصرف إلى دراسة الفلسفة وحصل على الدكتوراه في الآداب في 1927، وهو العام نفسه الذي أصدر فيه كتابه «دراسة في المعرفة المقاربة»، الكتاب الذي درس فيه مسألة المعرفة، بوصفها ذات مهمة محددة تكمن في «الاختيار والتدقيق والاستبصار». وعلى الفور تنبّه الباحثون إلى أهمية هذا المفكر الذي يسير على عكس التيار الأكاديمي السائد. لذلك حين عُيّن في العام 1930 أستاذاً للفلسفة كبداية لعمله الجامعي، كان قد أضحى معروفاً لدى الأوساط الفكرية، وكانت أفكاره قد بدأت تلقى رواجاً واهتماماً.

> طبعاً بعد ذلك بكثير كتب عنه لوي ألتوسير قائلاً: «لا يريد باشلار لفلسفة العلوم أن تكون مجرد تدخّل فلسفي في العلم. وهو في هذا يعارض جميع الفلسفات التقليدية التي كانت سائدة وكانت تجعل الهدف من تأملها في العلم احتواء النتائج العلمية لمصلحة المذاهب الفلسفية، واستغلال النتائج العملية، بالتالي، لمصلحة أهداف تبريرية تخرج عن إطار الممارسة العلمية».

> قبل ذلك، وقبل أن يُعتَرَف لباشلار بهذه المكانة، كان عليه أن يصدر المزيد من الكتب وأن يثير المزيد من المناقشات، وأن ينوّع اهتماماته، من الدراسة الأركيولوجية والتحليلية النفسية للفكر العلمي في تطوره (في كتابه «محاولة في التصنيف») إلى كتابته حول فلسفة العلوم وتاريخها في «تكوين الروح العلمي: محاولة في التحليل النفسي للروح الموضوعية»، ثم في «الروح العلمية الجديدة» و «الإيجابية العقلانية في الطبيعيات المعاصرة».

> على رغم أهمية بحوث باشلار في تاريخ العلوم وفلسفتها كما في قضايا الإبستمولوجيا، فإن الأشهر بين كتبه تظل تلك الكتب «الخفيفة» التي تحمل عناوين مثل «التحليل النفسي للنار» الكتاب الذي نقدمه هنا واعتبر دائماً من أكثر كتب هذا الفيلسوف شعبية ولا سيما في أوساط الشعراء من الذين اعتمده بعضهم «إنجيلاً» له؛ و «الماء والأحلام» و «الهواء والأحلام» و «الأرض وأحلام الإرادة» و «الأرض وأحلام السكون»، وهي كلها وضعها بين 1938 و1948، ونالت شعبية كبيرة ومارست، بالإضافة إلى المحاضرات التي كان يلقيها في السوربون خلال تلك الفترة نفسها، تأثيراً كبيراً تعدى إطار الحلقات الجامعية والأكاديمية.

> مهما يكن فإن بإمكاننا أن نقول عن باشلار إنه بعلمه الواسع والعميق، وموضوعيته الصارمة، وعمق تحليله، وإخلاصه في البحث الدائم عن الحقيقة، تمكن من أن يجعل لنفسه مكانة شبه مجمع عليها في الفكر الفرنسي الحديث. وهذا ما جعل مفكراً مثل روجيه غارودي يكتب عنه قائلاً: «في زمن كان فيه التيار الأقوى بين تيارات الفلسفة الفرنسية المعاصرة لا يكف عن المطالبة برفض العلم، كان الفضل الأكبر لغاستون باشلار يكمن في استمراره بالتمسك من دون هوادة بالمأثور العقلاني، متابعاً تطور العلم عن كثب، ولسان حاله الدائم يقول: إن تاريخ العلوم هو تاريخ هزيمة كل مفكر لا عقلاني».

> نذكر أن باشلار ترك كرسيه في السوربون في العام 1955، وكان في أواسط الأربعينات قد عرف كيف يجتذب إلى محاضراته هناك كتّاباً من أمثال إيلوار وكوينو وغيلفيك. وكان من المعروف عنه أنه كان يستيقظ عند الخامسة من صباح كل يوم ليبدأ العمل من فوره. وهو كان يعيد النظر في كتبه على الدوام ويعدلها في الطبعات اللاحقة، كما هي حال كتابه «التحليل النفسي للنار» الذي وضع له صياغة نهائية عام موته.

.......
 (*) الحياة اللندنية 14 سبتمبر 2018

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق