ألكسندر كوجيف وخطاب الرغبة
هند عبدالحليم محفوظ
قدم الفيلسوف الفرنسي – الروسي الأصل ألكسندر كوجيف قراءة
منتظمة لفينومونولوجيا الروح، في سياق إعادة فهم الفلسفة الهيغلية، للحظة انبثاق الفينومونولوجيا
باعتبارها لحظة استثنائية، جعلت من فلسفة هيغل تعبيراً عن روح عصر ينذر بتحولات جذرية
تهم التشكل الكوني للعالم من خلال الكتاب الصادر حديثاً عن دار «رؤية» في القاهرة تحت
عنوان «مدخل لقراءة هيغل» نقله إلى العربية عن الفرنسية الكاتب المغربي والباحث في
الفكر الفلسفي المعاصر عبدالعزيز بومسهولي.
يرى بومسهولي أن الكتاب يوقظ تفكيرنا من استكانته وعجزه عن
التفاعل الخلاق الذي يستهدف استعادة فكر الآخر بهدف الإسهام النقدي والإبداعي للمفاهيم،
أي بهدف الانخراط في فلسفة العالم من جديد، باعتباره شرطاً للكونية التي ترهن علاقتنا
بالوجود. وقد وضع هيغل رؤيته لاكتمال الرؤية الفلسفية عندما يتوافر شرطان هما: جرأة
الحقيقة، والاعتقاد بقوة الروح. وما دام الإنسان روحاً فإن بإمكانه، ومن واجبه؛ أن
يعتبر نفسه جديراً بكل ما هو أكثر سمواً. لقد استطاع كوجيف من خلال قراءته للفينومونولوجيا
أن يجعل من «الرغبة» مفهوماً رئيساً لا يعد فحسب بمثابة المفتاح لفهم هيغل، بل يعد
أيضاً نواة لبلورة نظرية فلسفية حول الرغبة، وهو ما شكَّل تحفيزاً مستفزاً لمتتبعيه
الذين مضوا بعيداً في تطويرهم لهذا المفهوم من دون أن يتطابقوا معه بالضرورة كما هو
الشأن بالنسبة لباتاي، ولاكان اللذين سار كل منهما في اتجاه مضاد لتأويلية كوجيف وللفلسفة
الهيغلية ذاتها.
إن الإنسان وفق كوجيف هو وعي بالذات، وعي بواقعه وكرامته
الإنسانية. وهذا الوعي يحصل في اللحظة التي يتلفظ فيها الإنسان بكلمة «أنا». وفهم أصل
الإنسان لا يتأتى إلا من خلال فهم أصل الأنا المنكشف بواسطة الكلام. ومعنى هذا أن الرغبة
هي المفتاح المركزي لفهم الإنسان بعامة وفهم الفينومونولوجيا بخاصة. تستهدف الرغبة
تحقيق القيمة، وإذا كانت القيمة المرغوبة لدى الحيوان هي حفظ حياته، فإن الإنسان لا
تتحقق قيمته إلا من خلال تعريض حياته للخطر بهدف الاعتراف، فأصل الوعي يكمن في هذا
الخطر ذاته، فالإنسان يتحقق إنسانياً بتعريض حياته للخطر من أجل أن يرضي رغبته الإنسانية
أي رغبته القائمة على رغبة أخرى، من أجل أن يعتبر كقيمة معترف بها. الإنسان كما يقول
كوجيف في تعليقه على نص هيغل: «لا يبلغ استقلاله الحق وحريته الأصيلة، إلا بعد اجتيازه
العبودية، واجتيازه قلق الموت بالعمل المنجز لمصلحة الآخر الذي يجسد بالنسبة إليه هذا
القلق، والعمل المحرر هو إذاً بالضرورة عمل إجباري للعبد الذي يخدم سيداً جباراً مستحوذاً
على كل سلطة واقعية».
معنى هذا أنه إذا كانت الرغبة هي أساس صراع الإنسان ضد أخيه
الإنسان من أجل اعتراف ناقص يكون هو البداية الحقة للتاريخ، فإن هذا الصراع سيغدو صراعاً
بين السيد والعبد من أجل الاعتراف المتبادل والتام الذي سيقفل هذا الصراع ويعلن نهاية
التاريخ. إن هذا التماهي بين الروح والواقع الفعلي، هو إيذان بما بعد نهاية التاريخ
حيث يختفي الصراع عن الوجود، وباختفائه تكون الأبدية قد حسمت نهائياً مع الكائن الإنساني
الذي هو مواطن الدولة المكتملة التي صارت من دون تاريخ، فالمستقبل غدا ماضياً. أما
الحياة فقد أضحت بيولوجية حقاً، وليس هناك إذاً إنسان، لأن الإنسان كروح قد آوى بعد
النهاية الحاسمة إلى الكتاب، وهذا الأخير ليس سوى الأبدية.
ويعتبر فوكوياما أن فشل التفسير الاقتصادي للتاريخ يعيدنا
إلى هيغل، وليس إلى ماركس؛ لأن هيغل يتناول العملية التاريخية في شكل غير اقتصادي تماماً.
وفسر كوجيف ذلك بأن هيغل يمنحنا فرصة لإعادة التفكير بالديموقراطية الليبرالية الحديثة
بتعابير مختلفة عن التعابير المعتادة في الوسط الأنغلو ساكسوني المنبثق عن هوبز ولوك.
إن هيغل على خلاف هذين الأخيرين يعطينا مفهوماً للمجتمع الليبرالي مرتكزاً على الجانب
غير الأناني في الشخصية الإنسانية، وهو يحاول إبقاء هذا الجانب كنواة للمشروع السياسي
الحديث.
كما يرى فوكوياما أن المجتمع الليبرالي الذي يظهر في «نهاية
التاريخ» هو ترتيب متقابل ومتساو بين المواطنين من أجل الاعتراف المتبادل، فالليبرالية
الهيغلية تتابع الاعتراف العقلاني، أي الاعتراف على قاعدة شمولية تصبح فيها كرامة كل
شخص ككائن بشري حر ومستقل، معترفاً بها من الجميع. وفي نهاية المطاف، يبدو لهذا المفهوم
الهيغلي بالنسبة لفوكوياما، تفسير أكثر دقة لما يعانيه الناس في العالم المعاصر عندما
يريدون الحرية والديموقراطية.
ويرى كوجيف أنه طالما أن الصراع من أجل الاعتراف بالكائن
الإنساني توقف عند نهاية الإنسان وموته الذي لا يعني سوى انبعاثه كجسد سيغدو هو هذا
الحاضر ذاته- على رغم تصاعد الأيديولوجيات اليائسة التي تحاول مجدداً النيل من الكينونة
الجسدية غدا هو شكل هذا الحاضر الذي ينبعث داخله كعلة تأسيسية لا تطابق الوجود أو المعرفة
كاكتمال وإنما تطابق الزمان بما هو حمل لجسد الموجود على الانفصال؛ أي على الحاضر كتحقيق
عيني. فالجسد لا يتحقق على نحو التشميل بقدر ما يتحقق على نحو الإفلات، بما هو تجاوز
للميتافيزيقا الأنطولوجية والتيلوجية التي ما تفتأ تمارس احتواء الجسد وإرجاعه إلى
حالة الخضوع للوجود، أو لتلك المعرفة التي تبخس خاصيته الجسدية، وتفرض عليه نوعاً من
الطاعة الإجبارية التي تجد تبريراتها في قواعد الأخلاق الارتكاسية.
ويطرح كوجيف مجموعة من التساؤلات منها: أليست النهاية في
آخر المطاف هي انكشاف الجسد بذاته ولذاته في نهاية الزمان حيث يغدو الحاضر عينه هو
موطن الإنسان الأخير وملاذه؟ أليست الرغبة المشبعة على نحو تام هي تأجيج لرغبات الجسد
المنشغل بذاته على نحو يصير فيه غاية في حد ذاته، منشغلاً بمتعته وسعادته؟ أليست الرغبة
هي الرغبة في الآخر الذي ليس شيئاً آخر في نهاية الزمان سوى الجسد عينه؟
في النهاية تظل قراءة كوجيف لهيغل قراءة مؤسسة لخطاب جديد
حول الرغبة، والكائن الإنساني والوجود، وحول التاريخ.
(*) جريدة الحياة اللندنية، 28 أغسطس 2017
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق