نجيب محفوظ: حوار نادر
الواقع، بالرواية، ضرب من الخيال!
ترجمة: محمد عيد إبراهيم
(*) هذا الحوار أجرته
الصحفية شارلوت الشبراوي،
وقد نقلته عن مجلة (باريس
ريفيو)، العدد 129/
الصادر في صيف 1992
يَدِينُ
نجيب محفوظ بنسبٍ إلى "حافظ نجيب" ـ ذلك اللصّ السجين، مخادع الشرطة
المشهور، ومؤلّف اثنتين وعشرين رواية بوليسية ـ حيث كان أول المؤثّرات الأدبية
عليه. وقد قرأ نجيب محفوظ، في عمر العاشرة، وهو صغير، رواية حافظ نجيب "ابن
جونسون"، بتوصية من زميل دراسة في المرحلة الابتدائية، ولقد غيّرت هذه التجربة،
باعتراف نجيب محفوظ نفسه، مجرى حياته(·).
ثم
صارت لنجيب محفوظ مؤثّرات لاحقة عديدة ومتنوّعة. فقد شغل باله كثيراً، في المدرسة الثانوية، عميد الأدب العربيّ "طه حسين"،
حين أثار عمله النقديّ الثوريّ "في الشعر الجاهليّ(·)" ردّ فعلٍ هستيرياً من الدوائر
الشرعية الدينية بعد نشره في 1926. كما قرأ نجيب محفوظ، في الجامعة، الكاتب "سلامة
موسى"، الذي يحرّر مجلة "المجلة الجديدة"، وهي التي نشرت لنجيب
محفوظ روايته الأولى فيما بعد، وعنه يقول محفوظ إنه تعلّم من سلامة موسى "الإيمان
بالعلم والاشتراكية والتسامح(·)".
لكن
محفوظ انسحب، في السنوات التي تلت الحرب العالمية الثانية، من مُثُله الاشتراكية
إلى نوع من التشاؤم العميق. فكان يقضي كثيراً من وقته مشتبكاً في نقاشات سوداوية
عن الحياة وعدمية الأدب مع زملائه الكتّاب، مثل: "عادل كامل(·)" و"أحمد زكي مخلوف(·)"، في الحديقة التي تحاذي
"كوبري" الجلاء، مما جعلهم يلقّبونها "الجماعة النحس". وفي
الخمسينيات انخرط محفوظ مع الجماعات الصوفية، باحثاً عن أجوبة للمسائل
الميتافيزيقية التي يعالجها العلم. ويبدو أن محفوظ استقرّ، في هذه الأيام، على
فلسفة تجمع بين الاشتراكية العلمية والمسألة الروحانية ـ وهو مزيج سابق على تعريف
الرواية الذي قدّمه في 1945: "الرواية هي فنّ العصر الصناعيّ". وهو ما
يمثّل توليفة لولع الإنسان نحو الوصول إلى الحقيقة وشوقه القديم لعلاقة الحبّ
بالخيال.
ولد
نجيب محفوظ في القاهرة عام 1910، وبدأ الكتابة في سنّ السابعة عشرة، ومنذئذٍ كتب أكثر
من ثلاثين رواية. وإلى أن تقاعد من الخدمة المدنية في الستين، كان يكتب ليلاً، بوقت
فراغه ـ حيث عجز، على رغم كثرة النقد القائل بتوفيقه، عن الارتكان إلى الكتابة
لسدّ حاجاته المعيشية. نشر أول أعماله "عبث الأقدار" في 1939، وهي أولى
سلسلة من ثلاثية حكايات تاريخية وضعها في زمان قدماء المصريين. وكان محفوظ ينوي
أصلاً أن يوسّع من هذه السلسلة لتصبح ثلاثين أو أربعين رواية عن تاريخ مصر على نمط
السير "والتر سكوت(·)"، لكنه هجر المشروع كلياً مستبدلاً
إياه بالعمل على رواياته عن القاهرة المعاصرة، وأولها رواية "خان الخليليّ"،
التي ظهرت في 1945.
على
رغم المديح الكثير الذي ناله نجيب محفوظ في كافّة الأوساط الثقافية العربية، إلا
أنه لم يكتسب شهرته المميزة في مصر إلا بعد نشره "الثلاثية" في 1957.
وتصف هذه الملحمة التي تضمّ ثلاثة آلاف صفحة الحياة عند الطبقة الوسطى بالقاهرة ما
بين الحربين العالميتين، وقد اعتُبرت للتوّ رواية جيله. أصبح نجيب محفوظ معروفاً
خارج مصر في أواخر الستينيات، حين تُرجم عدد من أعماله للإنجليزية والفرنسية
والروسية والألمانية. وفي 1988 أنجز محفوظ الاعتراف العالميّ به، حين نال جائزة
نوبل في الآداب.
وهو
يعيش الآن في ضواحي القاهرة بالجيزة، مع زوجته واثنتين من بناته. ويتجنّب محفوظ دائماً
الظهور العام، خاصة مع الأسئلة التي تدور حول حياته الخاصة، حيث صارت، كما قال
عنها محفوظ "موضوعاً سخيفاً في الصحف والبرامج الإذاعية". أما سلسلة
اللقاءات، التي كوّنت هذا الحوار، فقد عُقدت على التتابع في أيام الثلاثاء، كان كلّ
منها يبدأ بالضبط الساعة الحادية عشرة. وتجلس المحاورة على كرسيّ عند يسار محفوظ،
قرب أُذنه التي يسمع بها جيداً.
محفوظ
شخص محافظ إلى حد ما، لكنه نزيه دائماً ومباشر. يضحك في صراحة، ويلبس بدلة زرقاء
داكنة من موديل قديم، يزرّرها إلى الأعلى. يدخّن، ويحبّ قهوته سادة.
ـ متى
بدأت الكتابة؟
محفوظ:
بدأتُ
الكتابة 1929، وكانت قصصي تُرفض كلها. واعتاد "سلامة موسى" ـ محرّر
"المجلة" أن يقول لي: "أنتَ طاقة كبيرة، لكن لم يأت زمانك بعد(·)". وأذكر جيداً
شهر سبتمبر 1939، فقد كان بداية الحرب العالمية الثانية، حين هاجم هتلر بولندا.
وكانت قصتي "عبث الأقدار" قد نُشرت، كنوع من الهدية المفاجئة من ناشري
"المجلة". وأُعدّه حدثاً مهماً للغاية في مسرى حياتي.
ـ هل تتابعت بعدئذٍ الكتابة وعملية النشر بسهولة؟
محفوظ: لا... مع أنه، بعد هذا النشر الأول، جاءني صديق(·) من الكتّاب،
وأخبرني عن أخيه الذي يملك داراً للنشر. أنشأ لجنة للنشر مع بعض من زملائه
الجامعيين، وأحرز منها نجاحاً محدوداً. وكنا ننشر فيها قصة لي كلّ عام.
ـ لكنك لم تعتمد على كتاباتك لسدّ حاجاتك المعيشية؟
محفوظ: لا. كنتُ دائماً موظفاً بالحكومة. بالعكس، أنا الذي
صرفت على الأدب؛ ـ على الكتب والصحف. لم أكسب مليماً من كتاباتي إلى وقت متأخّر.
نشرتُ قرابة ثمانين قصة مجاناً. حتى رواياتي الأولى نشرتها مجاناً، كلّه لمساعدة
"لجنة النشر للجامعيين".
ـ متى بدأت تكسب من كتاباتك؟
محفوظ: حين تُرجمَت قصصي للإنجليزية والفرنسية
والألمانية. وقد لاقت قصة "الزعبلاوي"، خصوصاً، نجاحاً منقطع النظير
وكسبت منها أكثر من أيّ قصة أخرى(·).
أول رواية تُرجمت لي كانت "زقاق المدق".
ونشر الترجمة لبنانيٌّ اسمه "الخيّاط". ولم أكسب لا أنا ولا المترجم
شيئاً لأن "الخيّاط" خدعنا. وقد نشَرَتها فيما بعد ثانيةً دار
"هينمان" حوالي عام 1970. بعد ذلك تُرجمت للفرنسية، وتبعتها مِن ثَمّ
ترجمات أخرى لأعمالي.
ـ هل لك أن تحكي لنا عن "جماعة الحرافيش"
المشهورة؟ من انضمّ إليها، وكيف تكوّنت؟
محفوظ: تعارفنا في البداية عام 1943: مصطفى محمود، أحمد
بهاء الدين، صلاح جاهين، ومحمد عفيفي. كنا نُدير النقاش عن الفنّ وقضايا السياسة
الجارية. وكلمة "الحرافيش" تعني "قطّاع الطرق" ـ وهي أنماط
توجد على أطراف المظاهرات، وتبدأ السلب والنهب من أول فرصة تسنح لها، هؤلاء هم
الحرافيش. أحمد مظهر (أحد ممثّلي مصر الرائدين) هو مَن أطلق علينا هذا الاسم.
واعتدنا في البداية اللقاء بمنزل محمد عفيفي. وكنا نذهب أحياناً إلى مكان يُدعى
"صحارى سيتي"، قرب الإهرامات. ونذهب الآن إلى بيت المخرج السينمائيّ
توفيق صالح فلديه شرفة في الطابق العاشر، تواجه نهر النيل. بقي منا على قيد الحياة
الآن أربعة أو خمسة.
ـ هل لديك اتصال واسع بأجيال الكتّاب المصريين
الشبّان؟
محفوظ: أعقد مساء كلّ يوم جمعة جلسة في كازينو قصر
النيل، أدعو إليها الكتّاب الجدد. ويحضر كثيرون: شعراء، كتّاب، أنماط أدبية...
وحين لم أعد أعمل لدى الحكومة منذ 1971 أصبح عندي وقت أكبر لأصحابي.
ـ أيّ دور لعبه الموقف السياسيّ السابق على 1952 في
حياتك؟
محفوظ: كنتُ في السابعة تقريباً حين اندلعت ثورة 1919.
وزاد تأثّري بها أكثر فأكثر، كما زاد حماسي لها أكثر فأكثر. كلّ من عرفتهم كان من حزب
الوفد، ولديه الرغبة في التحرّر من الاستعمار. وصرتُ أنخرط أكثر فأكثر في الحياة
السياسية، وفي مريدها المقصود "سعد باشا زغلول". ولا أزال أعتبر ذلك
الانخراط أحد أكثر الأشياء المهمة التي قمت بها في حياتي. لكني لم أعمل قطّ بالسياسة،
ولم أنتسب عضواً إلى أيّ لجنة رسمية أو حزب سياسيّ. ومع أني كنتُ وفدياً، إلا أني
لم أرغب في أن يُعرف عني أني عضو حزبيّ؛ كنتُ أريد (ككاتب) الحرية الكاملة، تلك
التي لن يجدها أبداً أيّ عضو حزبيّ.
ـ وماذا عن 1952؟
محفوظ: كنتُ سعيداً بهذه الثورة. لكن لسوء الحظّ لم
ينجُم عنها أيّ نوع من الديمقراطية.
ـ هل تظنّ أنه لم يحدث أيّ تقدّم نحو الديمقراطية
والحرية، من زمن عبد الناصر والسادات؟
محفوظ: آه، نعم، لا شكّ في ذلك. في زمن عبد الناصر،
كنا نخاف من الحيطان. كان الجميع خائفين. نجلس في المقاهي، وكلنا نخاف من الكلام. ونجلس
في البيوت، وكلنا نخاف من الكلام. كنتُ خائفا من الكلام مع أولادي، عن أيّ شيء مما
صار قبل الثورة: من قلقي أنهم حين يذهبون إلى المدرسة قد يتفوّهون بما قد يُساء
تأويله. لكن السادات جعلنا نحسّ بأمان أكثر. حسني مبارك؟ دستوره غير ديمقراطيّ،
لكنه هو ديمقراطيّ. فنحن نستطيع الآن التعبير عن آرائنا. والصحافة حرة. نستطيع
الجلوس في بيوتنا ونتكلّم بصوت عال، كأننا في إنجلترا. لكن الدستور في حاجة إلى مراجعة.
ـ هل تظنّ الشعب المصريّ مستعدّ للديمقراطية الكاملة؟
هل يفهمون عن حقٍ كيف تعمل آلياتها؟
محفوظ: معظم الناس في مصر الآن يهتمّون بالحصول على
رغيف الخبز ليأكلوه. فقط بعض المتعلّمين يفهم عن حقٍ كيف تعمل آليات الديمقراطية.
لكن لا أحد عنده عائلة، ولديه لحظة واحدة لمناقشة هذا.
ـ هل حدثت لك متاعب كثيرة مع الرقابة؟ هل فُرض عليك أن
تُعيد كتابة أيّ من مخطوطاتك؟
محفوظ: ليس حالياً، لكن أثناء زمن الحرب العالمية الثانية،
روقبت روايتاي "القاهرة الجديدة" و"رادوبيس". كانوا يسمّونني "اليساريّ".
وأطلق الرقباء على "رادوبيس" كلمة "تحريضية"، لأن الشعب فيها
يقتل الملك، وكان ملكنا لا يزال حياً. وفسّرتُ لهم أنها ببساطة حكاية تاريخية،
لكنهم ادّعوا أنها تاريخ مزيّف، حيث أن الملك محلّ التساؤل لم يقتله الشعب بل مات
من وقع "ظروف غامضة".
ـ ألم يعترض الرقباء أيضاً على "أولاد حارتنا(·)"؟
محفوظ: اعترضوا. مع أني كنتُ في ذلك الوقت مسؤولاً عن
الرقابة الفنية، وقد نصحني مدير الرقابة الأدبية بعدم نشر الكتاب في مصر لتفادى
الصراع مع الأزهر ـ وهو المقعد الأساسيّ للإسلام بالقاهرة. ثم نُشرت في بيروت، لكن
مُنعَت من التداول بمصر. كان هذا في 1959، زمان عبد الناصر. ولا يزال الكتاب
محظوراً بيعه. ويقوم الناس بتهريبه إلى هنا.
ـ ماذا كنتَ تقصد بـ "أولاد حارتنا"؟ هل
قصدت أن تكون مستفزّة؟
محفوظ: أردتُ من الكتاب أن يُبيّن أن للعلم مكانة في
المجتمع، كما يفعل أيّ دين جديد، وأن ذلك العلم
ليس في صراع بالضرورة مع القيم الدينية. أردت أن أُقنع القراء أننا لو رفضنا
العلم، فنحن نرفض الإنسان بوجه عام. لكن، لسوء الحظّ، أساء تأويلَها كلُّ من لا
يعرف كيف يقرأ قصة. وعلى رغم أن الكتاب عن الجماعات المنفصلة والقائمين عليها، إلا
أنه تمّ تأويله على أنه يدور عن الأنبياء أنفسهم. وبسبب من هذا التأويل، اعتُبرت
القصة، بشكل طبيعيّ، صادمة، بافتراض أنها تُظهر الأنبياء يمشون حفاةً، ويتصرّفون بشكل
عنيف... لكنها، طبعاً، حكاية رمزية. ومثل هذه الحكايات الرمزية غير غائبة عن
تراثنا. ففي قصة "كليلة ودمنة"، على المثال، الأسد يمثّل السلطان. ولم
يدّع أحد أن المؤلّف حوّل السلطان إلى حيوان! هناك شيء مقصود من هذه القصة... فلا
يجب أن تؤخّذ الحكاية الرمزية حرفياً. للأسف، هناك فقر كبير في الإدراك من جهة بعض
القرّاء.
ما رأيك في حالة سلمان
رشدي؟ هل ترى أنه يجب على الكاتب أن يُعطى الحرية المطلقة؟
محفوظ: سأخبرك بالضبط عما
أفكّر: لكلّ مجتمع تقاليده، وقوانينه، ومعتقداته الدينية، التي يحاول الحفاظ
عليها. ومن وقت لآخر يظهر أفراد يطلبون التغيير. وأظنّ أنه للمجتمع الحقّ في
الدفاع عن نفسه، مثلما للفرد الحقّ في الهجوم على ما لا يتوافق معه. وإن توصّل
كاتب إلى نتيجة مفادها أن لمجتمعه قوانين أو معتقدات لم تعد صالحة، أو حتى ضارة،
فواجبه أن يجهر بكلامه. لكن عليه أيضاً أن يستعدّ لدفع ثمن صراحته. وإن لم يكن مستعداً
لدفع هذا الثمن، فعليه أن يختار أن يظلّ صامتاً. والتاريخ مليء بمَن راحوا إلى السجن،
أو أُحرقوا، من مخاطرتهم الإعلان عن أفكارهم. فالمجتمع يدافع عن نفسه دائماً. وهو
يفعل ذلك، الآن، بشرطته ومحاكمه. إني أدافع عن حرية التعبير، لكني أدافع أيضاً عن
حق المجتمع في مواجهتها. وعليّ أن أدفع ثمن هذا الاختلاف معه. هذه هي الطريقة
الطبيعية للأشياء.
هل قرأت "آيات
شيطانية"؟
محفوظ: لم أقرأها. في وقت
ظهورها، لم أعد قادراً على القراءة جيداً ـ فبصري تدهور كثيراً في الفترة الأخيرة.
لكن الملحق الثقافيّ الأمريكيّ بالإسكندرية وضّح لي الكتاب فصلاً بعد فصل. فوجدتُ
الإهانات فيه غير مقبولة. "سلمان رشدي" يُهين حتى نساء النبيّ! أستطيع، الآن،
أن أناقش الأفكار، لكن ماذا أفعل مع الإهانات؟ الإهانات مسؤولية المحكمة. في الوقت
نفسه، أعتبر موقف "الخمينيّ" بالتوازي خطيراً. فليس من حقه أن ينصّب نفسَه
محكمة ـ وليس هذا مسلكاً إسلامياً. فوفقاً لمبادئ الإسلام، حين يُتّهم امرؤ
بالهرطقة يُخيّر بين التوبة والعقاب. ولم يُمنح "رشدي" هذا الخيار. وسأظلّ
أدافع عن حقّ "رشدي" في أن يكتب ويقول ما يريد، بالتعبير عن أفكاره. لكن
ليس له الحقّ في إهانة أيّ شيء، خاصةً لو كان نبياً، أو أيّ شيء يُعدّ مقدّساً.
ألا توافقينني؟
أتفهّم موقفك... هل يناقش
القرآن الإهانات أو التجديف؟
محفوظ: طبعاً. القرآن وكل
الأمم المتحضّرة تسنّ تشريعات ضدّ الإساءة للأديان.
هل كنتَ متديناً وأنت
صغير؟ هل كنتَ تذهب إلى الجامع مع والدك كلّ يوم جمعة؟
محفوظ: كنتُ متديناً بشكل
خاصّ وأنا صغير. لكن أبي لم يكن يضغط عليّ لأذهب إلى صلاة الجمعة، مع أنه كان يذهب
كلّ أسبوع. ثم بدأتُ، فيما بعد، أحسّ بقوة أنه على الدين أن يكون منفتحاً؛ فالدين
بالعقلية المنغلقة مسبّة. ويبدو أن الاهتمام الزائد بالدين، بالنسبة لي، هو الملاذ
الأخير لمن تُضنيهم الحياة. وأعتبر الدين مهماً للغاية، لكنه أيضاً قد يكون
خطيراً. إن أردتِ أن تحرّكي الناس، فعليك بالبحث عن وجه رقيق، وفي مصر لا شيء
يحرّك الناس كثيراً مثل الدين. فماذا يحفز الفلاّح على العمل؟ الدين. وبسببه، يجب
أن نؤوّل الدين بأسلوب منفتح. عليه أن يتحدّث عن الحبّ وعن الإنسانية. فالدين
مرتبط بالتقدّم والحضارة، لا بالعواطف فقط. ولسوء الحظّ فتأويلات الدين اليوم رجعية
بل ومناقضة لاحتياجات الحضارة.
وما رايك في النساء
اللواتي يغطّين أرؤسهنّ، أو حتى أوجههنّ وأيديهنّ؟ أيعدّ هذا مثالاً على مناقضة
الدين لاحتياجات الحضارة؟
محفوظ: أضحت تغطية الرأس
أناقة، وموضة. لم تعد تعني أكثر من ذلك على الوجه الأغلب. لكني أخاف من المتعصّبين
الدينيين... وهو تطوّر مميت، يناهض الإنسانية كلياً.
هل تصلّي هذه الأيام؟
محفوظ: أحياناً. لكن السنّ
يمنعني حالياً. بيني وبينك، أنا أعتبر الدين سلوكاً إنسانياً جوهرياً. ولا يزال،
الأكثر أهميةً وجلاءً أن يعامل المرء زميله جيداً عن أن يصلّي دائماً ويصوم، ويخبط
رأسه في زميله المصلّي. لم يقصد الله بالدين أن يكون نادياً رياضياً.
هل ذهبت يوماً إلى مكة؟
محفوظ: لا.
هل تريد أن تذهب؟
محفوظ: لا. أكره الزحمة.
كم كان عمرك حين
تزوّجت؟
محفوظ: سبعة وثلاثون أو
ثمانية وثلاثون.
لماذا تأخّرت كثيراً؟
محفوظ: كنتُ مشغولاً
بوظيفتي، وبالكتابة. كنتُ موظّفاً حكومياً في الصباح وكاتباً في المساء. يومي كلّه
ممتلئ. وكنتُ أخاف من الزواج... خاصةً حين رأيتُ إخوتي وأخواتي مشغولين بالأحداث
الاجتماعية، بسبب هذا. ذهبتُ مرة لأزور ناساً ممّن يحبّون استضافة الناس. فتولّد
عندي انطباع أن الحياة الزوجية قد تستنفد وقتي كلّه. ورأيتُ نفسي غارقاً في
الزيارات والحفلات. لا حرية إذن.
ألا ترفض، حتى الآن، حضور
دعوات العشاء وحفلات الاستقبال؟
محفوظ: لم أحضر أبداً هذه
الأحداث. ولم أقم بزيارة أصحابي أبداً. أقابلهم في كازينو قصر النيل، أو في واحد
أو اثنين من المقاهي.
أهذا علّة أنك لم تذهب
إلى السويد لتسلّم جائزة نوبل؟
محفوظ: لا، ليس بالضبط.
كنتُ أحبّ السفر كثيراً وأنا صغير، أما الآن فلم تعد عندي رغبة فيه. فرحلة أسبوعين
قد تُربك أسلوب حياتي.
أظنّ أنك سئلت مرات عدّة عن
ردّ فعلك إزاء نيلك جائزة نوبل. هل كان لديك نوع من المعرفة المسبّقة أنك ستفوز
بها؟
محفوظ: لا، على الإطلاق.
كانت زوجتي تظنّ أني أستحقّها، لكني أتوهّم دائماً أن نوبل جائزة غربية؛ ففكّرتُ
أنهم لا يمكن أن يختاروا كاتباً شرقياً. وسرت شائعة، مع ذلك، بترشيح كاتبين من
العرب: يوسف إدريس وأدونيس.
ألم تكن تعرف أنك
المعنيّ؟
محفوظ: لا. كنتُ في
الأهرام ذلك الصباح. ولو بقيت نصف ساعة أطول لاكتشفتُ الأمر فوراً، لكنني عدتُ
للبيت ورحتُ أتناول الغداء. ثم تواترت الأنباء، عبر وكالات "التيكرز" في
الأهرام، واتّصلوا بالبيت. فأيقظتني زوجتي لتخبرني، لكني اعتقدتُ أنها تمزح وأردتُ
العودة إلى النوم. فأخبرتني أن الأهرام على التليفون. فرفعتُ السمّاعة لأسمع أحدهم
يقول: مبروك! كان السيد باشا. وكان السيد باشا يطلق على مسمعي النكات، فلم آخذ
كلامه مأخذ الجدّ. ذهبتُ إلى غرفة المعيشة، وأنا بالبيجاما، وبمجرّد أن جلستُ رنّ
جرس الباب. دخل أحدهم، واعتقدتُ أنه صحفيٌّ، لكنه أوضح أنه السفير السويديّ!
فاعتذرتُ منه لأقوم بتغيير ملابسي... وهذا كلّ ما حصل.
فلنعد من جديد إلى
كتاباتك: هل تعمل وفقاً لجدول منظّم؟
محفوظ: كنتُ أُخضِعُ نفسي
دائماً عليه. فمن الثامنة إلى الثانية وأنا بالعمل. ومن الرابعة إلى السابعة أكتب.
ومن السابعة إلى العاشرة أقرأ. هذا جدولي اليوميّ، فيما عدا الجمعة. لم يكن عندي
وقت أبداً أقضيه على هواي. لكني توقّفتُ عن الكتابة من حوالي ثلاث سنوات.
كيف تتوصّل إلى شخصيات
وأفكار قصصك؟
محفوظ: فلأضعك في الصورة.
حين تقضين وقتك مع أصحابك، فماذا تحكون؟ هذه الأشياء هي التي تعطيكِ انطباعاً عن
ذلك اليوم، وذلك الأسبوع... وأنا أكتب قصصي بالطريقة نفسها. الأحداث في البيت، في
المدرسة، في العمل، في الشارع، هذه قواعد أيّ قصة. وبعض هذه التجارب تترك لديكِ
انطباعاً عميقاً، فبدلاً من الكلام عنها في النادي أعمل عليها في رواية.
ولنأخذ، مثالاً، حالة
المجرم الذي قتل ثلاثة هنا مؤخّراً. بدأتُ من تلك الحكاية الأساسية، وكان عليّ أن
أواصل لاتّخاذ عدد من القرارات من قبيل: كيف أكتبها. عليّ أن أختار، مثلاً، إن
كنتُ سأكتب القصة من وجهة نظر الزوج، الزوجة، الخادمة، أو المجرم. وقد يقع هواي على
المجرم. هذه أنماط الخيارات التي تجعل القصص تختلف من واحدة لأخرى.
متى تبدأ الكتابة، هل تدع
الكلمات تنساب أم تجهّز ملاحظاتك أولاً؟ وهل تبدأ بطرح محدّد في بالك؟
محفوظ: تأتي قصصي القصيرة
من القلب مباشرة. بالنسبة لأعمالي الأخرى، أبحث أولاً. قبل بداية
"الثلاثية"، على سبيل المثال، قمتُ ببحث مستفيض. وصنّفتُ ملفاً لكلّ
شخصية. وإن لم أفعل لضِعتُ ونسيتُ شيئاً. وقد ينشأ الطرح أحياناً بشكل طبيعيّ
بعيداً عن الأحداث في قصة، وقد آخذ الفكرة أحياناً في بالي قبلما أبدأ. لو عرفتُ
مسبقاً أني أريد تصوير قدرة كائن بشريّ على التغلّب على الصعاب مهما كان الشرّ
الذي قد يمسّه، لصوّرتُ بطلاً قادراً على إظهار تلك الفكرة. لكني أبدأ قصصي عموماً
بالكتابة عن مسلك الشخصية مطوّلا، ثم أسمح للفكرة أن تُبعث منها فيما بعد.
كم مرة تنقّح وتعيد
الكتابة قبل أن تعتبر القصة منتهية؟
محفوظ: أقوم بالمراجعة
مرات ومرات، وأشطب كثيراً، أكتب على الورقة كلّها، حتى من الظهر. وتصحيفاتي أساسية
غالباً. كما أني أُعيد، بعد التنقيح، كتابة القصة قبل أن أُرسلها إلى الناشر. وأخيراً،
أقوم بتمزيق المسودّات وأرميها بعيداً.
ألا تحتفظ بأيّ من
ملاحظاتك؟ يحتفظ كثير من الكتّاب بكلّ كلمة سطّروها! ألا تعتقد أنه أمر شيّق أن
ندرس كيفية سير العملية عند أحد الكتّاب، بتمحيص مراجعاته؟
محفوظ: قد يكون مفيداً،
لكني ببساطة لا أراه طرفاً من أدوار ثقافتي، أن أحتفظ بمسودّاتي. كما أني لم أسمع
عن كاتب يحتفظ بمسودّاته الأولى. ويجب عليّ أن أتخلّص من مراجعاتي ـ وإلا فقد يطفح
بيتي بأوراق لا نفع من ورائها! علاوة على ذلك، خطّي فظيع.
لم تكن القصة القصيرة،
ولا حتى الرواية، جزءاً من التراث الأدبيّ العربيّ. كيف تفسّر توفيقك في هذه
الأنماط؟
محفوظ: نحن الكتّاب العرب
استعرنا المفهوم الحديث للقصة القصيرة والرواية من الغرب، لكنهم الآن يستبطنون
أدبنا الخاصّ. وقد ظهرت في طريقنا ترجمات عديدة، طيلة فترتَي الأربعينيات
والخمسينيات؛ ثم إننا اتّخذنا أسلوبهم ليصبح ببساطة هو الطريقة التي تُكتب بها
القصص. كما استخدمنا الأسلوب الغربيّ للتعبير عن أفكارنا وقصصنا. لكن لا تنسي أن
تراثنا يشمل أعمالاً من قبيل "أيام العرب"، التي تضمّ قصصا ًكثيرة ـ من
بينها "عنترة" و"قيس وليلى" ـ وبالطبع "ألف ليلة
وليلة".
هل يمكن أن تحدّد لنا
أياً من شخوصك؟
محفوظ: "كمال"،
من "الثلاثية"، يمثّل جيلي أنا ـ أفكارنا، خياراتنا، معضلاتنا، وأزماتنا
النفسية ـ ومن هذا المنطلق فشخصيته سيرة ذاتية. لكنه شخص عالميّ في الوقت نفسه.
كما أني أحسّ بالقرب من شخصية "عبد الجوّاد"، الأب... فهو منفتح على
الحياة من كافّة مناحيها، يحبّ أصحابه ولم يؤذ أحداً منهم بدهاء أبداً. يمثّل
الاثنان نصفَي شخصيتي. "عبد الجوّاد" اجتماعيّ، يحبّ الفنّ والموسيقى؛ و"كمال"
مكبوت وخجول، جادّ ومثاليّ.
خلّنا نتكلّم عن مثال
محدّد من كتابتك: "اللص والكلاب". كيف بدأتها؟
محفوظ: استلهمتُ القصة من
لصّ أرعب القاهرة فترةً. كان اسمه "محمود سليمان". حينما خرج من السجن
حاول أن يقتل زوجته ومحاميه. مع ذلك، تمكّنا من الفرار منه دون أن يصيبهما أذىً،
لكنه قُتل أثناء هذه العملية.
هل خدعته زوجته، كما صار
في الرواية؟
محفوظ: لا... أنا خلقتُ
القصة من واقع شخصيته. في ذلك الوقت، كنتُ أعاني من إحساس ملحّ وغريب أنه ستتم
ملاحقتي، وقناعتي الراسخة من أنه تحت ذلك النظام السياسيّ، وقتها، كانت حياتنا من
دون معنىً. ولذلك فإني، حين كتبتُ قصة المجرم، كتبتُ قصتي الخاصّة معها. أصبحت
حكاية الجريمة البسيطة نوعاً من التأمّل الفلسفيّ عن الزمان! أخضعتُ الشخصية
الرئيسية، "سيد مهران"، لكلّ حيرتي وتردّدي. جعلته من خلال التجربة يبحث
عن إجابات لدى "الشيخ"، لدى "الساقطة"، ولدى المثاليّ الذي
خان أفكاره طلباً للمال والشهرة. فالكاتب، كما ترين، ليس صحفياً ببساطة. فهو ينسج
قصة من شكوكه وأسئلته وقيمه هو. وهذا هو الفنّ.
ما رأيك في دور الدين
بالقصة؟ هل الإيمان بالله هو الطريق إلى السعادة القصوى، كما يدلّ "الشيخ"؟
هل الصوفية هي الإجابة التي كان يبحث عنها المجرم؟
محفوظ: "الشيخ"
يرفض الحياة كما نعرفها نحن. أما المجرم، فمن جانب آخر، يسعى إلى حلّ مشاكله
الآنية. هناك عالمان مختلفان. وأنا أحبّ الصوفية كما أحبّ الشِعر الجميل، لكن هذه
ليست الإجابة. فالصوفية مثل الطيف في الصحراء. تقول لكِ: تعالي واجلسي، ارتاحي
وخذي قسطاً من المتعة لنفسك إلى حين. إني أرفض أيّ طريق يرفض الحياة، لكن ليس
أمامي إلا أن أحبّ الصوفية، لأنها تبدو في منتهى الجمال... تمنحنا الراحة وسط
المعركة...
كثير من أصحابي المصريين
يستشيرون شيوخ الصوفية بانتظام، بحثاً عن حلول...
محفوظ: أتمنّى لهم
التوفيق. لكن الحلّ الوحيد لمشاكلهم يكمن في البنك الأهلي.
وماذا عن
"نور"، المرأة التي في القصة؟ وامرأة أخرى مثل "نفيسة" في
"بداية ونهاية"، و"زُهرة" في "ميرامار"؟ فهذه
الشخصيات، مع أنها "ساقطة"، إلا أن طيبتها واضحة، ويبدو أنها قد تجسّد
الأمل الوحيد في المستقبل.
محفوظ: هذا صحيح، مع ذلك
كنتُ أقصد أيضاً من وراء "نفيسة" أن تشرح عواقب السلوك الشائن في
العائلة المصرية النمطية.
هل تتغاضى عن مثل هذا
النوع من العقاب؟
محفوظ: إني، ومعظم
المصريين، نحسّ أن العقاب على ذلك المستوى في منتهى القسوة. لكن من الجانب الآخر،
فالرجل المصريّ الذي لا يتوافق مع الطريقة التي تصرّف بها أخو "نفيسة"
لا يستطيع الاستمرار في الحياة بهذا المجتمع. وسواءً أراد أو لم يرد، فهو ملتزم
بقتل الفتاة المخطئة. لا يستطيع الهرب من هذا. وقد يمرّ وقت طويل قبل أن تتغير هذه
العادة، مع أن قوتها قد تحلّلت إلى حدّ ما في الفترة الأخيرة، خاصّة في المدن.
يجسّد "عبد
الجوّاد" في "الثلاثية" الرجل المصريّ النمطيّ في ذلك الحين. ألا يزال
هذا النمط شائعاً إلى اليوم؟
محفوظ: آه، نعم. خاصّةً
في الصعيد، وضواحي المدن... مع أن "عبد الجوّاد" قد يكون اليوم أقلّ
تطرّفاً. ألا يوجد ظلّ منه في كلّ رجل؟
كلّ رجل مصريّ، أم كلّ
رجل؟
محفوظ: ليس لي أن أتكلّم
عن بلدان أخرى، لكنه صحيح بالتأكيد عن الرجال المصريين.
مع ذلك، يبدو أن الأمور
تتغير، ألا تقول بذلك؟
محفوظ: لقد بدأت الأمور تتغيّر.
وأصبح وضع المرأة داخل المنزل أقوى كثيراً، بفضل التعليم أساساً، على الرغم من
وجود عوامل أخرى.
من برأيك يجب أن تكون له
اليد العليا في المنزل؟ من عليه اتّخاذ القرار؟
محفوظ: الزواج شركة
بطرفين متساويين. لا أحد يحكم فيه بمفرده. ولو حدث خلاف، فالأكثر حنكة من الاثنين
هو الذي عليه أن يهيمن. لكن كلّ عائلة مختلفة عن الأخرى. وتعتمد القوة غالباً على
المال، فمن يملك مالاً أكثر فهو الأقوى. لا توجد قواعد ثابتة.
في مجتمع محافظ جداً،
تقليديّ جداً، مثل مصر، ألا تملك النساء سلطة أكبر على الرجال؟
محفوظ: طبعاً، والتاريخ
الحديث يثبت هذا. فالرجال الذين يملكون قوة كبيرة، سياسية كانت أو عسكرية، يسقطون
بين يدَي نساء قويات يقمن بالتأثير على قراراتهم. وتحكم هذه النساء من خلف الستار،
من وراء الحجاب.
لماذا نرى معظم بطلاتك
النساء من الطبقات الدنيا من المجتمع؟ هل تقصد أن ترمز بهنّ إلى شيء أوسع؟ مصر،
مثلاً؟
محفوظ: لا. بالكتابة عن
نساء الطبقة الدنيا، أقصد ببساطة أن أوضّح أنه، خلال تلك الفترة التي وضعتُ فيها
تلك الروايات، لم تكن للنساء أية حقوق. إن لم تجد المرأة الزوج المناسب أو الطلاق
من زوج سيء، فلا يعود أمامها ثمة أمل. وكانت مصادرها الوحيدة، أحياناً، لسوء الحظّ،
من السلوك غير المشروع. وإلى وقت قريب، حُرمَت النساء كثيراً من بعض حقوقها
الشحيحة... بل حتى الحقوق الأساسية، مثل حرية الاختيار في الزواج والطلاق
والتعليم. أما الآن، فهذه النساء تتعلّم، وهذا الموقف يتغيّر، لأن النساء المتعلّمات
صرن يملكن سلاحاً. وقد يرى بعض النقّاد مصر في رمز "حميدة" في
"زقاق المدقّ"، لكني لم أقصد بتاتاً أيّ شيء من هذا النوع.
ما رأيك في هؤلاء
النقّاد، الذين يقومون بتأويل أعمالك على
هيئة رموز؟
محفوظ: حين سمعتُ في
البداية أن "حميدة" ترمز إلى مصر، انتابتني الدهشة، وحتى صُدمتُ قليلاً.
فارتبتُ في أن النقّاد قد قرّروا ببساطة تحويل كلّ شيء وكلّ واحد إلى رموز. لكني، من
ثم، بدأتُ أرى متشابهات بين جوانب من سلوك "حميدة" وجوانب من الموقف
السياسيّ. وحين انتهيتُ من قراءة المقال، أدركتُ أن الناقد على حقّ ـ فبينما كنتُ
أكتب عن "حميدة"، رحتُ أكتب أيضاً بجدّية فعلاً عن مصر. أظنّ مثل هذه
المتوازيات الرمزية تخرج دائماً من اللاوعي. وبرغم أني ربما لم أنتوِ التبليغ
بالقصة، في أن يكون لها معنىً معينٌ قد يراه القارئ فيها، إلا أن ذلك المعنى تضمّن
مع ذلك جزءاً منطقياً من القصة.
ما الموضوع الأقرب إلى
نفسك؟ الموضوع الذي تحب الكتابة عنه أكثر؟
محفوظ: التحرّر. التحرّر
من الاستعمار، التحرّر من حكم أيّ ملك مستبدّ، وتحرّر الإنسان الأساسيّ في سياق
المجتمع والعائلة. وتتوالى هذه الأنماط من التحرّر من أحدها إلى الآخر. في
"الثلاثية"، مثلاً، بعدما تسببت الثورة في عملية التحرّر السياسيّ، نرى عائلة
"عبد الجوّاد" قد طالبت بالمزيد من التحرّر منه.
ما أصعب موقفٍ حدثَ وواجهته
في حياتك؟
محفوظ: كان أهمها
بالتأكيد هو قراري أن أكرّس نفسي للكتابة، وبالتالي قبول الحدّ الأدنى من المعيشة،
لنفسي وعائلتي. كان موقفاً صعباً، خاصّة وأن البحث عن الفلوس كان يتدلّى أمامي...
وقد مُنحت الفرصة حوالي عام 1947، أن أعمل كاتب سيناريو مع واحد من أفضل كتّابه في
هذا المجال. فبدأتُ العمل مع "صلاح أبو سيف" (مخرج مصريّ سينمائيّ)،
لكني تخلّيتُ عنه. رفضتُ أن أستمرّ. لم أعمل معه مرة ثانيةً إلا بعد الحرب، حين
أصبح كلّ شيء مكلّفاً. قبلها، لم أفكّر في هذا. وقد تقبّلت عائلتي دائماً مثل هذه
التضحيات.
يُعرف عن كثير من الكتّاب
المميزين، خاصّةً في الغرب، ظواهر التفسّخ في حياتهم الخاصّة ـ إفراطهم بالشراب،
استعمال المخدّرات، العادات الجنسية غير العادية، الميل إلى الانتحار... لكنك
مثاليّ على ما يبدو!
محفوظ: إلى حدّ بعيد...
قد يكون هذا أكبر عيوبك؟
محفوظ: هو مأخذ بالتأكيد.
لكنك تحكمين عليّ الآن في وقت خرفي. لكني، في أيام شبابي، فعلتُ هذه الأشياء كلّها
ـ شربتُ، رافقتُ الجنس اللطيف، وغيره.
هل تتفاءل بشأن مستقبل
الشرق الأوسط، خاصّة في ظلّ حرب الخليج والعنف المتنامي؟
محفوظ: من غير اللائق في
سنّي أن أكون متشائماً. وأنت شابة، يمكنكِ أن تعلني أنه لا أمل أمام البشرية، لكن
حين تكبرين، تتعلّمين أن تتجنّبي تشجيع الناس على كراهية العالم.
لكن ماذا عن مفهوم البطل؟
لا يبدو أن هناك أبطالاً بقصصك، ولا في الحقيقة بقصص أيّ كاتب مصريّ معاصر.
محفوظ: هذا صحيح، لا يوجد
أيّ أبطال في معظم قصصي ـ شخصيات فحسب. لماذا؟ لأني أنظر إلى مجتمعنا بعين فاحصة،
فلا أجد شيئاً خارقاً فيمن أراهم. أما الجيل الذي قبلي، والذي تأثّر بثورة 1919، فقد
رأى سلوكاً بطولياً ـ كان العامل قادراً على التغلّب على مصاعب غير طبيعية، أيّ ذلك
النمط من الأبطال. وكان الكتّاب الآخرون؛ مثل: "توفيق الحكيم"، "محمد
حسين هيكل"، "إبراهيم عبد القادر المازني" ـ يكتبون عن أنماط
بطولية. لكن بوجه عام، جيلنا لا مبالٍ والبطل فيه شيء نادر؛ لا يمكن وضع بطل في الرواية
الآن إن لم تكن عملاً خيالياً.
كيف تصف بطلاً؟
محفوظ: هناك أبطال كثيرون
في الأدب العربيّ القديم، كلّهم فرسان ونبلاء. لكن البطل اليوم بالنسبة لي هو مَن
يلتزم بمجموعة من المبادئ والمواقف، ويناصرها بوجه من المقاومة. يحارب الفساد،
وليس له أن يكون انتهازياً، ولديه قاعدة أخلاقية متينة.
هل تعتبر نفسك بطلاً؟
محفوظ: أنا؟
ألستَ نموذجاً، لأولادك
وجمهورك، لأحد يناصر مبادئه في وجه المحن؟
محفوظ: نعم، بالتأكيد.
لكني لم أفكّر في نفسي يوماً على أني بطلٌ.
كيف، إذن، تصف نفسك؟
محفوظ: شخص يحبّ الأدب.
شخص يؤمن بعمله ومخلص لعمله. شخص يحبّ عمله أكثر من الفلوس أو الشهرة. طبعاً، لو جاءت
الفلوس والشهرة، فمرحباً بها! لكنها لم تكن أبداً من أهدافي. لماذا؟ لأني أحبّ
الكتابة أكثر من أيّ شيء عداها. قد يكون أمراً مرضياً، لكني أحسّ أنه من دون الأدب،
ستكون حياتي بلا معنى. قد يكون عندي أصحاب طيبون، سفر، ترف، لكن من دون الأدب، ستكون
حياتي بائسة. هو شيء غريب، لكنه ليس مراءاة لأحد، فمعظم الكتّاب يحسّون بالطريقة
نفسها. ليس هذا معناه أن نقول: إني لم أفعل غير الكتابة في حياتي. فقد تزوّجتُ،
وعندي أولاد. ثم، منذ 1935، أصابتني حساسية في عينَيّ، تمنعني من القراءة أو
الكتابة طيلة الصيف، وقد فرض هذا نوعاً من التوازن في حياتي ـ توازن قد وهبني الله
إياه! ففي كلّ عام عليّ أن أعيش ثلاثة أشهر كإنسان، لا ككاتب. تلك الأشهر الثلاثة،
أقابل فيها أصحابي وأسهر معهم حتى الصباح.
ويُقال إني لم أعش؟
ترجمة: محمد عيد إبراهيم