الخميس، 29 سبتمبر 2016

متى يصير الشعر، حالة حياتية؟

بقلم : سعيد بوخليط


قدر ما تقضي يومياتنا ،جرعات تفوق العقل عقلا،بقدر خضم هذا اليوميات،ربما في أدنى تقييم،فإننا أيضا عطشى عطش البيداء،إلى طراوة وثراء وفتوة وجمالية الجمال،إذا أردنا حقا تأسيس وتكريس إرث ذهبي للأجيال القادمة،لأن أغنى وأبقى ثروة يمكن لشعب امتلاكها،تكمن في ثروة الفرد المشبع بقيم الجمال.
ترياقنا،جمــــــــــــال:جمــــــــــــالمؤسســـــــــــات الدولة،المنزل،الأسرة،الشارع،المدرسة،الجامعة،المقهى،النادي الرياضي . جمــــــــــال في العلاقات،الصداقات،العداوات،التوافقات،الاختلافات . جمــــــال الولادة والنمو بل الموت،مادام أن بشاعة احتضار الحوامل ظلما وعدوانا، عند عتبات مستشفيات وطني،وإقبال الشباب على الانتحار لدواعي اقتصادية ومجتمعية،يراكم فقط حمولة قبح هذا الوجود بما استطعنا إليه،مع أنه يستبطن جمالا لانهائيا.
في كل مرة،نحتفل بأيام سنوية للشعر والحب والمرأة والأم والموسيقى والمسرح،إلخ. هي، أروع الكلمات التي تحويها القواميس اللغوية،باعتبارها لبنات العالم نفسه،بل الحياة عموما.
 من الكائن المنتمي حقا للجنس الآدمي،الذي بوسعه تنفس أوكسجين هواء الأرض،بغير جمال الحب وحب المرأة ومِرآة الشعر الجلية وضمير الموسيقى وتربية المسرح ؟لكن،هل تكرس أعياد من هذا القبيل، بصمة وجودية على مستوى تهذيب حياتنا اليومية.لأنها،صارت مسكوكة معانيها وبروتوكولية قوالبها،يغلب عليها الطابع الشعاراتي الإعلاني،أكثر من كونها تربية للشخص ومن تم الجماعة.لذلك ،فالشعوب التي بلغت شأنا عظيما من التحضر والتمدن،يقاس أمرها بما تنتجه جماليا.
كل مساء،أسبر أغوار آدميتي وأقض مضجعها، متسائلا ومستفهما،تغمرني أسئلة من قبيل :كم عشقت حميميا، وليس من باب الرياء والادعاء،قصائد شعرية؟ليس الشعر، الذي يفصح عنه صاحبه بهذا الوصف،بل شعر يروق ذائقتي الجمالية فأحسه وأشمه وأتحسس أجواء خلقه،وأتذوقه بكلّيتي فيحلق بي بعيدا وأنتشي به.كم، حيز تراثي من السينما؟هل أستهلك، المسرح، كما أستهلك حاجياتي الطبيعية؟كم،من الزمان وقفت طيلة حياتي،متأملا أفيونيا أصباغ اللوحات التشكيلية وخرائطية المنحوتات الفنية؟كم، هي المتاحف التي زرتها؟والسيمفونيات الموسيقية التي شنفت سمعي وجمّلت ذوقي؟ ،فأخلص نحو سؤال لامحيد عنه : كم أسهم جماليا في أنسنة نفسي والآخرين؟مع استدراك شيء مهم، مفاده، أنه على مقاس الشعر،فهذه الروافد الجمالية ليس بمفهومها الكمي المبتذل،وإلا،فالأمر جار،لكن ماأبتغيه يتوخى منظورا فنيا في منحاه النوعي الدقيق،حيث الجمال ذكاء والذكاء شعر.
على ضوء السعي الجمالي الأخاذ والبناء،يقفز إلى المشهد تساؤل جوهري آخر:إلى أي حد نتسامى بواقعنا ،ونحن ندعي الاحتفال مناسباتيا بالجمالي؟بصيغة ثانية،هل مثلا تزايد المطبوعات الشعرية وتنامي الأجيال التي تكتب شعرا،يعكس وضعا عينيا مفاده أننا غدونا كائنات شعرية بيولوجيا وليس لغويا،بخصوص عقولنا، ونفوسنا،ومشتركنا، وأجسادنا، وذواتنا، وآخرنا، وفينا، وفيما بيننا، وأفكارنا، وأحلامنا، وتطلعاتنا.
الشعر،أكثر منه تصنيف ثقافي، وقبله إسقاط للغة فوق بياض ورق،ثم عناوين تؤثث رفوف المكتبات، ويتم ترتيلها خلال الأمسيات والملتقيات،وكونه جوائز وألقاب وأطاريح، إلخ. إنه أولا وأخيرا،حالة وجودية خارقة واستثنائية بكل المقاييس. شعرية الشاعر،ليس في تداول الصفة لدى جماعته أو في الصنعة اللغوية،مادام هو كائن في غاية الطهر والمكابدة على التطهير والبراءة والشفافية والرقة والوداعة والنبل والكرم والسخاء والطيبوبة والشجاعة والحلم بغير الأحلام الصغيرة التي تسعد زيفا الآخرين.
ليس كل من وثق، تدوينا، نسيجا لغويا، بالشاعر، حتى لو بوأته المؤسسة أعلى المراتب،فالحكم في اعتقادي الشخصي مؤجل ومعلق،إلى أن يبرهن الشاعر واقعيا بمواقفه الإنسانية،بأنه ليس كباقي الخلق لأنه يحتويه شاعر في لحمه وعظمه.
هكذا،كثيرا ماتلبسني موجة ضحك،عندما ألاحظ أشخاصا ضمن هذا السياق،يلحون علي وعليك بصفتهم هاته،منافحين عن هوية كونهم شعراء ويختمون دعاويهم بهذه الصفة،ثم مع ذلك يرضون على سموهم الشعري، الانتماء إلى أحزاب مفلسة ومحنطة،فيرددون نفس الأسطوانات التي يتغنى بها أصحاب الحواس المحنطة،ويترقبون مداخل الكراسي الخشبية الميتة ومسالك العطايا،ويتصارعون نحو الواجهات الزائفة،ويكشفون عن مواقف غير تلك الجديرة بالشعراء،حين المواقف النوعية،فيكشفون عن ذات الهواجس الرتيبة لمن لايدعي كهوية شعرا.فأين الشعر، هنا؟
لم أعد أتذكر، من هو الفقيه القانوني، الذي أخبرنا بأن الإنسان يولد بين الألم والدماء،لذلك فماهيته الأصيلة تتجلى في صدق وسلوى الشعر.كما أني،أردد باستمرار مقولة لأحد الشعراء تعجبني كثيرا، مفادها كن بسيطا وموغلا في العمق، مثل شارلي شابلن.

إذن،فأجمل وأعظم قصيدة، من يؤلفها مداد القلب والمشاعر المتوقدة وليس فقط مداد الحبر،فتلج مباشرة القلوب جميعا،مصيبة إياها في مقتل. بالتالي،الشعراء الكبار،هم من أرهفوا السمع لسرائرهم بتلقائية وصدق وعفوية،عاشوا بشعرهم ومن شعرهم وفي شعرهم،فأوجدوا منهجا تقيا لدلالة أن يكون الشاعر سيد واقعه،ثم الواقع شعرا لامتناهيا. 

(*) اللوحة للفنان الهولندي فان جوخ.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق