جيتانجالي
للشاعر الفيلسوف طاغور
بقلم الأستاذ كامل محمود حبيب
جيتنجالي كلمة هندية
بنغالية معناها (القرابين الغنائية) وهي أناشيد صوفية تبلغ 103 نشيد، نظمها طاغور
في البنغالية ثم نقلها بنفسه إلى الإنجليزية، وشهرتها في الأدب العالمي كشهرة
رباعيات الخيام، وهي تمثل الروح العالية على فلسفة طاغور من جهة، والطبيعة الصوفية
المميزة للبوذية من جهة أخرى. وسننشرها كلها مترجمة بقلم الأستاذ كامل محمود حبيب.
- 1 –
أنت خلقتني أبدياً،
تلك مشيئتك. وهذا الحطام الفاني - جسمي - أنت تفرغه مرة ومرة ثم تملأه بالحياة
الغضة
هذا الناي الصغير أنت
علوت به وهبطت، ثم وقَّعت عليه أنغاماً سحرية خالدة، وحين لمست يداك قلبي الضعيف
لمسة إلهية شاع فيه السرور وانبعث منه لحن أخّاذ، وبين يديّ الضعيفتين استقبلت
آلاءك العظمى، والأعوام تتصرم وأنت ما تزال تحبوني وفي قلبي شوق وطمع.
- 2 -
وحين أمرتني أن أرتل
نشيدي خُيِّل إلي أن قلبي يهتز من أثر الفرح والكبرياء معاً؛ ثم رحت أتوضح وجهك
فاغرورقت عيناي بالدموع
كل ما في حياتي من
شدة وضيق يذيبه لحن جميل، وصلواتي تنشر عليّ جناحين رفيقين كما يفعل الطير الطروب
وهو يدف بجناحيه فوق أمواج البحر
أنا أوقن أن أغانيَّ
تطربك، وأني حين أغني أكون في حضرتك
وبرغم أن أغانيّ وهي
تعلو مصعدة تكاد تبلغ قدميك؛ فأنا لا أستطيع أن أصل إليها
لقد غُمّ عليّ حين
سيطرت عليّ نشوة التغريد، فناديتك: يا صديقي؛ وأنت إلهي.
- 3 -
لست أدري كيف ترسل
ألحانك، يا إلهي! وأنا - دائماً أتسمع في لهفة
إن نور موسيقاك يضيء
العالم، وأنفاسها تنقل من سماء إلى سماء، وسَكْبها المقدس يحطم العوائق الصلبة
لينفذ
لقد تعشق قلبي أن
يسمع ألحانك، ولكن عبثاً حاول أن يظفر بصوت. سأتحدث حديثاً لا يحور إلى أغنية. بل
إلى صيحة اليأس. آه إن ألحانك الأبدية قد جذبت إليها قلبي، يا إلهي.
- 4 -
يا روح حياتي سأحفظ -
دائماً - جسمي طاهراً لأنني أعرف أن لمساتك الرفيقة تحوطني
سأحول - دائماً - بين
أفكاري وبين الأكاذيب، لأنك وأنت الحق، بعثت في قلبي شعاع الحق
سأنزع - دائماً - عن
قلبي الرذائل ليظل حبي لك طاهراً فأنت تتربع في قلبي
ثم أجعل همي أن أكشف
أمامك عن كل ما أعمل، لأنك أنت الذي تسبغ عليّ القدرة على العمل.
- 5 -
أنا أسألك لحظة فيها
الرضا أجلس فيها إلى جانبك، وأؤجل ما بين يدي من عمل إلى ما بعد
إن قلبي لا يستقر ولا
يهدأ إن حرمت النظر إلى طلعتك لأغتمر في لجة من العمل المضني. . . لجة لا شاطئ لها
اليوم نفح الصيف أول
زفراته لدى نافذتي، والنحل بين الزهور يرتل أنغامه هذا وقت أجلس فيه بازائك
هادئاً؛ وفي هذا الصمت والفراغ والهدوء، أترنم بأناشيد الحياة المقدسة.
- 6 -
اقطفْ هذه الزهرة
الصغيرة - يا سيدي - وخذها. لا تستأن! فأنا أخشى عليها الذبول والسقوط؛ لعلها لا
تجد مكاناً في بستانك، ولكن شرِّفها بلمسة بنانك، فأنا أخاف أن تنطوي الأيام قبل
أن أستطيع تقديمها لك هدية
إن لوها ليس أخاذا،
وريحها ليس نفاذا؛ ولكن اقطفها فقد يكون فيها النفع. . . اقطفها حين تسنح الفرصة.
- 7 -
لقد نزعت عني لحني
الزخرف، فما فيه برقشة ولا تنميق؛ لأن زخرف القول يفسد ما بيننا، ويحول بيني
وبينك، ورناته تخفي عني همساتك
إن عبارات الصلف في
شعري تتلاشى أمام ناظريك يا إله الشعر. أنا جاثم عند قدميك أريد أن تنفث في حياتي
البساطة والنقاوة كنغم ساحر انبعث من نايك.
- 8 -
إن الطفل الذي تثقله
مطارف الإمارة، وتزينه القلائد الذهبية، لا يجد اللذة في ألعوبته لأنه يرسف في
قيود من ثيابه
وهو ينزوي عن العالم
خشية أن تتلوث أو تتعفر، فهو يخاف كل شيء حتى الحركة
أيتها الأم! لا تثقلي
ابنك بالزينة فهي تحجبه عن تراب الأرض الصحي، وتسلبه من النهج القويم الذي يقوده
إلى البهجة العظمى في حياة الإنسان العامة.
- 9 -
يا لحمق الغبي الذي
يحاول أن يحمل نفسه على كتفيه إن كدّه السير! يا لغفلة الشحاذ الذي يقف أمام باب
داره يستكف
ألق ما أثقلك بين يدي
من لا يثقله أن يحمل كل شيء، ثم لا تلتفت إلى وراء في حسرة
إن أمانيك تطفئ بأنفاسها
نور السراج. حرام أن تأخذ ما ليس لك بيدين آثمتين، ولكن خذ ما أعطيت في قناعة ورضا.
- 10 -
هنا آثار سيرك؛ وهناك
تطمئن قدماك. . . هناك حيث يعيش الفقير والوضيع والضائع
وإذا سجدت لك فجبهتي
لا تبلغ الأعماق حيث تطمئن قدماك بين الفقير والوضيع والضائع
إن الكبرياء لن تبلغ
موطئ قدميك وأنت تتهادى في ثوب من التواضع بين الفقير والوضيع والضائع
إن قلبي لا يجد
السبيل إلى حيث تصحب من لا رفيق له بين الفقير والوضيع والضائع
- 11 -
دع عنك التراتيل
والأغاريد والتسابيح! من الذي تتحنث له في هذا الخلاء المظلم من متعبَّدِك وبابك
مغلق؟ افتح عينيك فلن تجد إلهك أمامك!
إنه هناك عند الفلاح
وهو يعزق الأرض الصلبة، هو عند العامل وهو يحطم الصخور القاسية؛ إنه بازائهما تحت
حرور الشمس ووابل المطر، ولباسه معفر بالتراب. اخلع طيلسانك المقدس واهبط مثله إلى
تراب الأرض
التواكل؟ أين هو
التواكل؟ إن إلهنا نفسه قد أخذ نفسه - في لذة - بأن يتكفل عباده؛ وهو بيننا إلى
الأبد
انزع عنك تأملاتك،
ودع أزهارك وبخورك! ماذا يضيرك إن مزقت ثيابك ولوّثت؟ أخر إليه، وقف بازائه كادحاً
والعرق يرفضُّ من جبينك.
- 12 -
إن سفري بعيد وطريقه
طويل
لقد انطلقت عند أول
شعاع من النور، واندفعت أضطرب في أنحاء العالم الموحش أرى هدْى أمري بين النجوم
والكواكب
إنها مسافة أطول مما
يخيّل إليك، وهي تجربة قاسية تنتهي إلى السهولة. . . إلى لحن
إن المسافر يضطر إلى
أن يقرع كل باب ليتعرف بابه هو، وهو يضرب في أرجاء الأرض ليصل - في النهاية - إلى
المحراب العظيم لقد انطلق بصري يطوق العالم قبل أن أحشدهم وأغلق عليهم الباب ثم
أقول: (هاأنتم هنا؟)
ودوت الصيحة: (أوه!
أين؟) ثم ذابت الصيحة إلى عبرات تتدفق؛ ثم غمر الأرض سيل من الإيمان ينادي (أنا!).
..........................................
ترجمة: كامل محمود حبيب
(*) مجلة الرسالة / العدد 230 / 29/11/1937
(*) مجلة الرسالة / العدد 230 / 29/11/1937
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق