ترجمة : سعيد بوخليط
"حبيبي،اكتب رسائل وابعثها إلي مرتين في
الأسبوع بدل مرة واحدة"
السبت 07 يونيو1947
حبيبي،
تتساقط هذا
الصباح أمطار بكيفية فظيعة،إضافة إلى إضراب يخوضه عمال السكك الحديدية، لذلك
لاأعلم كيف يمكنني العثور على سبيل نحو مسكني القروي الصغير.أحب الذهاب إلى هناك كي أستريح قليلا ثم الانكباب على
الكتابة بعد أيام قضيتها في باريس.عانيتُ ليلة الأربعاء،حينما كتبت لك رسالتي مايشبه
الاكتئاب،وقد صار وضعي حاليا أفضل.بوسعي إذن استئناف العمل ثانية،ويبقى هذا أهم شيء.
لم أكن صائبة
حينما توخيت فورا الشروع ثانية في تدبيج فصول كتابي حول النساء الذي بدأته قبل رحلتي
صوب أمريكا.آنيا،توارى
شغفي بهذا الخصوص،لايمكنني البدء ثانية من حيث توقفت وكأنّ شيئا لم يحدث.سأعود بعد
فترة،إلى مواصلة هذا المشروع،بينما حاليا أود الاهتمام بحكايات سفري(1).لاأريد لتلك المضامين التلاشي،ويلزمني أن أستعيد منها
بعض التفاصيل،على الأقل بكلمات أمام تعذر تحقق ممكن آخر.سأتكلم عن نفسي،و أمريكا؛أرغب في استدعاء عمومية التجربة :''أنا في أمريكا''؛فماذا يعني ''الذهاب"و''الإياب''؟أن تطأ
قدمك بلدا ما؟ومن خلال ذلك المضي نحو''النظر''إلى الأشياء،وتستشف منها حقيقة معينة،إلخ؟
في نفس الوقت أتوخى فهم الأشياء في ذاتها. هل أدركتَ
دلالة ما أود قوله ؟أخشى من عدم إمكانية توضيح تصوري،لكن هذا المشروع يستأثر
باهتمامي كثيرا.
قضيتُ ردحا
من الوقت في باريس.البارحة صباحا اصطحبني سارتر إلى مشاهدة أول نسخة من
فيلم كتب له السيناريو والحوار،في حين أوكلت مهمة إخراجه إلى جان دولانوي(2). أعتقد بأنه
سيكون رائعا.فقد حققت السينما
الفرنسية،مثلما أشرتُ إلى ذلك سابقا، تطورات مهمة لأن المخرجين يحاولون بصدق
التعبير عن حقائق في أفلامهم،وبلورة رؤية أصيلة حول الحياة،كما الشأن بالنسبة
إلينا فيما يتعلق بمضامين كتبنا. يكمن المهم
هنا، في اكتشاف مجمل مضمون الفيلم قبل التوضيب النهائي،لم ينته التصوير بعد،لقد
عايننا العمل في صيغته الخام،وكذا مختلف طرق تصوير مشهد والإشكالات المطوحة عندما يلزمنا
في نهاية المطاف أن نختار.أيضا،تعرفت على أغلب الممثلين،ويظل دائما ممتعا جدا اكتشاف
أبعاد الشخصية السينمائية عند هذا الشاب أو تلك الشابة،اعتدنا على الالتقاء بهم في
مقاهي سان جيرمان دي- بري.
بعد الظهر،نظم
الناشر غاليمار حفلة كوكتيل.لقد كسب مالا وافرا نتيجة استغلاله لكتّاب شباب مغلوب
على أمرهم،ينظم لهم كل أسبوع حفلا من هذا النوع. إنها المرة
الأولى التي ذهبت خلالها إلى هناك؛فصادفتُ مئات الأشخاص يملؤون زوايا الحدائق وكذا
الغرف الواسعة. التقيتُ تقريبا
جل الأصدقاء،الذين افتقدتهم منذ ذهابي،بحيث اتسمت الأجواء بالودِّية والمرح،فاستفسروني
عن أمريكا مثلما أحاطوني علما بآخر تفاصيل اللغط الباريسي.ثم حددنا موعدا آخر مساء.
هكذا وجدتني في
حدود منتصف الليل،داخل مكان أبله لكنه طريف حيث الرقص والشراب من طرف مجموعة
مثقفين فرنسيين شباب،أو كما يزعمون،صحبة فتيات جميلات شبه مثقفات.الفضاء عبارة
عن قبو طويل يوجد تحت حانة صغيرة،يسوده
ظلام نتيجة الطلاء الأحمر لجدرانه وسقفه،مكتظ بطاولات ومقاعد ومئات من الأشخاص
آخذين في الرقص ضمن مساحة حيز يتسع فقط لعشرين فردا.مشاهد تبعث على الضحك فقد ارتدى هؤلاء الفتيان والفتيات ألبسة
بطريقة مدهشة،ذات ألوان كثيرة،يرقصون مثل مجانين؛رغم أن جماجم بعض هؤلاء تطوي فعلا
أدمغة،مثلما بدت ملامح وجوه بعض الفتيات ظريفة جدا.
كانت
الموسيقى جيدة،ويعزفون بطريقة أفضل من أغلب البيض الأمريكيين،وهذا ينمّ لديهم عن
الكثير.أثار انتباهي
أساسا الشاب العازف على آلة البوق(3)،شخص مميز،مهندس
(مجرد مهنة لتوفير مورد لحياته)،كاتب وشغوف بالعزف على آلة البوق رغم معاناته مع
مرض القلب بحيث قد يؤدي إلى موته إن تمادى في العزف. أصدر كتابا
اتسم بمضمون شائن(4)مدعيا بأنه
مجرد مترجم لصفحاته بينما مؤلفه الأصلي ينحدر من السود الأمريكيين،عمل حقق بفضله
ثروة لأن هذا الكتاب المتميز بمضمونه الفاحش و السادي جدا،سيلقى ترحيبا كبيرا من
طرف الجمهور.
طيب،شربنا
قليلا،وتحدثنا كثيرا على إيقاعات نغمات الجاز ومشهد رقص عدد من الأشخاص (فيما
يخصني لا أرقص،فلم أحب قط هذا الأمر)،كانت ليلة رائعة مع أني لاأفكر في الالتقاء
بهم ثانية خلال مدة معينة،ولا أيضا معاشرتهم،مع ذلك أحب معاينة وجودهم في فرنسا، في
باريس، وبأنهم يكتبون ويسمعون للجاز،يتأملون نفس الأزقة وذات السماء التي أتأملها.
أفكر في
مواصلة نمط حياتي طيلة شهر،الذهاب من البادية إلى باريس مرة أو مرتين أسبوعيا،والتقدم
بخصوص تطوير أطروحات كتابي حول أمريكا،ثم الكتابة إليكَ.أنتظر رسالتكَ الرابعة،الاثنين المقبل بالتأكيد.تمنيت قليلا
لو وصلتني هذا الصباح،لكن ذلك غير ممكن.
حبيبي،اكتب
رسائل وابعثها إلي مرتين في الأسبوع بدل مرة واحدة.لقد تحدثتُ للكثيرين عن روايتكَ، فأحدسُ شعورا بمصافحتكَ
والابتسام في محياكَ.
التوقيت
حاليا ظهرا في باريس،الراجح أنت في شيكاغو تسبح،أو خرجت من المسبح وبصدد ارتداء''قميص
الحمَّام''وستتحول وجهة المطبخ ؟أو ربما أنت نائم؟أفضِّل الوضعية الأخيرة حتى
أتمكن من الاقتراب و إيقاظك بقُبلة.
أقبِّلكَ
بحرارة.
سيمون.
*هوامش :
(1)كتاب :''يوميات في أمريكا''.
(2)عنوان
الفيلم :'' les jeux
sont faits''،بمشاركة الممثلين ''ميشلين
بريسلي" و''مارسيلو باجليرو".
(3)المقصود هنا،
الكاتب بوريس فيان .Vian
(4)كتاب : "سأبصق على قبوركم".
*المصدر : رسائل سيمون دو بوفوار، غاليمار،1997 .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق